قراءات نقدية

أبو نواس كبش فداء لشهواتنا الآثمة (2)

ترى لما لم يظهر التغزل بالمذكر وعلى أوسع نطاقاته إلا مع العصر العباسي؟. إن هذا ليستوقفنا قليلا إن الجاحظ ليخبرنا بأن دولة بني مروان عربية أعرابية في حين أن دولة بني العباس أعجمية خراسانية. ونحن كلنا نعلم أن أبا نواس لم يكن عربي الأصول بل هو من بلاد الأهواز في جنوب غرب إيران. ولذلك فهو لما نزل بغداد نزل بعقلية الفارسي لا بعقلية العربي حتى وإن كان دينه الإسلام. ونحن كلنا ندرك أنه وفي هذه الفترة قد حدثت ثورة تجديدية في ما يخص الشعر من حيث هيكل القصيدة ومن حيث المواضيع. حيث أن بعض المواضيع التي كان يتناولها الشعر الجاهلي لم تعد تروق لشعراء العصر العباسي، فأدخلوا مواضيعا جديدة كان من بينها التغزل بالغلمان. وكلنا نعلم أن الفرس قد أخذوا هذه العادة عن اليونان في فترات سابقة من التاريخ. فلما كانوا هم عماد الدولة العباسية فقد انعكست ثقافتهم في الحياة اليومية لها. ولا أدل على هذا احتفال الخلفاء قبل العوام بالأعياد الفارسية القديمة وعلى رأسها عيد النيروز.

كما أن ما يحكى من قصص عن أبي نواس فظاهر فيها التكلف والتصنع. كما أن بعض القصص والنوادر التي يُـحكى أنه قد جرت بينه وبين هارون الرشيد تافهة ولا يعقل أبدا أن هارون الرشيد صاحب العقل الراجح ينزل إلى مثل تلك الحكايات التافهة. ويمكن تفسير كل هذا باختلاق الحكايات ووضع الأشعار على ألسن الشعراء الكبار. فكم من أنساب أختلقت وكم من أشعار وضعت. وإن الذي تجرأ ووضع الأحاديث النبوية التي لم يقلها نبي الإسلام محمد ص يستطيع أن يتقول على أبي نواس وكما يشاء. وإن الذي أجاب قريش عندما سألته أيهما أفضل أدينها أم دين محمد وأجاب بل دينكم أفضل ليستطيع أن يزور وينحل الشعر ويقــَوِّل الناس ما لم يقولوه. وما كان أبو نواس ببعيد عن مثل هؤلاء خصوصا وأن المعركة بين الدين الجديد وخصومه قد كانت على أشدها وكل الأسلحة مباحة الشريفة والقذرة منها على حد سواء. ومن بينها كان أسلوب الدعاية وفي باب التشنيع على الدين الجديد تتدخل الدعاية للشعر الذي قيل أنه قد قيل من شعراء عظام أمثال أبي نواس. ولهذا يجب علينا أن نقوم بعملية غربلة لما خلفه أبو نواس لنعرف ما ألصق به ظلما مما قاله هو حقيقة. نعم إن العملية جد متعبة ولكن ما سينتج عنها سيخرس الكثير من الألسنة. وفائدته ستكون أضعاف ذلك التعب من حيث الفائدة التي سترجع على الجميع ومن دون استثناء، ويكفيها فخرا من أنها ستنصف الرجل في قبره وستبرؤه من تهمة هو بريء منها لا محالة. ويكفي أنه وفي هذا الجو المملوء بالدعاية والدعاية المضادة يمكن أن يتسلل الغريب من الأقوال ويجد طريقه إلى عامة الناس. كما يكفي أن نعرف اليوم بأن الخمر التي كثيرا ما تذكر إذا ما ذكرت مجالس الرشيد وأبي نواس لم تكن الخمر المعروفة اليوم، بل هي النبيذ الغير مسكر، ذلك أن فقهاء العراق لا يحرمونها. ومن هنا تسقط الكثير من الأفكار التي كنا نؤمن بها في ما مضي وكأنها مسلمات. وكما راجعنا معلوماتنا في ما يخص خمرة الرشيد التي تبين أنها ليست بالخمرة فعلينا كذلك أن نراجع ونصحح معلوماتنا عن شذوذ أبي نواس المزعوم.

