قراءات نقدية

قراءة في قصيدة بهجت صميدة: العصافير ترفض موتي

mohamad mohamadalsonbatiأولا: القصيدة وهي من مجموعة شعرية تحمل نفس العنوان: العصافيرُ ترفض موتى

وجوهـًا أرى.... ؟!

أم أرى أقنعَةْ ............ ؟!

يـُغـَطـِّى الدُخـَانُ جميعَ الأماكنِ

والريحُ تنفخُ فى النارِ

تحرقُ جثةَ هابيلَ

ترفضُ أن تدفنَهْ

تفرُ الدماء ويبقى اصفرارُ القلوبِ

اصفرارُ العقولِ

ويمضى الجميع مع المرحلَةْ

وتخرج منى العصافيرُ

تطلب أجوبةَ الأسئلَةْ

تطيرُ إلى البحرِ

تسأل أسماكَه الباكيَةْ

ترد بصوتٍ يزلزلُ ما قد تبقى من الأعمدةْ:

وجوهاً أرى.....؟!

أم ارى أقنعةْ ............... ؟!

تحاول أن تتطهرَ من عفنِ الصيفِ

حين تجىءُ إليها الجسومُ

التى كفنت بالسواد ضمائرَها

واستراحتْ على شاطئ الوهمِ

تزرع فى الرمل ملحاً

فتحصد ناراً

وتحسب أن اللهيبَ ضياءْ

تطير العصافيرُ خائفةً للسماءْ

تفتش فى السُّحْبِ عمن يلوث هذا الهواءْ

ترى - رغم بعد المسافةِ -

فى الأرض موتى يسيرونَ

أكفانُهم من جلودٍ

مقابرهم فارهةْ

تفوح روائحهم فى البلادِ

فتجذب كل الطيور ولو كارهةْ

يصيحونَ : جئنا لنحيا

ونحيا

ونحيا

فلا تدفعونا إلى المِقصلةْ

وعيشوا الحياةَ

وقصُّوا الجفونَ إذا حجبتكم عن المرحلة ْ

 

ثانيًا: القراءة

بجملة تقريرية كأنما هي نتيجة صارمة توصل إليها الشاعر بعد طول معاناة وسجلها في السجل المدني وراح يرددها بينه وبين نفسه ويجعل منها عنوانًا لقصيدة ومجموعة شعرية بأكملها. العصافير ترفض موتي. العصافير لن تقبل فكرة موتي. العصافير تقرر أن أظل حيًّا أرزق. حيًّا أضيف. حيًّا أبدع.... الخ الخ

ولكن لماذا يستهل شاعرنا بإبراز شهادة لحياته المؤكدة؟ هل لأن الموت طفق يغطي الآفاق وتهدر عجلاته فوق أدمغة الجميع؟

ندلف إلى القصيدة متوجسين لنرى ونعاين:

يبدأ الشاعر بالوجوه، وجوه الآدميين، وجوه الأحياء من البشر فيقدمهم لا كفاعلين بل كمفعول بهم بفعل رؤيته هو. إنهم لا شيء. هو كل شيء. إنه هو الرائي:

[وجوهًا أرى!]

وإن كان يتشكك حتى في كونها وجوهًا. إنها ربما مسوخٌ. أقنعةٌ. لا حقيقة ظاهرة لها.

[وجوهًا أرى أم أرى أقنعة؟]

ويسكت فلا يخبرنا، وإن كان قد أخبرنا بمجرد السؤال أو التساؤل. أخبرنا أنها في الأغلب الأعم أقنعة لا أكثر.

وبذكاء يتهرب قليلا من إصدار حكم جلي متحججًا بكون الدخان يغطي جميع السكك، جميع الأماكن، جميع السحن فلا تكاد تبين.

أم إن الدخان هو الآخر قناع من الأقنعة يا شاعر؟!

المعنى لديك.

أما الريح فتنفخ في النار تحرق جثة هابيل ترفض أن تدفنه.

