قراءات نقدية

الشاعرة امل جمال وقلق البحث .. "المواجيد" من ديوان (فضاء لجناح) أنموذجا

wejdan abdulazizالقراءة ممارسة جمالية، كما هي جولة على شاطيء نهر وارف الخضرة تحيط به الوان من الاضواء المختلفة، فما عليك الا التركيز على لون محدد يعطيك الاذن في منح الخضرة لذلك النبات الذي يصنع عالمه وشاطيء النهر .. وهكذا المسارات النقدية التي تمارس على النصوص الادبية، فهي تعطيك القدرة في ممارسة سلطة محددة، كان ميلادها مربوطا بوجود تلك النصوص .. اذن الممارسة النقدية ترتبط بممارسة القراءة الجمالية الاولى، ثم الثانية وهكذا حتى الوصول الى مقصدية مبدع النص واستقصاء ظواهره الفنية وبالتالي فان العملية النقدية، جاءت من ثنايا النص مستقصية تجلياته، وهذا يجرني ان ابحث في نصوص الشاعرة امل جمال، كي اجترح طرق نقدية تكاملية، (وقد وجدنا أنّ "النقد التكاملي" كان من بين مجموع الاتجاهات النقدية التي تعرضت للنقد الشديد رغم محاولة العديد من الباحثين حاليا الدفع به إلى الساحة النقدية رغبة منهم في الخلاص من ظاهرة "أحاديةالرؤية النقدية" التي اتسم بها نقدنا العربي طيلة فترة زمنية طويلة من جهة،وعدم التمرس الجاد في تحديد الآليات الإجرائية للممارسة النقدية الجادة لهذا النقد الجديد من جهة أخرى، كما ينبغي لنا أن نشير هنا صراحة في هذا المجال أنّ النقد التكاملي يستفيد باستمرار من جلّ المدارس النقدية أثناء الدّراسات التحليلية، ومع ذلك تبقى هذه المحاولات عقيمة،وغير جادة إذا كان الناقد غير ملم بأدوات وأساليب التحليل النقدي خاصة المعايير والضوابط الخاصة بتلك المناهج والتي تصب في دائرة بحث النقد التكاملي.)، فامامي مجموعة من القصائد الشعرية بعنوان (فضاء لجناح)، والتي ارهقتني في قراءتها عدة مرات، فكلما قرأتها ظهرت امامي مقصديات اخرى، حتى استويت الى طريق متعرج في استرادادات المعاني، بمعنى ان هناك معاني توليدية في نصوصها أي الشاعرة امل جمال ... من خلال تناصها مع اقوال مقتبسة بعناية، تشد القاريء لاكتشاف المبررات في اختيارها .. ثم الى حالات القلق والترقب في زوايا النصوص، والتي بدورها تعطي فضاءات اوسع في البحث والتقصي، ففي نص (بوح) من قسم فضاءات المواجيد، جاء قولها :

 

(كل ليلة

أرسم وردة، وقمرا، و عصفورا

كمراهقة أتعبتها زوايا الخجل

و أخجل من بوحي لروحي

روحي التي ناطحتها طويلا

حسنا

يا قروني المتكسرة

أنا أرنبة، في سهول الحنين

تقف على قدميها الخلفيتين

ترقب خطوهُ من بعيد

أرنبة، لن تهرع للاختباء

عندما يقترب.)

وهنا بدت الشاعر في تيه من امرها، مفارقة الواقع منزوية بانهماك لرسم جماليات الطبيعة، كي تحملها البوح الذي تريد بعيدا عن الاضواء، راسمة حدا لذلك الخجل الذي يعتريها كونها تعيش واقعا لايعطيها الا مسوغا لافتراض زوايا، قد تكون اكثر آمانا، وبالتالي جعلت من نفسها ارنبة خائفة، تتطلع الى افق الحقيقة بوقوفها على قدميها الخلفيتين، بيد انها سرعان ما تختبيء عندما يقترب منها، والتساؤل من؟؟ القرائن هي (المراهقة، الواقع المخيف، وكلمة البوح) .. اذن هي تبحث عن جمالية مباحة كالحب في بيئة لاتسوغ قبول هذا الجمال .. خالقة بذلك وهن روحي امام مد قوي لرغبات الجسد المحروم، ثم تقول:

 

(كم أتمنى أن أنام الآن،

لتوقظني قبلة فوق جبيني

و يد تتبع مفرق شعري

و إصبع يمر خفيفا على أنفي

فأفتح عينيّ.

لأختبئ سريعا في صدرك

و أغمضهما و أنام.)

لكنها تقول:

أرفض محض وجودك

و أتابع حلمي

حلمي الذي أيقظتني منه.

في غيم اللحظة،

بين الرفض و التوق

و التوق و حلم حضورك

أتأرجح.)

فكان الرجوع الى الحلم، تلك الحقيقة التي ترافقها وتنام معها، فالعيش في ثنايا الحلم، ثم الاستيقاظ على اعتاب الحقيقة، وهنا تتولد حالة التأرجح التي تدفعها، وهي تتقمص ذاتها وسط توهان الحرمان والكبت الذي تعوض بعضا منه في ذلك الحلم الزائر في الغياب وخواء السرير الفارغ ..وتستمر معلقة في مساحات البحث، تائهة في مسارات الروح التي تهفو لذلك الجميل الذي تبحث عنه، بدليل خطابها لروحها (ياروحي التي هناك/ أنا كرة جوفاء/ هشة كحلوى غزل البنات)، فما الذي يجعلها هشة، هو ذلك الحرمان الذي تعيش وسط امواجه المتلاطمة، ثم تحاول جاهدة لامتلاك جسدها الحسي الذي هو مُصادر من قبل الاخرين، حتى بانّ الحاجز بين روحها وجسدها، وسبب لها هذا القلق الكبير، لذا تقول: (أنا خفيفة يا روحي/ لن أثقل أجنحتك/ فقط، أريد أن أغفو قليلا في جسدي.)، وكأني بها تحاول استرداد روحها لجسدها المسلوب اصلا .. فحالة الاستلاب التي تعيش اجواءها الشاعرة امل جمال هو الغياب اي حالة الفقدان التي جعلتها تقول : (فأصعد ثانية/لا قمة تصل إليها/الروح لترتاح/لا سفح فقط، غابة تورق ولا زهور.)، اي عقم تام هناك اوراق، ولكن دون زهور .. فالافتراض السري الذي تعيشه الشاعرة وسط طوافان الغياب والحرمان، ان تكون زهرة صباحية تنام في حنين ليلي .. وتجيب عنه معادلة المعنى المقصدي، وهو وجه الحبيب .. بقولها :

 

(زهرة تتفتح في الصباح

و تنام في حضن حنيني ليلا

ثم تعود، و تتفتح في الصباح

و تنام في حضن حنيني ليلا

وجه حبيبي.)

 

وتذهب في مسار البحث وحالة القلق والتوهان الصوفي في اجواء ضياع الروح وضياع الجسد، فهي منهمكة للجمع بينهما من خلال الحب .. تقول: (على حافة الدمع/ أقطر روحي، لؤلؤة لؤلؤة / أطرز بها شغفي/على منديل غيابك.)، وهذا تصريح واضح المعالم وغياب ذلك المرتجى الذي تبحث عن حضوره، ليكون معادلا للمعنى، وهنا من خلال القراءة احتاج لشيء من علم النفس وشيء من علم الاجتماع وصراع قيود المجتمع واثارها، وشيء من دراسة سيمياء الكلمات المحصورة بيت التصريح والتلميح .. بيد انها بعد ذلك تعيش اجواء الطيف اي المقصود الحلم بجانب ذلك السرير الخالي برجاء حضور الطيف ليحضن روحها بقولها: (وأنا طفلة، ذات خمسة أعوام/تتدحرج فيه، بقلق.)، كونه كسهل منبسط خالي، كما هي منذ طفولتها صار هاجسا يرافق حضورها في مساحات الغياب المستمر .. ثم سرعان ما تكشف النقاب عن حسية منفعلة بقولها :

(قبلة على شفتيك

ليست كأية قبلة لأي أحد

قبلة على شفتيك يا صديقي

الذي يعرف شكل الجرح

مكان الدمع

و ظل اللفتات.

قبلة على شفتيك.

تعرفُ كيف تفاجئوني

بشمس ابتسامة

و سرب فراشات

و ذراعين مفتوحتين

على مرج قلبك.)

ثم تعلن : ان الامكنة وأشياءها هي، هي .. لان الحقيقة الواقعة هو الغياب، فـ(الخراب الذي يلف الشوارع/و يغلفها بالصرخات يلفني/و أنا أبتسم لسكين الوقت/ أصدقها، و أنا أعرف أن الشارع القادم لن أرى وجهك فيه )، ويبقى الغياب يشكل قلق الشاعرة على مدار هذه القصائد النابضة بالحب والعاطفة الجياشة، لهذا تركب (الانتظار) مطية لها عبر (اشواكها الطويلة الطرية)، وهي تردد: (شكرا على هذا الرجل البعيد البعيد

الذي يظلل روحي

و أختبئ في صدره

كعصفور صغير لا يحلق

- ولا يريد أن يحلق أبدا –)

وهكذا هي متمسكة بذلك الحبيب الغائب، وكما يقول ابن عربي:               (الحب موت صغير.)، في رؤية الشاعرة امل جمال، ثم تقول:

(جسدي طاولة من الأكاذيب

نمت و استطالت

و أزهرت.

أنظر

كلها زرقاء)

وهنا تعاملت مع اشكالية الجسد، كما تعاملت سلفا مع اشكالية الروح فـ(ان الدراسات العلمية توصلت الى ان حصة الكلام (اللغة اللفظية) في احاديثنا التقليدية بحدود 45%، فيما تكون حصة لغة الجسد من التواصل بحدود 55% ! اي ان اقل من نصف المعنى يأتي عبر لغة الكلام،فيما يأتي اكثر من النصف من لغة الجسد . وانه يوجد بالدماغ جهاز او مركز خاص لفك الشفرات التي تبعث بها لغة الجسد، فأن فسّرها بشكل صح،حصل تفاهم وتودد ..وصداقة..وربما الوقوع في الحب!،)، رغم انها كل تعاملاتها افتراضية، الا انها احيانا تعمد لتحريك ودغدغة القاريء، بدليل قولها:

 

(أتعثر في ظلي

و أنا ألهث خلف ظلك

يالا مخاتلة الضوء.

 

لماذا صار الهواء

صعب جدا

و أنت بعيد؟)

 

هكذا تتعامل افتراضا مع الحبيب الغائب .. وهذه رؤية شعرية في ظاهرة الغياب والحضور وغالبا ما تظهر كثيرا في الشعر الحديث خاصة .. وترجع امل جمال دواليك على مسار رؤيتها في الروح بقولها :

(أقنعة الوحدة تسّاقط

أشرقت شمسك يا حبيبي

ذاب جليد الروح.

 

فلتستريحي أيتها الموسيقى

حبيبي قادم

سأهديك موسيقاه.)

وهنا تستعين بقول ابن عربي: "كل مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا تعول عليه" وتكتفي شاعرتنا بالموسيقى، واي موسيقى تلك التي هي في عالم الافتراض" .. الحصيلة النهائية من قسم "المواجيد" من ديوان (فضاء لجناح) هي البحث في ظاهرتي الغياب والحضور، ويلي هذا دراسات اخرى لبقية الاقسام ...

 

وجدان عبدالعزيز

 

في المثقف اليوم