إن اختلاق تلك القصص ووضع تلك الأشعار على لسان أبي نواس أو غيره، هي قد تمت من قبل فئة تريد الوصول إلى غاية محددة. ولكنها لا تملك الجرأة على قول رأيها صراحة، ولهذا نجدها تتخفي وراء أبي نواس. وهذا مثلما يفعل من يضعون القصص على لسان الحيوانات، وهي في الأصل موجهة إلى نقد الحكام مثلا أو المجتمع. وبما أن العصر عصر منتفعين واضطرابات واختلاط الحابل بالنابل، ويصعب فيها التمييز فلما لا تستغل الفرصة ويوضع على لسان أبي نواس ما يريد الغير قوله، ونسبه إليه طالما هو قد مات ولن يستطيع أحدا محاسبته.

ونحن هنا لا ندافع على أبي نواس أو نحاول أن ندفع عنه تهمة الشذوذ الجنسي. فلدينا من الشجاعة أن نقول للأعور بأنه أعور ولن نكذب عليه ونقول له بأنه يبصر ككل الناس. فالرجل اليوم في ذمة التاريخ، ولكن نحن فقط نريد الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. ونحن نرفض أن يظلم الرجل في قبره وأن يتخذ البعض منه سلما للوصول إلى غاياته وهذا عبر تقويل الرجل ما لم يقل. وهكذا وعندما نقرأ ما ينسب له من شعر يتغزل فيه بالمذكر نحكم على الرجل بأنه شاذ جنسيا. وعندما نقرأ شعره في التغزل بمحبوبته جنان نحكم عليه بأنه مع الجنس الطبيعي السوي، وهنا نحن أمام مشكلة حلها يكمن في ما قاله هو وهذا حينما قال: " ما فتحتُ سروالي في حرام أبدا ". وبهذا تحل هذه الإشكالية. أما الأقوال التي تتحدث عن إشاعة شذوذه في كتب التراث والتي كلها كـُتبت بعد وفاته فهي شهادات لا يعتد بها كلها طالما هي غير صادرة عنه. وإنما عن غيره مما يفتح باب الأقاويل، خاصة وأنه لم يأت ذكر لمفردات تعبر عن المضاجعة مثل نزع ثيابه أو نزعت ثيابي أو هم بي أو هممت به أو استلقينا على الفراش أو عانقته وعانقني أو قبلته أو قبلني أو ركبته أو نام معي. ولا أحد يقول أنه كان خائفا من المتابعة فالذي يتهتك ويسخر ويستهزأ بالدين لا نظن أبد بأنه يعرف الخوف أو لا يقيم وزنا لما قد يترتب عما يقول. وكذلك لا نظنه أقل شجاعة من الذين كتبوا في الجنس في ذلك العصر وبكل صراحة.

