قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: إضاءة قصيرة في رواية (البارون ساكن الأشجار) للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو

النزوع إلى فضاء الأعالي والهروب من عقدة الأرضي

توطئة: إن الوقوف على دلالات رواية (البارون ساكن الأشجار) للكاتب الإيطالي (إيتالو كالفينو ـ ترجمة أماني فوزي حبشي) ما هي إلا الحدود الدلالية الخاضعة إلى (فعل المحفز) وطريقة تشكله المتقن عبر إمكانية أخاذة للإيحاء بذلك الرمز التمردي الذي غدا بذاته كعلاقة متجاوزة في الهوية والانتماء والحلم بالنزوع إلى ذلك السطح الفضائي من حيز الوازع المكاني من أغصان الأشجار. النموذج الشخوصي هنا والذي يتمثل بالشخصية (كوزيمو) هو في الأصل أبن تلك العائلة الارستقراطية التي ترعرعت في ظل النياشين والأوسمة العسكرتارية، لكننا عندما نبحث في مكونات هذه العائلة نجدها محكومة بأحلام العهود القديمة الكولونيالية وفتوحاتها المتحدرة من طموحات عميقة بالهيمنة والسطوة المستخدمة حتى على مجرى واقعها الحياتي واليومي من تقاليد الأسرة. في ظل هذا وذاك غدا لدى الشخصية كوزيمو حب التمرد على شرائط سلطة العائلة الكولونيالية، لذا كان فعل التمرد وطريقه إضافة نوعية وجادة، حينما تكون معايير الحرية خروجا وانتصارا استثنائيا، وعلى هذا النحو اختار كوزيمو موطنه الفردي فوق ووسط الأجزاء العلوية من الأشجار، موضحا لشقيقه السارد المشارك، جملة تفاصيل تتلاحم في قوة علاقتها الدلالية بمفاهيم (العصيان ــ التمرد ــ الحرية) وللتعبير بدقة فإن موضوعة الرواية متراصة وإشارات وتراكيب مؤولة تنتخبها الأدوار الفعلية في تفاصيل مرويات السارد المشارك.

المنظور السردي بين موقع المبأر والشواهد في وجهة نظر السارد

يبدو أن آلية الوصف سيد الموقف في فقرات ووحدات الرواية، والملفت للنظر أن الوصف لجل الحالات المكانية والزمنية والشخوصية يتنامي بين (الحركة ــ السكون) وهذا الاختيار وإن كان مناسبا لطبيعة الموضوعة الروائية التي تجعل من وجبة طبق الحلزون المقرونة، سببا قاطعا في حروب كوزيمو فوق موطن الأشجار، إلا إنه بداية تشكل الفعل التمردي على شقيقته التي كانت تطبخ ما يحلو لها من أصناف شتى من الأطعمة المقززة بالنسبة لكوزيمو وشقيقه. ولعل القارىء عندما يقرأ تفاصيل الأحداث في الرواية الثلاثية (السلافنا) يكتشف أن هناك جملة واسعة من الأسباب التي تجعل البارون كوزيمو يباشر فعل ذلك الانتقال فوق الأشجار، امتثالا للمعنى التمردي على تقاليد وأعراف حيوات تلك الطبقات الأيديولوجية الراسخة في الانتقاء الموضوعي.

1ــ الذات الساردة وتشييد مسافة الاتصال السردي:

ربما تعكس العلاقة القائمة بين الإنتاج بالواقع المتبدي للذات الواصفة وأفعال الأواصر (الزمنية ــ المكانية) فعلا كبيرا في امتلاك الماثلات من المواضع النصية، فعلى سبيل المثال، ندرك حقيقة إطار الزمن من خلال محددات المدار السياقي في مثل هذه الوحدات: (كانت المرة الأخيرة التي جلس فيها أخي كوزيمو معنا هي يوم الخامس عشر من يونيه من عام 1767 . . أتذكر هذا وكأنه حدث اليوم. /ص9 الرواية) إن حالات الخطاب تتأسس على صعيد (الماقبل ــ المابعد) لتبرز لنا جملة مؤشرات من التركيز بين الذاكرة ــ المعاش، بين إطار تفاعل السارد الاستذكارية وترتيب الأحداث وتسلسلها. وعلى هذا النحو تتحرك المشاهد المختلفة زمنيا. لكن الواصلة الدلالية تبقى حدثا مركزيا يظل تستوعبها الذات الساردة ضمن صيغة الحكي موضوعا للتفكر والتأمل، كما الحال هنا: (كانت عائلتنا تجتمع على مائدة الطعام في تلك الساعة للمحافظة على تقاليد العائلة القديمة، على الرغم من شيوع الموضة القادمة من البلاط الفرنسي. /ص9 الرواية) لعل المسافة الزمنية الواردة هنا، تعرفنا بحجم الوقوف على التمفصلات الزمنية، ومن ضمنها يمكننا معاينة المرحلة الحاضرة في التسلسل على صعيد سلوك الأفراد.

