قراءات نقدية

ضياء نافع: مفتش غوغول سينمائيا

صدرت مسرحية غوغول – (المفتش) عام 1835 في روسيا، وتم عرضها على المسرح في مدينة بطرسبورغ الروسية لاول مرة عام 1836 بحضور قيصر روسيا نفسه آنذاك، ومنذ ذلك الحين والى وقتنا الحاضر تعرض (بضم التاء) في مسارح روسيا و العالم، بعد ان ترجموها الى لغات عديدة . ان وصول مسرحية (المفتش) لغوغول الى مكانتها العالمية تعني انها لا تجسّد مشكلة روسية موجودة في النظام القيصري الروسي تحديدا كما كانوا يقولون ويؤكدون في الزمن السوفيتي انطلاقا من الانتقاد الدائم للنظام القيصري في روسيا السوفيتية والحديث عن سلبيات ذلك النظام، وانما تعني ان هذه المسرحية تجسّد مشكلة اجتماعية عالمية متأصلة في اعماق الانسان، كل انسان، ويمكن لهذه الموضوعة ان تظهر وتتبلور وتنطلق حسب الموقف الملائم لها بغض النظر عن طبيعة المجتمع والنظام السائد فيه، وليس عبثا، ان هذه المسرحية انتقلت بعدئذ الى الفنون الاخرى، مثل الفن التشكيلي (رسما ونحتا)، ثم الى الفن السينمائي، ونظن، انه من المهم والمناسب جدا ان نشير هنا، الى ان المرحومة أ.د. حياة شرارة كتبت مقالة في جريدة الجمهورية البغدادية في الربع الاخير من القرن العشرين حول مسلسل تلفزيوني مصري عرضه التلفزيون العراقي آنذاك عنوانه (غريب في المدينة) وتابعه المشاهدون في العراق باهتمام كبير ولافت للنظر، وهو مسلسل مقتبس من مسرحية غوغول (المفتش)، وجعلوا احداثه تدور في مصر آنذاك، ولازالت المصادر المختلفة عن حياة شرارة تتحدث عن اهمية تلك المقالة في تراثها الفكري حول الادب الروسي وارتباطه بالعالم العربي وتفاعله معه وتأثيره عليه، وغوغول ومفتشه طبعا هو المحور المباشر لكل ذلك الارتباط والتفاعل هنا قبل كل شئ، والذي تناولته المرحومة حياة شرارة في مقالتها تلك بعد قرنين تقريبا من ظهور مسرحية غوغول (المفتش) في روسيا نفسها، والحليم تكفيه الاشارة طبعا .

 مقالتنا هذه  تتناول تاريخ مسرحية (المفتش) لغوغول في الفن السينمائي، وظهور افلام سينمائية لمفتش غوغول تعني (فيما تعنيه)، ان هذه المسرحية لازالت تتعايش مع عصرنا الحاضر وتتفاعل بحيوية معه، وهذا تأكيد واضح و جديد على عدم دقّة تلك الاقوال، التي أشرنا اليها حول علاقة المسرحية بنظام سياسي معيّن ومحدد . ومن الطريف والمهم ايضا ان نشير، الى ان اول فلم سينمائي لمسرحية غوغول لم يكن فلما روسيّا، اي ان (المفتش) الروسي في مدينة روسيّة لكاتب مسرحي روسي لم يبتدأ سينمائيا في روسيا، وانما ابتدأ في اوروبا، اي خارج روسيا، لان موضوعة المسرحية تعتبر ظاهرة عالمية فعلا، اما في السينما الروسية فتوجد في بعض المصادر اشارة الى فلم صامت ظهر عام 1912 ولكن لا توجد منه الان اي نسخة ولم نجد مراجع عنه بتاتا، ولكن الانتاج الحقيقي لاول فلم روسي لهذه المسرحية ظهر عام 1952 فقط، بعد ان خرجت روسيا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتنفست الصعداء قليلا، وبدأت تضع لمسات حياتها الاجتماعية الاعتيادية، وكان من الطبيعي ان تنتبه – قبل كل شئ - الى ادبها العملاق في القرن التاسع عشر، وهكذا ولد (مفتش) غوغول في روسيا من جديد، ولكن ليس في المسرح، وانما في السينما هذه المرّة، لأن الفن السينمائي اصبح سيّد الفنون في القرن العشرين، ان صحّ التعبير. لقد التزم فلم عام 1952 حرفيا بالنص كما كتبه غوغول لدرجة، ان احد المعلقين قال عنه ساخرا، ان تلاميذ المدارس يمكن ان يشاهدوا هذا الفلم بدلا من قراءة النص المطلوب حسب المناهج الدراسية، وربما هكذا كانت خصائص وصفات الافلام السينمائية السوفيتية في تلك المرحلة بالذات من مراحل مسيرتها، الا ان الانتاج الثاني سينمائيا للمفتش قد تحرر من (..ذلك الالتزام الحرفي بالنص الغوغولي..) في الفلم الذي تم انتاجه عام 1977، و حتى بالنسبة لعنوان  الفلم، اذ  جاء الفلم بعنوان – (متنكر من بطرسبورغ)، وليس (المفتش) كما هو عند غوغول، والعنوان الجديد قول مقتبس من نص تلك المسرحية ولا يتعارض بتاتا معها، بل بالعكس، فهو يؤكد على جوهرها، اذ ان المفتش كان يجب ان يكون متنكرا فعلا ومن بطرسبورغ بالذات . لقد حاز هذا الفلم على نجاح باهر في حينه، ولازال يشغل مكانة متميّزة بين الافلام الروسية لهذه المسرحية، بل ولازال مطلوبا من قبل المشاهدين لحد الان، اذ انهم يجدون فيه (كما قال احد اصدقائي معلّقا على هذا الفلم!!!) بقايا تلك المظاهر الواضحة والصارخة – بعض الاحيان - في مسيرة حياتهم اليومية بروسيا المعاصرة في الوقت الحاضر، وهي مظاهر (معشعشة!) هنا وهناك، والتي تجعل مفتش غوغول (حيّا يرزق !) في الحياة الروسية .

الانتاج الثالث لمسرحية (المفتش) ظهر عام 1982 في السينما الروسية، وهو في الواقع مسرحية قدمتها فرقة مسرح (ساتيرا) الروسي بموسكو، وعلى الرغم من تحويل هذا العرض المسرحي الى فلم سينمائي، الا ان الاجواء المسرحية بقيت واضحة المعالم في هذا الفلم، اما الانتاج السينمائي الاخير للمسرحية فقد تمّ في عام 1996، ولم يكن هذا الفلم تنفيذا حرفيا للمسرحية تلك، وانما جاء (حسب موضوعها العام) فقط، رغم انه لم يبتعد عن الاحداث الرئيسية للمسرحية .

مفتش غوغول لازال يعيش بيننا، ويمكن له ان يظهر في كل مكان، عندنا وفي اجواء  عالمنا العربي خصوصا، وعندهم ايضا، والا لماذا يعودون اليه لحد الان في فنونهم المتنوعة ؟   

من كتاب – (خمسون مقالة عن غوغول)، الذي سيصدر قريبا عن دار نوّار للنشر في بغداد وموسكو قريبا .

***

ضياء نافع  

في المثقف اليوم