ثم إن أبا نواس كان رجلا متزوجا وعليه مسؤوليات فهو يقول أنه مر مع أصحابه على خمارة يهودي وكانوا ينوون قضاء بعض الوقت فيها. فإذا بهم يبقون شهرا كاملا أيعقل هذا الكلام، لئن كان يقضي في كل حانة أسبوعا أو شهرا ماذا بقي له من وقت ليعيش باقي حياته مع أسرته وعمله ومنادمته للخلفاء وللأعيان ولأبنائه ولمصالحه الخاصة الأخرى، خاصة وأنه لم يعش من العمر سوى 52 عاما. ولهذا علينا أن نتوقف عن تسويق واجترار الأحكام المعلبة والجاهزة حول الرجل أو غيره. وكما يقول البعض هو الشاعر الساحر العربيد العاشق للغلمان وغير هذا من مثل هذا الكلام المرسل. فها هو الناقد عبد الله بن المعتز يقول عنه في كتابه " طبقات الشعراء ": " كان أبو نواس عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفة بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه. " أما الإمام الشافعي فيقول عنه: " لولا مجون أبي نواس لأخذت العلم عنه. ". وغير هذا من الآراء المبثوثة في كتب التاريخ والتي تنصف الرجل من جهة، ومن جهة أخرى توضح لنا مكانته العلمية وجلالة قدره. ولهذا فمختلف المدارس والاتجاهات والتيارات الفكرية والاجتماعية كلها تريد امتلاكه. وهذا حتى تتخذ منه مِلكا لها لما يضفيه عليها من شرعية. خاصة وأنه يرتقي إلى مصاف الشخصيات الكونية مثله مثل أفلاطون وغاليلي، وإن كان كل في اختصاصه وميدانه.

أما الأديب الكبير عباس محمود العقاد فيرى بأن شذوذ أبي نواس ناتج بالدرجة الأولي عن نفوره من النساء لكونه يعتقد أن كلهن خائنات مثل أمه. وهو هنا يعتمد مناهج علم النفس الفريدوية وهذه المناهج ليست عملية حسابية نتائجها صحيحة مئة بالمائة. وعلم النفس بيومنا هذا قد تجاوزها إلى غير رجعة. وما دام أبوا نواس ليس بيننا اليوم يحيا فكل هذا سيظل مجرد استنتاجات تتهدم بتهدم النظرية النفسية القائمة عليها، ولا يمكن أبدا أن ترتقي لدرجة المطلق واليقيني.

وما دام البعض منا قد أصبح محللا نفسانيا حيث أرجع ما يسمي بشذوذ أبي نواس إلى ما علق في نفسه أو في عقله الباطن ومنذ طفولته. حيث تزوجت أمه من رجل غريب وفقد بذلك هو كما يقول أصحاب هذا التحليل الملجأ الآمن، أي صدر أمه مما جعله يحقد على كل النساء. ونتيجة لهذا توجه بعواطفه صوب بني جنسه. وبالله عليكم كيف نفسر حبه العاصف لمحبوبته جنان؟. ثم الأولى بنا وبدل تبرير شذوذ البعض منا بأبي نواس أن نعالج المشكل من جذوره حتى لا تتكرر مأساة أبي نواس. وحتى لا يبعث أبو نواس جديد في كل عصر وكأن البشرية هنا تحمل صخر سيزيف على رأسها. نعم يجب أن لا نحرم أولادنا الصغار من دفء الأم والأب معا حتى لا نخلق من أولادنا شواذا. إذن فشذوذ أبي نواس أو غيره ليس بيولوجي، وإنما هو نتيجة العوامل الاجتماعية والتي متى قضي عليها قضي على اللواط معها. وهنا علينا أن نربي أولادنا تربية سليمة حتى يكبروا وهم أسوياء خالون من أية عقد نفسية، يمكن أن يكون تأثيرها مدمرا لحياتهم، وهذا على المدى البعيد أو القريب. ثم إن هذا الرأي يكذبه الواقع ونحن نرى يوميا ملايين الأطفال ممن تزوجت أمهاتهم برجال غرباء عنهم، ولكنهم لم يصبحوا أبدا شواذا. وعليه فهذا الكلام عار عن كل صحة وهو فضيحة في حق من يدلي به في يومنا هذا.

ولكن العقاد نفسه يستطرد ويقول في كتابه الشهير عن أبي نواس ما مفاده بأن: " الشذوذ الذي يميل بصاحبه إلى عشق أبناء جنسه والعزوف عن الجنس الأخر آفة لا تنطبق على أبي نواس. لأنه يغازل الجواري كما يغازل الغلمان وكلامه كثير في استحسان الفتاة لأنها كالغلام واستحسان الغلام لأنه كالفتاة ويستشهد بقوله:

غلام وإلا فالغلام شبيهها ***   وريحان دنـيا لذة للمعانق

أو بقوله

ذا غنج حلو شمــــــائـله ***   كأنه عند رأي العين عذراء                              

وهنا علينا أن نتوقف قليلا عند هذه النقطة والمحطة من حياة أبي نواس. فلئن كان العقاد قد أرجع هذا المنحى في حياته إلى عقدة النرجسية التي كانت تلازمه. وهو هنا يطبق عليه ما توصل إليه علم النفس في عصره، والعقاد هنا يعمل جاهدا لإبعاد آفة الشذوذ الجنسي المطلق عن أبي نواس. فيمكن لنا نحن اليوم أن نقرأ الأبيات السابقة من شعر أبي نواس قراءة جديدة. وإن المتأمل للبيت الأول يلاحظ أن أبا نواس يشبه الفتاة بالغلام أو هو شبيهها كما يقول وهنا يكمن السر، إن أبا نواس هنا لم يستطع أن يخرج عن النسق العام المتعارف عليه في يومه ذاك حول مفهوم الجمال ومدلوله. فالمرأة الجميلة هي من كانت تشبه الغلام. ولذلك يقولون عن المرأة الجميلة القوام بأنها غلامية، وهذا المفهوم للجمال هو ابن النظرة اليونانية للجمال والتي تعبر عنه بولد حسن القوام. ولعل هذا ما نجده في رسالة الجاحظ الشهيرة والتي فيها مجادلة بين صاحب الغلمان وصاحب الجواري. وعلى هذا الأساس نقول بأن رأي أبي نواس هذا لم يكن من اختراعه الشخصي وإنما هو تعبير عن النظرة العامة للجمال في زمانه. وهي نتاج العقل المَكـَوِنِ كما يقول لالاند، هذا العقل الذي يصيغ الذوات وفق مفاهيمه الخاصة. وهو متغير من عصر إلى أخر وما شعر أبي نواس هنا إلا صدى لذلك العقل. وتلك النظرة قد كانت هي النظرة السائدة في تلك الفترة والتي انحدرت رأسا من الإغريق وإلى مختلف الأمم التي تجاورهم. وبالتالي فإن أبا نواس لم يكن نبيا لكي يفلت أو ينسرب مما تعارف عليه مجتمعه وحتى الأنبياء لم يدعوا هذا. وإنما يقول محمد ص: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وحتى يسوع من قبله قال: " لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لانقض بل لأكمل ". متى 5: 17. وكان الأولى بنا قبل أن نعلن حكمنا النهائي حول أبي نواس في ما يخص شذوذه. من أن نجتث الأسباب الداعية لقول مثل ذلك الشعر. وأبو نواس من جهة أخرى يصف لنا الفتي المتغنج المتمايل كالأنثى ولم يقل لنا بأنه يغازل رجلا كامل الرجولة، فهل يا ترى لو انتفت مظاهر التخنث من أمام أبي نواس أتراه يتغزل بشيء غير موجود أصلا، كما هو حال شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. وبالتالي علينا النظر إلى أسباب الظواهر الاجتماعية وإلى نتائجها. وأبو نواس في غزله لا يهمه إن كان الحبيب مذكرا أو مؤنثا. بقدر ما يهمه أن يكون متماشيا مع مواصفات الجمال المتعارف عليها في زمانه، ودليل هذا الكلام هو غزله بالمذكر بنفس درجة غزله بالمؤنث. ثم علينا أن ننتبه إلى أن أبا نواس يذكر حبيباته بالاسم وهن جنان ودرر ومنية وعنان وغيرهن. ولكننا لا نجد ذكرا لأسماء المتغزل بهم من الذكور بمثل كثافة المتغزل بهن من الإناث وهذا إن وجدوا طبعا.

وقد يقول قائل بأن أبا نواس لم يكن صادقا في زهدياته ويبررون كلامهم هذا بخوفه من الأمين. وهذا المبرر لا يستقيم ذلك أن الأمين في حد ذاته وإن صح الخبر طبعا، كان مولعا بالغلمان ودليلهم في هذا ما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي من قصة بطلها الأمين ابن هارون الرشيد وهيامه بغلامه كوثر الذي أصيب في الحرب التي دارت بينه وبين أخيه المأمون فمسح الخليفة الدم الذي على وجهه وهو يقول ضربوا قرة عيني ومن أجلى ضربوه أخذ الله لقلبي من أناس حرقوه. وهنا نقول بأنه لا يعقل أن ينهي الأمين عن فعل هو يأتيه، وإلا فإن أبا نواس كان سيحتج عليه بسلوكه ذاك. ولهذا فإما أن اتهام الأمين وأبي نواس بالشذوذ تهمة باطلة لكليهما أو أنها صحيحة في حق كليهما. ولكن الشواهد التاريخية تثبت بأنه باطلة في حق كليهما.

أما ما ذكره أبو نواس في البيت الثاني المذكور أعلاه فلا يعدو إلا وصفا لغلام يشبه في مظهره الخارجي من حيث دلاله وغنجه الفتاة. وهذا النوع من الفتيان نلتقي به يوميا وفي مختلف المجتمعات وخصوصا من تربى منهم في محيط أنثوي أكثر منه رجولي. ولئن كان هذا الفتى يعمل في خمارة فهذا الغنج من مستلزمات العمل حتى وإن لم يكن فيه، فهو يتصنعه لكي يؤدي عمله الذي يتطلب منه ذلك. وإننا هنا نقول بأن العقاد لم يصب تماما عندما اعتمد على فرويد في تحليله لشخصية أبي نواس، ذلك أن كلام فرويد ليس بالوحي المقدس النازل من السماء، بل هو كلام بشري قد يكون صادقا كما قد يكون كاذبا.

ثم إنه كثيرا ما يقال بأن المرء صاحب المكانة المرموقة لا يمكن له أن يجاهر بتهتكه هكذا وعلنا. وهذا على عكس الوضيع الذي يجد لذته في ذلك. وهنا نقول هل شخصية أبي نواس من النوع الأول أما من النوع الثاني؟ الجواب الذي يقفز بسهولة إلى ألسنتنا هو أن أبا نواس كان من النوع الأول. وبالتالي فليس من المعقول أن يضحي بمكانته، وهو منادم الخلفاء والوزراء كالأمين والبرامكة مثلا   وأن يضحي بكل هذا لأجل شهرة هو لا يحتاجها.

ثم إن بعض الأشعار التي تنسب إلى أبي نواس هي أشعار فضائحية وأشعار تماثل مشاهد أفلام البورنو الخاصة بالشواذ في يومنا هذا. فهي تتحدث فقط عن الجانب الجسدي الحسي في الغلمان وهي بهذا تبرز أبا نواس رجل شبقي حيواني. وهذا هو المطلوب اليوم في الغرب كدليل مادي ملموس على أن العرب هم آلات جنسية شبقية، وهذا كما تصورهم أفلام هوليود وهم ليسوا بدعا في هذا فقد ورثوه عن أجدادهم جينيا .وعلى هذا فهم كائنات شهوانية مثل الحيوانات، وهذا ما يبعدهم عن عالم النظر الفكري والفلسفي لصالح عالم الغرائز السفلى وهذا على عكس العقل الأوروبي القادر وحده على النظر والتفلسف. وهذا من شأنه تعزيز تلك النظرات العنصرية التي تتفجر بين الحين والآخر. ولعل آخرها ما ورد في خطبة البابا المستقيل بيندكتوس السادس عشر لخير مثال عليها.

وإننا نتعامل مع أبي نواس من منظور مزدوج فمن جهة نحن نلجأ لأخباره لأجل التندر والطرفة ولترفيه عن النفس. أما حين يجد الجد فإننا نقلب له ظهر المجن ولا أحد سمعناه يقول بأن مثاله في الحياة هو أبو نواس. إن وضعه هنا ليس كوضع الزوجة القانونية بل هو كوضع العشيقة التي نعبث معها ونهواها. ولكن نريد أن تبقى علاقتنا بها دوما في الظل خوفا من العار الذي سيلحقنا من جراء كشف علاقتنا بها، نعم إنه ضحية نفاقنا الاجتماعي. وبعيدا عن هذا من منا يرغب في أن يكون ولده صورة من أبي نواس لا أحد طبعا. وكلنا نرجو جميعا أن يكون نسلنا خليفة لابن رشد وهذا أمر طبيعي فأجدر بنا الانشغال بأخبار ابن رشد وإخوانه بدل تضييع الوقت في أخبار منحولة عن أبي نواس وأقرانه.

ولنستمع الآن إلى ما جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الجزء الثامن عشر منه حيث يخبرنا بالتالي: " وقد عزوا إليه في صغره وكبره أشياء منكرة الله أعلم بصحتها، والعامة تنقل عنه أشياء كثيرة لا حقيقة لها." ورغم ما قيل عنه إلا أن نفس المصدر يخبرنا بما جاء فيه أيضا من أن أبي نواس قد قال: " والله ما فتحت سراويلي لحرامٍ قط ".

كما أن أبي نواس قد رد على الأمين بن هارون الرشيد وهذا عندما نعته بالزنديق فقال له: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وأنا أقول:

أصلي الصلاة الخمس في حين وقتها     وأشهد بالــــتوحيد لــــله خاضعا

وأحسن غسلي إن ركبت جــنابـــــــة         وإن جاءني المسكين لم أك مانعا

وإني وإن حانت من الـــــكاس دعوة     إلى بيعة الساقي أجبت مــسارعـا

وأشربها صرفا على جــنب ما عـــز         وجدي كثير الشحم أصبح راضـعا

وهذا الكلام يخبر عن رجل عادى كبقية كل الناس وإن كان يشرب النبيذ الذي ليس هو بالخمر وهو مباح في عرف فقهاء العراق كما هو معلوم للجميع وحتى وإن شرب الخمرة فهذا لا يعني أبدا أنه يمارس اللواط لأنه لا رابط بين هذا وتلك ولأنه ليس كل شارب خمرة هو لوطي بالضرورة.

وورد في تاريخ ابن عساكر ما يلي وقال الربيع وغيره ‏:‏ عن الشافعي، قال ‏:‏ دخلنا على أبي نواس في اليوم الذي مات فيه وهو يجود بنفسه، فقلنا ‏:‏ ما أعددت لهذا اليوم وهذا ما يخبرنا به ابن كثير في موسوعته البداية والنهاية دوما، فقال ‏:

يـا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً         فَـلَـقَد عَـلِمتُ بِـأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إن كـانَ لا يَـرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ           فَـبِـمَن يَـلوذُ وَيَـستَجير المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً         فَـإِذا رَدَدتَ يَـدي فَـمَن ذا يَرحَمُ

مـا لـي إِلَـيكَ وَسـيلَةٌ إِلّا الرَجا         وَجَــميلُ عَـفوِكَ ثُـمَّ أَنّـي مُـسلِمُ

إن العبرة بخواتم الأشياء كما يقال نعيدها مرة أخرى، فلا يجب أن نحجب هذه الخاتمة قصرا ونغيبها عمدا لصالح ما قال أبو نواس في سابق عهده. إن من يفعل هذا هو كمن يصر على تقديم عمر بن الخطاب للناس انطلاقا من فترة اضطهاده للمسلمين في مكة، ويعتبرها هي المعبر الحقيقي لشخصه ويتناسى بأنه هو شخصيا قد تبرأ منها ولم يعد يربط بينهما أي رابط.

نعود ثانية إلى ما قاله محمد بن أبي عمر السابق الذكر والذي قال: سمعت أبا نواس يقول: والله ما فتحت سراويلي لحرامٍ قط. ولفهم هذا القول نعرج على ما قاله الحلاج، من أنه ما من طاعة إلا ووراءها معصية. وبالتالي فمرتكب المعاصي عادة ما يتوب في نهاية حياته ويكثر من العبادات والطاعات كنوع من التكفير عن معاصيه السابقة، وهذا حتى يعيد لنفسه التوازن النفسي والسكينة والطمأنينة لها. علما بأن تلك الطاعات تكون هي الأخرى متطرفة بقدر ما كانت المعاصي هي الأخرى متطرفة. ولكننا لم نشهد أن هذا قد حصل مع أبي نواس مما يدل على أنه لم يرتكب كل ما ينسب له من شذوذ جنسي مع الغلمان، خاصة وأنه طلب الصفح من الله عما قاله من شعر ماجن شأنه في هذا شأن أي مسلم آخر يطلب العفو من الله حتى ولو كان الفاروق عمر بن الخطاب المبشر بالجنة. ولكنه لم يطلب منه أبدا الصفح عن ممارسته للشذوذ الجنسي. كما أن كتب التراث لا تخبرنا عن توبة ولا عن صحوة لضمير أبي نواس لكونه كان غارقا في وحل الشذوذ الجنسي. وحتما لو كانت تلك القصص التي تروى عنه صحيحة لكان تزهد مثل رابعة العدوية تكفيرا منه عن معاصيه السابقة. وكل هذا يشهد ضد ما ينسب للرجل من شذوذ جنسي.

كما جاء في كتاب جنة الولدان في الحسان من الغلمان لصاحبه الشهاب الحجازي. من أنه يعتذر عما قاله من شعر في حسان الغلمان في ما مضي من الأيام ومما قاله:

والله ما المرد مرادي وإن             نظمت فيهم كحليِّ العروس

وهو يعترف بأنه قد سبقه في هذا الاعتذار الشيخ زين الدين عمر بن الوردي، والذي قال هو الآخر معتذرا:

والله ما المرد مرادي وإن             نظمت فيهم كعقود الجمان

وهو يعترف ويقر بأن لا خلق للمردان وإن كانت أجسادهم حسنة الصورة نظرا لإفساد الشذوذ الجنسي لطبعهم جريا وراء الأموال. وهو هنا يتناص مع النص القرآني والذي يقول: " إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 4 " سورة المنافقون أو هو ينطلق منه. ولكن الذي يتحدث عن الشذوذ الجنسي في التراث العربي لا يأتي على ذكر حقائق التوبة والرجوع عما قيل في مرحلة العنفوان من العمر وعدم تجاوزها إلى مرحلة الاعتذار. تماما كمن يختزل أبا نواس في غلامياته وفقط، ولا يأتي على ذكر توبته. وهنا نطرح أكثر من سؤال لماذا هذا التراجع أهو بدافع اجتماعي أو بدافع ديني ؟ وهل كان شذوذا حقيقا أم شذوذا مؤقتا ؟ وهل هو شذوذ مكتسب لأجل التقليد والمجاراة أم أنه طبيعة ثانية في أصحابه ؟ إن المتأمل للأشعار التي قيلت في الغلمان لا يجدها تخرج عن الوصف الخارجي لأجسامهم، وهم في مرحلة تدفق الشباب وطغيان موج فيضه، وفي أعنف فترات ربيع عمرهم. ولم نجد أبد من يتغزل بشيخ فان، وما يدل على هذا الرأي ما جاء في كتاب الجريمة الجنسية، من أن جل الاعتداءات الجنسية على الجنسين هي في الفئة العمرية من 13 إلى 18 سنة حيث تعتبر هذه الفئة أكثر عرضة للاعتداء الجنسي. وهنا تكمن الإجابة في أن الذي يدفع إلى عشق الغلمان هو قوامهم الغض المتدفق حيوية. والذي يأسر القلب قبل اللسان فيندفع الرجل المريض في قلبه إلى عشق تلك الصور الجملية. وهناك من يتغلب على هواه وشهوته هذه، وهناك من تستبد به وتتغلب عليه فيقع في الفاحشة والشذوذ الجنسي. وهذا من بعد أن ينتقل من مرحلة التمتع بالنظر إلى مرحلة حب الاكتشاف باللمس أي تمتيع الجانب الحسي فيه. ومتى كان اللمس كان ثوران الغريزة ومتى ثارت الأخيرة غاب العقل وحظرت الشهوة واللذة. وفي هذه الحالة لا غالب إلا هي على من كان ضعيف العقل والإرادة. ومتى اكتشف هذه اللذة كان الغرق فيها ورحلة اللاعودة في بعض الحالات. وهذا ما أشار إليه أبوا حامد الغزالي حين قال: " فإن الشهوة إذا غلبت ولم تقاومها قسوة التقوى جرت إلى اقتحام الفواحش ".

ونختم كلامنا عن أبي نواس بما جاء في كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز من أن أبا نواس قد كان وضيئا صبيحا في صغره فعشقه الشاعر المتهتك والبة بن الحبحاب وأعجب به وعني بتأديبه حتى خرج منه ما خرج. ولما مات والبة لزم أبو نواس خلف الأحمر الراوية والشاعر والعالم بالأدب والمتوفى في العام 180 هــ والذي كان إضافة إلى ما سبق أشعر أهل وقته وحمل منه علما كثيرا وأدبا واسعا فخرج واحد زمانه في ذلك ولا نعلم من التقى بهم أبو نواس من عامة الناس وتأثر بهم في مسيرة حياته وبما أنهم أناس عاديون فإن المؤرخين لم يحفلوا بهم. وهنا من حقنا أن نتساءل ما طبيعة العشق الذي عشقه والبة لأبي نواس أهو عشق جنسي شبقي وبالتالي فما الذي نقله إلى تلميذه أثناء عملية تأديبه غير المجون والتهتك والخلاعة وهذا بشهادة ابن المعتز في كتابه طبقات الشعراء دوما وهذا حينما يقول: " ولوالبة من المجون والفتك والخلاعة ما ليس لأحد وإنما أخذ أبو نواس ذلك عنه ".

أوليس هو القائل:

فــــإنّ الخـــمر ليس تطيب إلا     على وضر الجـــنابة بالــلواط

وهل هو وغيره ممن تأثر بهم أبو نواس كانوا مسؤولين عن مساره المتهتك ذاك إن صدق ما يقال عنه طبعا. وبالتالي فنحن هنا ملزمون بأن نحفر عميقا في الأسباب التي دفعته صوب ما يشاع عنه من أخبار ومتى استطعنا معرفة هذه الأسباب والرد عليها انتهى ما يشاع حول الرجل من أكاذيب بقيت تتدحرج ككرة الثلج إلى أن وصلت كما نراها اليوم. وحفرنا في جذور توجه أبو نواس صوب هذا المسلك يفتح الطريق أمام معرفة أعمق لظاهرة التغزل بالمذكر وبالتالي التصدي لأي انحراف جنسي يمكن أن يتوج ظاهرة التغزل بالمذكر مستقبلا. وينهي كذلك التوظيف السيئ لشخصية أبي نواس فهذا الأخير هو صورة لعصره وما كان نبيا لينسرب منه أو ليفلت من قبضته.

 

سمير خلف الله ابن مهيدي

الجزائر / الطارف

 

في المثقف اليوم