ما يزال التمويه سيدَ الموقف.

التمويه بالدخان المنتشر طبقاتٍ فوق طبقات

التمويه بالأقنعة التي تعمِّي على حقيقة البشر

التمويه في مَن تعود عليه الضمائر:

الريح تنفخ في النار تحرق جثة هابيل.

الواضح كون النار هي التي تحرق جثة هابيل

وربما وهذا افتراض أبعد الريح النافخة هي التي تحرق لأنها بنفخها في النار تكتسب صفة الإحراق.

ترفض أن تدفنه

الريح أم النار؟

أم هما معًا؟ اختر ما تشاء وهو صحيح لا غبار عليه، ولكن لا تنسَ في خضم الريح والنار والدخان والوجوه الأقنعة والأقنعة الوجوه أنَّ هناك قتيلا بلا ذنب، قتيلا يرمز إليه الشاعر بهابيل المسكين الذي في غابر الزمان تُقبل منه القربانُ ولم يتقبل من أخيه فكانت النتيجة ميلاد قانون الغاب بين البشر.

[تفرُ الدماء ويبقى اصفرارُ القلوبِ

                     اصفرارُ العقولِ

ويمضى الجميع مع المرحلَةْ]

بهذه السطور الثلاثة يغادر الشاعر جثة هابيل ولو ظاهريًّا ليلتقط صورة بانورامية للمشهد العام؛ فالموت أو ما يضارعه ذهب بالدماء التي هي الحياة النضاحة فماذا تبقى؟ اصفراء القلوب اصفرار العقول

لم يقل اصفرت القلوب اصفرت العقول لأن ذلك يعنى كون الاصفرار تم بعد فرار الدماء، لكن الشاعر وضعنا على حقيقة التلازم بالإضافة فكأن الاصفرار جزء لا يتجزء ولا ينفصم عن تلكم القلوب وتلكم العقول لينفتح المشهد عن "الجميع" ينقادون كجثث طافية فوق سطح أتيًّ هادر لا حول لها ولا قرار.

ذلك هو المشهد العام المؤلم فما هو موقف الشاعر؟

تخرج منه العصافير تزقزق بأسئلتها الباحثة عن إجابات شافية تفسر كل ما يجري وربما تطالب بحلول للقضايا المطروحة.

ولكن...

ألا يجدر بنا أن نأخذ استراحة نتأمل فيها عصافير بهجت صميدة من خلال مجموعته الشعرية؟

1- العصافير التي ألقت عصاها في دمائك

2- العصافير لا تمنح الظالمين الهوى

3- تطير العصافير خائفة للسماء

4- وتخرج مني العصافير تطلب أجوبة الأسئلة

5- تطير العصافير خائفة للسماء

6- تنوح العصافير تسقط منها الدموع على وجنتي

7- جبال الكلام التي كونتها القصائد من نبضات العصافير

8- دموع العصافير تغسل أسناني المتعبة

9- وكل العصافير تبكي وترسم خارطتي من جديد

10- تردد مثل العصافير دوما وجوها أرى

11- تدق بنات العصافير أجراس صبح تغطى بلون الرماد

12- إلى أن أتتني العصافير تسأل عني

13- لفظت نهاري على شاطئ الموت فباضت عليه العصافير

14- ولم يبق غير العصافير تفتح صدري تفتش عنك

15- وقل للعصافير إنا أعدنا الدماء التي بيننا واحتوانا الزمان

16- ويفتح بين سدود الزمان طرائق تنفذ منها العصافير نحو السماء فينشق صدري

17- فتأتي العصافير تغسل أقذار عشرين عاما لدي

18- حتى تطير إليك عصافير قلبي وتقتل كالشمس كل الجراثيم

19- وغني مثلما غنت عصافيري

20- لينبت في ربا عينيك زيتونا ويطلق منهما سربي عصافير

21- فأنبتت شعرا تردده العصافير

22- رأت قمرا تفر إليه أحلام العصافير

23- مزارع الفردوس ترويها عصافيري

24- عصافيرك حتما سوف تبقى تقود جميع أنواع الطيور

يا لها من رحلة ممتعة حقا اصطحبتنا فيها مع عصافيرك يا شاعرنا الجميل

ويا لها من عصافير خلاقة تصنع الأعاجيب وتستنهض الهمم وتستشرف ما وراء التل

وذلك لأنك اختلقت أسطورتك بدلا من ترديد أساطير الأقدمين

وذلك لأنك خلقت عصافيرك من نبضات قلبك طرية زاغبة فإذا بريش أجنحتها ينمو قصائد تموج بها آفاق روحك وإذا بظلال أسرابها تحلق فوقنا وتظللنا برفيف ظلها الناعم

ها هي عصافيرك التواقة للمعرفة السباقة إلى مشارف الحقائق الخبيئة تطير إلى البحر تسأل أسماكه الباكية!!

ومن بإمكانه رؤية بكاء الأسماك غير شاعر حقيقي!

[تردد بصوت يزلزل ما قد تبقى من الأعمدة: وجوها أرى أم أرى أقنعة]

إنه المعبد الذي دمره شمشون الجبار صائحًا: عليَّ وعلى أعدائي!

لكنه والحمد لله لم ينهدم تمامًا

بقيت منه أعمدة يمكن التعويل عليها في إقامة الصرح من جديد

تتزلزل الأعمدة لكنها سريعًا ما تتماسك، أو هكذا يجب أن نقنع أنفسنا.

تحاول أن تتطهر من عفن الصيف

الجميع ينقصهم التطهر من العفن. وعفن الصيف لا يعني كون الصيف متعفنًا وإنما هو في ظن القصيدة فصل للتعفن. واختيار الصيف من أجمل الاختيارات لأنه فصل من فصول السنة تتبعه فصول. هو ليس السنة كلها. معنى ذلك أن التطهر ممكن وقائم رغم كون الجسوم الغبية "كفنت بالسواد ضمائرها"، ورغم رؤية العصافير لجثث "أحياء موتى مقابرهم فارهة"! ويا لها من صفة تستخدم غالبًا لوصف السيارات غالية القيمة مما يجعل الفكر يتجه نحو أغنياء موثرين لكنهم كما تعلم العصافير نقيض ذلك تمامًا. إن جسومهم متحللة. رائحتهم لا تطاق. تجذب الكواسر من الطيور. بل إن الطيور الكواسر ذاتها لا تطيق رائحتهم.

[يصيحونَ : جئنا لنحيا

ونحيا

ونحيا

فلا تدفعونا إلى المِقصلةْ

وعيشوا الحياةَ

وقصُّوا الجفونَ إذا حجبتكم عن المرحلة]

يتحدثون وينقل الشاعر إلينا ما قالوا

وبما قالوا يختتم القصيدة

فيتركنا وجها لوجه أمام هؤلاء الموتى حائرين، بالغي الحيرة، وخاصة لأن الشاعر أخبرنا أن العصافير ترفض موته هو، فكأنما هو تماهى معهم، أو ربما انضم إلى الركب منجرفًا، أو ربما أو ربما... الخ الخ

ولا عزاء للشاعر سوى أن عصافيره رافضة للانهزام رافضة لموته

وهذا الغموض الجميل سمة بارزة من سمات الشعر الجميل الذي يغري بمعاودة القراءة مراتٍ للوقوف ربما على سر أسرار النص.

**

بقي أن أقول إن هذه المجموعة الشعرية التي استعرضت إحدى قصائدها هي الثاني من أعمال شاعرنا الشاب بهجت صميدة الذي أسعد برؤيته على منصة المكتبة العامة بدمنهور يدير الأمسيات الشعرية مشرق الوجه واثق النبرة موفقا في اختيار كلماته المحسوبة بدقة وذوق رفيع. مزيدًا من الإبداع والتوفيق يا شاعر!

 

محمد محمد السنباطي              

 

في المثقف اليوم