قراءات نقدية

إلى يمني سيأتي .. نص الحس الثوري والخطاب الإستشرافي

ahmad alshekhawiنحن إزاء شاعر تطاوعه فكرته فيكون منه أن يلاينها بالمقابل .لا يرتبك أو يجزع في الحالات القصوى لإفلاتها من بين أنامله كونه يعي تمام الوعي أن حدود مرتعها من نسج مخياله لذا فالفكرة لن تخرق مدارات لا نهائية الرؤيا ضمن هذا المرعى أو المرتع،وإن حدث ومانعت فهو، أي الشاعر، على أنقاض ظلال الفكرة المتهالكة وإيحاءاتها يرسم شعريته الطاعنة بلذة التجربة و المازجة بين الحس الثوري والخطاب الإستشرافي غالبا.

لعل من أبرز المغالطات التي لا تغتفر والممكن بسهولة أن يسقط في مخالبها ذوي الرؤية القاصر والفكر المتقوقع و الضيق حد الإختناق،اعتبار ما يطفوــ فجأة ــــ على الساحة من أحداث تاريخية مدوية،محض صدف وليدة العدم منقطعة الجذور بإرث ماضوي معين ومسببات مسبقة، كالهم اليمني على سبيل المثال لا الحصر...

ذات يوم..

وقد ماتَ أَهلُ الوِفاقِ

وأهلُ النِفاقِ

وماتَ الطواغِيتُ

والثائِرُونَ

ومِتُّ أنا..

إن استهلال النص بثيمة الموت يعكس خطورة الموقف ومضاضة الأزمة التي تعيشها البعض من دول المنطقة العربية مالم نقا بأسرها وإن تنوعت أشكال ذلك .

وسر ذلك كمين التعامي على حقيقة مرة مستنسخة ومتمثلة في كون الخريف الثقافي لا يمكن بأي من الأحوال أن يخلّق السياسة ليجعل منها ربيعا ضامنا لعبور الثورات بسلام يجني قطوفه الكل،على نحو يطيح برؤوس الفساد ويعاقب الطواغيت ويلبي تطلعات الشعوب المقهورة والمضطهدة..

لذا نجد صاحب القصيدة التي بين أيدينا، من فرط ما بلغ من احتقان وتشنجات نفسية مصعدة من اختمار المعاناة المشتركة،وكأن الذات الشاعرة هنا تود تمرير رسائل الغضب نيابة عن شعب برمّته.

فاضطر لكشفك أوراق لعبته الكلامية منذ البدء مؤكدا على أن الموت هنا في طرازه هذا، جماعيا وكاسحا يطال الحوثيين كما كل الشرائح والطوائف بدون استثناء.

 

سَوف تَحمِلُ أَوزارَ مَن خَلَّفُوكَ

كَمَا عِشتُ أَحمِلُها

سَوفَ تُدرِكُ مَن خانَ بالأمسِ يَومَكَ

مَن باعَ حُلمَكَ بالوَهمِ

مَن شَرَّدَكْ..

سوفَ تَقرَأُ إنْ شِئتَ هذي السطورَ

وتَشهَدُ أنِّيَ ما خُنتُ يَومًا بلادي

ولا بِعتُها في الفنادِقِ للأدعياءِ

          ..        وللأوصِياءْ

وستَشهَدُ أني

رَبَطتُ أباليسَ جُوعِي بأَمعائِهِم

واستَقَلتُ مِن الماءِ

يومَ ارتَقى ظامِئِي للمَطَرْ

سوفَ تَلعَنُ كُلَّ الذينَ -لأنِّي أُحِبُّكَ- عادَيتُهُمْ

والذينَ استَشاطُوا مِنَ الحُزنِ في نَغمَتي

وبلادي تُساقُ إلى الهاويةْ

سوفَ تَغفِرُ حُزني وإطراقَتي

يَومَ أنْ علَّقُوها بأثدائِها

وهي تَصرُخُ:

لاااا تُرجِعُوني إلى القَبرِ ثانِيَةً أَيُّها الثائرونْ

هي ثيمة الموت في قصدية معاودتها بمنأى عن القالب التكراري الممل، لترصع جسد النص كاملا وتلمح إلى إقحام أجيال الغد التي تشفع لها طفولتها اليوم وتعفيها ربما، من الضلوع في ما من شأنه إيقاف النزيف وكبح جماح سدنة العربدة والخراب والفوضى والترويج للتيارات المتطرفة والأكثر همجية ودموية.

هؤلاء الأبرياء الذين يشملهم خطاب الشاعر، حسبهم اليوم الحياد ولو أنهم بدورهم في كثير من الأحيان يسقطون ضحايا لأجهزة القمع والتعسف والأذرع الإرهابية .

نعم حسبهم تجرع سم الدروس القاسية للتاريخ ،قطرة قطرة،لأن موعدهم في عدة الغيب ،حال يشتد عودهم و يلجون أعمارة المشاركة والمسؤولية،موعدهم بلا شك،مع مغامرات التصحيح والترميم واللملمة لكل ما سيترسب من أخطاء يستحيل طمسها أو محوها من ذاكرة طفولية بريئة تلطخت ولم تعد كما ولدت بيضاء.

هو فعل الخونة البغيض وصولة مصاصة الدماء، اليوم،ذلكم الفعل المسهم شئنا أم أبينا،في رسم ملامح دولة أو اللادولة في الغد. كما هو مستشف من العنونة بالتأكيد/إلى يمني سيأتي...

 

أيُّها الحائِرُ الآنَ بينَ المَطاراتِ

يا مُشرِعًا للضَّيَاعِ مَقالِيدَهُ

أيُّها المُستَغِيثُ المُشَتَّتُ بالذُّلِّ بينَ الأُمَمْ

جُرحُ آبائِكَ الأوَّلِينَ أنا

جئتُ مِثلَكَ

لا قَولَ لي بالمُكوثِ

ولا حَوْلَ لي بالرَّحيلْ

وسَتَبقى

إذا لَم تَكُن أنتَ رُبَّانهَا

سوفَ تَبقى تُصَدِّرُ آهاتِها لِلغَريبِ

و تَستَورِدُ الأوبئَةْ

أيُّها الغارِقُ الآنَ بالحُزنِ و الذُّلِّ

و الفِكرَةِ الشَّارِدَةْ

أيُّها الواقِفُ الآنَ

بينَ "الحِراكِ الجنوبيِّ" و "القاعِدَةْ"

أيُّها اليمنيُّ المُجَعجَعُ

سَلِّمْ عَليكْ

و سَلِّمْ على وَطَنٍ كانَ بالأمسِ في ثورَةٍ

أشرَعَت للرِّياحِ تَلابيبَها

ثُمَّ سَلِّمْ عَلَيّ

الحس الثوري للشاعرالألمعي يحيى الحمادي يصل الذروة في بعض أسطر الوحدة الأخيرة من النص في التزامه بإيقاع داخلي يخدم الثيمة الأساسية . واللغة عادية جدا لكنها منطوية على الكثير من المفارقات وبواعث الدهشة وإشباع الذائقة.

فكون القصيدة أشبه برسالة مشحونة بالخطاب الإستشرافي حسب ما يقتضيه توجيهها وتمريرها إلى الجيل اليمني القادم، لم يكن هناك بد من ميلها إلى التقريرية والمباشرة وندرة التكثيف والصور الشعرية . وكأننا بصدد خطاب سياسي غاضب على مقاس حرج اللحظة وعمق الأز.مة وتفاقم الوضعية الراهنة.

 

وطبعا على شاكلة فياضة بالأحاسيس وبأسلوبية تسهل على أطفال اليمن استيعاب فحوى الرسالة وترعرع المخيال في تملي الظرفية المأساوية حد تعبئة الأكتاف الغضة والمضغ الصغيرة وتحريضها على الثورة كخيار تسبقه تخطيطات محكمة ، بعيدا عن أي تهور أو اندفاع.

وختاما تجدر الإشارة إلى أم سلف ذكره ،مجر إضاءة لبعض جوانب ما وراء ألوان هذا النص الدسم الثائر و الماتع والمعبر.

خاصة وأني استجمعت قواي وأنفاس تحرير مادتي النقدية هذه،تحت ضغط جرحين،وعكة ألمت بي مؤخرا،وجرح شعوب مسحوقة مغلوبة على أمرها وكأن قدرها أن تئن بين مطرقة الأنظمة الديكتاتورية وسندان عمالقة الاتجار في الثورة الواعية المشروعة الهادفة إلى استتباب الأمن والاستقرار والسيادة الترابية وضمان الحرية المنشودة والعدالة والكرامة وما ساير ذلك.

 

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم