قراءات نقدية

مشكلة المكان في الرواية العربية

saleh alrazukتعتبر رواية برهان الخطيب (شقة في شارع أبو نواس) من الأعمال الإشكالية. ليس فقط لطابعها السياسي الجريء في حينه ولكن أيضا لطبيعتها الفنية. وهذا هو ما يهمني.

فالنضوج الفني للرواية رشحها لتكون إحدى أهم الأعمال الرموز والتي حملت أعباء تحريك التصوير الفني للشخصيات بمنطق جيوبوليتيكي.

والعبارة الأخيرة لا تدل على الجغرافيا السياسية، ولكن على انتماء وتوزع الشخصيات. وهذا شيء معروف. وقديم قدم فن الرواية. ابتداء من البيكاريسك (حكايات المتشردين)، وحتى قصص الخيال العلمي التي وسع لها الإطار وزاوية الرؤية اسحق عظيموف وجول فيرن.

وحتى لا نبتعد عن موضوعنا أرى أن شخصيات برهان الخطيب (في هذه الرواية وليس في كل شيء)، حملوا بصمات الشخصية المسرحية.

فهم على خشبة المسرح أمامنا. والراوي الذي يعرف سكناتهم وحركاتهم هو الذي يرفع الستار أو يسدله.

وهذا يعني ضمنا أن مكان الأحداث محدود. وهو شقة على ضفاف دجلة. وأن الشخصيات تتحرك ضمن هذه الشقة فقط ومع ذلك كنا قادرين على الإحاطة.

بمعنى أنهم كانوا قادرين على الإبلاغ.

والفرق بين المفردتين هو مثل الفرق بين المتلقي والمرسل. فالإبلاغ من الكاتب. والإحاطة من ضرورات الخطاب وأسلوبه.

لقد كانت ميزة الرواية في أنها تتابع ثلاث شخصيات لكل منها شريحته ضمن ثلاث غرف في نفس الشقة. يعني هي رواية مكان.

و توجد أمثلة كثيرة على نوع رواية المكان البسيط. المخصص للإيواء والسكن وليس للبذخ والتأثير بطريقة (جين إير). فالبيت المؤلف من طبقات والذي ينطوي على أسرار مرعبة تحدد مصير ومآل الشخصيات غير رواية الشقق والمقاهي.

ومن أهم هذه الروايات يمكن أن نذكر (ليالي عربية) لخيري الذهبي و(الممر) لياسين رفاعية. و(قبل السهرة) لصدقي اسماعيل. وهي كلها تعتمد على الإسقاط والكشف.

ولو لا بد من تصنيفها حسب الموضوعات أرى أنها روايات: أزمة وشخصيات وصراع طبقي.

ففي (ليالي عربية) لاعبون أساسيون لا يمكن لهم أن يستمروا إلا من خلال أزماتهم. فهم يحاولون أن يطيلوا من أمد المشكلة لاستغلال هذا الظرف الاستثنائي في تحقيق التبادل في المواقع، بين الذات وماضيها.

لقد اختار خيري الذهبي تعويم شخصياته فوق إمكانياتها. وبهذه الطريقة لم يفكك المضمون النفسي فقط ولكن فكك معه أيضا المشكلة الاجتماعية العامة التي عصفت بلبنان وأودت به إلى مأزق الحرب الأهلية.

وكانت فكرته بغاية البساطة: أن يجمع شخصياته في شقة للاحتفال بإحدى المناسبات. ثم يحاصرهم باشتباك مفاجئ يتحول إلى مواجهة بين أفراد.

و لذلك مع بداية إطلاق النار تدخل الشخصيات في حوار بيني وحوار آخر مع الذات.

وللأسف غلب على الحوار طابع المداهنة والنفاق. وإضفاء تفاصيل من الخيال. وهذا حول الأزمة التي تدور في الخارج إلى أزمة خلاف مع المكونات.

و أصبح بوسعنا أن نرى أن كل شخصية تعاني من صدوع في ماضيها القريب. فهي لا تعترف بوضعها الوجودي في المجتمع. وتحاول أن تقفز من فوقه بإعمال الذراع الفنية المعروفة: التخيل والاستطراد والاستيهامات أو توليد الصور وتثبيتها في البنية.

و خلال ساعات تحولت تلك الشخصيات الأنيقة والنخبوية إلى صور على سطح مرآة مكسورة. لا هي تستطيع أن تتماسك لتعيش بشكل ظرف أو حال. ولا يمكنها أن تقر بالعطب الذي تعاني منه والذي يشبه مشكلة الجسم المفقود. حيث تكون الذات متعددة والموضوع متوحد.

وعند هذه النقطة من التأزيم تفقد السيطرة على النفس وتدخل في تحولات ليست أقل رعبا وتشاؤما من تحول غريغور سامسا بطل (المسخ) في رواية كافكا من إنسان يعمل في بنك إلى حشرة مقززة تتسبب للعائلة بالمهانة والعجز.

***

و هذا هو نفس أسلوب صعود فكرة (الممر) لياسين رفاعية. فالشخصيات تجتمع في صالة من بناية حديثة وبسيطة. من النوع الذي نقول عنه العلب أو المستطيلات الإسمنتية. ويحجزها اشتباك. أو أنه يفرض عليها تحديد الإقامة لفترة لا تعلم نهايتها.

و هنا نقطة النور التي تجذب فراشات (الممر).

لقد سقطوا في الشرنقة. وعدم معرفة توقيت نهاية الوضع الوجودي. الاحتجاز أو أن يكونوا أحرارا بمفهوم مشروط لو استعملنا لغة سارتر هو الذي يحدو بهم للبحث عن مخرج.

و ميزة هذه الرواية هي في خلافات الأنا الأعلى. فالشخصيات لها هويات طائفية متنازعة. وبالتالي أكثر من أنا أعلى واحد.

وكل منها يعكس أزمة اختلاف.

إن هذه الرواية كما يبدو لي تحمل أعراض فكر ياسين رفاعية إجمالا. فهو مهتم بالإنسان الذي تهزمه آلية مجتمعه. وبتعبير آخر إنه لا يستطيع أن يلبي حاجات وعيه بنفسه.

فلا فنيا يستطيع الاستمرار من حيث انتهى الرواد الذين سبقوه. ولا معنويا قادر على حمل نفس الرسالة.

و مثل هذا التردد فرض عليه الدخول في دوامة الوعي. إنه وعي أو تصنيف طارد. ما أن تتصالح مع موضعك حتى تبدأ أزمة مع غيرك.

لقد كانت شخصيات (الممر)، مثل كل أعماله، تجربة مضاعفة مع الماضي والذاكرة. فهي تتخلص من الأعباء والقيود الثقيلة المفروضة من جيل الرواد. وتبدأ من منعطف الحداثة.

بمعنى أنها لا تحاول تفتيت وحدات الحبكة ولكنها تفتت وحدات البنية. وفي نفس الوقت تدخل في لعبة جبران خليل جبران الذي لم يعرف كيف يتصالح مع المؤسسة واضطر إلى الهرب منها بطريقتين: حرق المراحل. يعني إلغاء الانتقال التدريجي في الأشكال. وسلسلة الإزاحة. وهذا تعبير يستعمله النقد الفني للإشارة إلى القفز من فوق الصور والانطباعات إلى الرموز. وهكذا تحول (الممر) المعتم في روايته إلى عقدة من المعاني.

***

و هذا هو مكمن الفرق بين النماذح السابقة وقصة صدقي اسماعيل التي ترقى لأن تكون رواية قصيرة.

فهي ترسم مصائر ثلاث شخصيات. وأغرب ما فيهم النزاع الذي يدور في السر على المكاسب وانتهاز الفرص. فهم كما يرسمهم الكاتب بقلمه الساخر: نرجسيون. يكتنفهم الغموض وعدم الشفافية في المقاصد. وأكاد أقول يرى أنهم يحملون عار النازية في التعمية على مصير الأفراد. بمعنى آخر هم يقدمون لك صورة عاكسة لمشكلة تأجيل الإنفاذ ( اللامصير كما يسميها إيميري كورتيز بالحرف الواحد).

و لكنهم مع تطوير الأزمة ينبلجون مثل الشمس، ويتكاتفون ضد عدوهم الطبقي، وهو هنا خادمة مسكينة قامت على خدمتهم خلال سهرة ماجنة جمعتهم في شقة سكنية.

ولا شك أن رواية صدقي اسماعيل مختلفة عن سابقاتها. فهي مكتوبة بقلم نقد اجتماعي لاذع مشحون بعبارات الصراع الطبقي التي تنم عن وعي متأزم وخلافي في المجتمع، وقوامه أبناء الموسرين.

وهذا رشحها لتكون دراسة في النموذج. ولكن مع غياب تام لصوت الأنا الأعلى.

كانت كل شخصية تتكلم بطلاقة وبلسان معطياتها. ولم تكرر أية شخصية نفسها تحت عدة أسماء. وهذا لم يضمن للرواية تعدد المحاور وحسب ولكن توسيع الحبكة المفتوحة.

و يجب أن لا ننسى أنه اختار البداية بجريمة. تبعه تحقيق. وهذا يعني أنه كان يهتم بالماضي، ويروي الأحداث باستعمال ضمير الغائب. وهنا مكمن المفارقة. أن تعيش حياتك كأنك غير مشارك فيها. يعني بلا روابط خارج أفعال الذاكرة أو الصور الاستلابية

و فيما أرى لا يوجد في قصة السبعينات من تمكن ببراعة صدقي اسماعيل أن يحول كل حكاية في أية قصة إلى قضية. وهي قضايا مفقودة. تحمل إشكالية أسلوب تطويرها الغامض. فلا ذات الشخصية تفهم قانون ديالكتيك المجتمع. ولا هي تقبل بالشروط المفروضة. ولذلك تعلو كل مشكلة فوق الأسباب. وهذا يفتح الباب لحوارات بيزنطية وفوق طبيعية. وأهمها ما تجده في أنضج أعماله (الله والفقر) قصة أسعد الوراق الذي لا يوجد له مضمون. ولكن يضطر لأن يحمل تفاصيل حياته كأداة من أدوات التعذيب. كما فرض على السيد المسيح أن يحمل صليبه ويسير به.

في كل نماذج (قبل السهرة) تجد هذه الإشكالية. ضرورة التحويل من الآخر إلى الأنا من خلال وعي الأزمة.

وهكذا يقفز كل شخص من حفرته إلى حفرة غيره. ولا يكتفي بفك ألغاز ومعميات خطاياه ولكن ألغاز الآخرين التي تتراكم فوقه.

***

و كما أعتقد إن قصة سارتر (الغرفة) تستطيع تلخيص كل أوهام ومخاوف النماذج السابقة. فهي قصة عن رهاب الأماكن الضيقة. وعن الصراع المرير الذي يشنه الإنسان ضد شروطه. وبالتالي ضد مبدأ احتجاز الإرادة لو نظرنا إليها كشرط مسبق يحد من حرية المفاهيم وانطلاقها.

فالإنسان لا يكون حرا لو أنه في حالة وعي لدراما الإرادة. وغالبا ترتبط الحرية بالتماهي وليس بالمسؤولية. وكلما طالب الإنسان بحريته زاد وعيه بالشقاء المفروض عليه. وكما يؤكد سارتر في معظم أدبياته. لا يمكن للموجود أن يطالب بشيء هو ماهية له. فالماهية يعني انتفاء لعزل الإرادة عن الالتزام بتحقيقها.

و بتعبير آخر حالة الوعي بالمطالبة ولا سيما الحق الذي يؤخذ ولا يعطى يدل ضمنا على منع أو حرمان. وهذه هي مشكلة شخصياته.

إنها تضطر للخروج من الشرنقة التي تحتمي بها لتحترق بالوعي الموضوعي أو وعي ما ليس بشيء في ذاته.

و لمزيد من التوضيح. إن حروب سارتر موجهة ضد موانع جوهرية. تمنع الإنسان من أن يتمدد في فضائه الشخصي. وهو فضاء كليات. ويمكن التعبير عنه بمفردات لها معنى موضوع: كالحرية والبلوغ والاختيار وما إلى ذلك. بينما في هذه النماذج هي جزء من دراما الهوية والرغبات.

وعليه إن قصة سارتر تتكلم عن موضوع له معنى قضية. بينما في هذه الروايات نماذج وهويات وعدة قضايا. وهي تعبير عن مكان حاضن لأزمنة متجاورة.

***

وبالعودة إلى رواية برهان الخطيب والتي بدأنا بها لا أجد أي نوع من التطابق سوى رمز الشقة. فهي الوطن. ومشاكله. والحمولات التي نسقطها عليه.

والشقق والمساكن ذات الطابع البورجوازي الصغير غالبا لها بنية محارة. أو علبة أسرار. وبقليل من التساهل رحم. حيث يجري المخاض. مع ما يتضمنه من مكابدة وشقاء وتألم. ثم لو تابعنا مع هذه المتوالية نصل إلى أن الشقة هي الأرض بعلاقاتها الرحمانية مع ساكنيها.

و مع ذلك إن هذه الرواية لا تنفرد وحدها في التعمية على المشاكل بفرض تحديد الإقامة. وإنما يوجد مثال نموذجي شديد التشابه وهو (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ.

فالروايتان تجمعان نماذج لشخصيات ذات انتماء له محددات نوعية. وكلتاهما تختبران مفهوم الثابت بمنظور متحولات لا يد لنا في توجيهها.

و مع أن الشقة تستقر على اليابسة فهي على ضفاف دجلة. حيث يمكنك أن ترى مياهه تنساب في تيار لا يعرف التوقف. وتيارات الأنهار في الأدب رمز لمجرى التاريخ. أو حركة المحور الأفقي الذي يدل على الزمان بوجه المطلق أو الحقبة لو أن الحديث يتناول موضوعة المراحل.

بينما العوامة تقف في المياه الرقيقة وليس بعيدا عن الأمواج العاتية.

وفي الحالتين لكل شخصية حكاية مع محنة ذات طابع وجود سياسي. فمن لم يتورط بالعمل في السياسة كان ناقلا لحالة الفوضى والسخط. أو لعوامل تاريخنا المضطرب. والغاية ليس تسييس هذه النماذج المبكية التي تستحق ذرف الدموع على هشاشة موقفها من المأساة الخاصة والعامة ولكن تفريغ السياسة من المضمون.

إنها تتحول إلى دوائر من العبث الأعمى الذي مع كل دقيقة تمر يفاقم من الإحساس باللاجدوى.

 

صالح الرزوق

في المثقف اليوم