2 ــ عقدة التمرد والكشف عن تجليات الانتقال:

لعل زمن الخطاب الروائي لا يقدم زمن ولادة الإشكالية المعاينة في سلوكيات الشخصية كوزيمو، إلا في ذات دائرة الحكي بشكل أكثر تشخيصا: (أتذكر أن الرياح كانت تهب من جهة البحر. . وتحرك الأوراق، قال كوزيمو: لقد قلت أنني لا أريده، يعني أنني لا أريده ! وأزاح من أمامه طبق الحلزون، ولم يحدث قط أن شهدنا تمردا أشد من ذلك. /ص9 الرواية) ولو قمنا بتحليل دوافع الرفض لدى العامل الشخوصي، للاحظنا مدى السمات والخصائص التساؤلية عما يخفيه هذا الرافض أبدا؟. في الحقيقة يثير التوجه التمردي لدى الفاعل الشخوصي عدة عناصر، أولها ، كونه يعبر عن السياق اللاملتزم بالطبقة السياسية التي تتبعها تقاليد العائلة الارستقراطية من النفوذ والغطرسة، أما السبب الآخر فربما يمكن في أن الشخصية دليلا على صعيد السعي في تجاوز التابو ونمطيه السائد والأكثر شيوعا في تقاليد العائلة الصارمة على كاهل أفرادها.

3ــ الوصف والمخبوء من هجرة الأرضي:

يجد الشخصية المحور ــ كوزيمو ــ حدود العنف التقاليدي على أقصى درجاته ضيقا على حياته كفردا رافضا لجل الممارسات في مشهده المنزلي.. لذا بات يشكل في ذاته الجو المجتمعي في سلوك والديه، العبودية والاضطهاد في عينه: (بعد قليل ، رأيناه من النافذة وهو يتسلق ليصعد على شجرة البلوط. /ص20 الرواية).

ــ تعليق القراءة:

إن آليات السرد الروائي في رواية (البارون ساكن الأشجار) ذات علاقات وصفية موحية، فهي من جهة غاية في الأهمية تترجم لقارئها مستوى الوصف وهو يقدم المحاقبة الزمنية بين (الرؤية ــ تدفق الأحداث) غير أنها أحيانا تبدو عبارة عن حالات في معرض زمن السرد ليس إلا. كما وهناك جملة واسعة من مدار الأحداث، ما تكشف لنا بأن الشخصية ــ كوزيمو ــ حقيقة قادرة على النفاذ من هموم وأعباء مظاهر قيود العبودية وأغلال تفاهات عنصرية التسييد إلى فضاءات الأعالي حيث ممارسة حرية جذور الفرد الشخصانية بعد قلب جملة مظاهر ذلك الرجل الارستقراطي الذي يتخذ من الأرض ومخادعها عنفوانا له على من يطفون عليها من الكائنات الآدمية الضعيفة. . هكذا تتضح دوائر المفارقات والتناقضات التي تملأ المسافة الفاصلة ما بين (فضاء = الشخصية المحور / الأرضي = الحلزونات في المخزن = وهرطقة البارونات وتحالفاتها وخصوماتها) ومن خلال كل هذا يتضح أن فكرة الرواية هي مغامرة الخروج من جحيم الداخل الأرضي الذي يجسد حيوات الأوهام النبيلة، فيما ظل البارون كوزيمو يعلن حريته الظاهرية بين فضاء رفيق أعالي الأشجار هاربا ومنتصرا على نقنقة التقاليد والأعراف والأغراض المحنطة في مداليا النياشين وأحقاد وأضغان ملامح وجوده الأجداد الأسلاف اللذين رحلوا وأصفرت تعابير وجوههم مع ما تراكم عليها من غبار وحشرات ليلية واخزة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم