قراءات نقدية

"من علو هاوية" للشاعر عبد اللطيف الوراري وجوانية مفهوم الإنتماء في شعرية ترديد الآخر

ahmad alshekhawiملء السنابل تنحني بتواضع     والفارغات رؤوسهن شوامخ

بزخم ما يحيل عليه هذا البيت المأثور من أسمى معاني الوجود الإنساني والكينونة كمعادل لما يمكنه تجسيم الجود الأسطوري للنحلة وترجمته إلى واقع وتجربة حية في اتسام الصلة بالآخر، أراني استقبلت النسخة الرقمية لخامس مجاميع أستاذي وصديقي الناقد الشاعر والشاعر الناقد عبد اللطيف الوراري . أنعم وأكرم بهديته التي اهتزت لها روحي الظمأى لبرود ينابيع الكلم ونضج الرؤى والتيمن بسير العظماء.

هكذا وعلى امتداد جغرافيا غرائبية لمنجز رصعت تمفصلاته الأربع بتسع وعشرين قصيدة تقصر أو تطول أو تزدان بالقناع الومضي والشذري حسب تسارعات صبيب البوح الصارخ بإيقاعاته الداخلية،وكذلك الالتزام بقوالب تفريغ الحمولة الوجدانية الضاغطة.

لم يخب ظني في هامة مدهشة حدّ إرباك ذهنية التلقي وتنقيح المزاج وتلطيفه . هامة الضلوع الواعي في سياقات توليد المعنى الزئبقي والجديد للوجع اللحظي في خضم أسئلة وجودية راكمتها الذاكرة في انجذابها إلى جذور التموقع بين رمزية البرزخ وعلائقه بتناسل دوال مفاهيم الانتماء المنطلقة من الذات الشاعرة،ومن جهة ثانية جدلية حلمية الراهن و طقوس الاحتفاء بالحالة الإنسانية باعتبارها الصدى المباشر لشعرية ترديد الآخر كقرين.

شَرِقتْ بِرُوحي غَيْمتان،

لهذه الأسباب ، أُ بْعث بينكم.

لا .. لا لِأَني مِتُّ مِنْ زمن بعيد،

بل لِأنّي

لَمْ أَنمْ

إن الفصل الأول من الديوان يؤرخ لدمغة مستقبلية تصحح أو تعالج بالمعنى التنظيري العميق، إستطيقية الوصل بين الذاكرة وإيديولوجية النسيان جراء مخاضات ثقافة التكريس لبعد فلسفي تستغرقه عدمية نبض الماهية بشاعر يكتب خلوده غير منقوص.

تلكم حفريات الفضول الرامي إلى إحداث بوابة ذاتية مشرعة دوما على عوالم توديع نظام مكرّس لسطوة التعتيم وهيمنته و تفخيخه بطابوهات عري نهارات المعاناة،وأيضا تجليات كوميديا استقبال مناخات لا مرئية ترسمها لازمة اللامكان واللاإسم واللالون مفجرة بذلك طاقة كامنة وفاضحة للمكنون.

على غرار ذلك تزدهر تقنية استدعاء الاستعارة الكلية خدمة لغرض تشكيلات جمالية تتماهى مع الصوت الداخلي المتمرد على الحبكة أو النسق،والواعد بمعنى التعدد والتجدد والمتغلغل في نفَس المغاير الطوباوي والاستثنائي في فرو يستجلب للذائقة انتشاء حد الثمالة وغيبوبة التلقي.

تلكم شاكلة إقحام أنوية الافتخار بحظ الذات الشاعرة أو حصتها من هواء نظرة العالم إلى الغد، على نحو يقتضي تقديم الجدة والإضافة على مستوى الخطاب المعرفي والفني .

وثمة رؤية تراوح بين ضبابية المشهد و بصيرة إيقاف زمن السردية الشعرية في فانتازيا نفض الغبار عن سيرة ثالوث انسجام الذات والآخر والكون،إيقافه بين ضفتي نهار راحل وليل ترجى سرمديته وإقامته تؤثثه توظيفات محكمة للمكون الطبيعي المشدود من حيث هيمنة رمزيته وإيحاءاته إلى ذاكرة النسيان، و الأساليب الحضارية جدا لجذور مواطنة الاحتفاء بالهوية والانتماء.

هكذا تنساب القصائد موقعة اصطداما مخمليا يدغدغ الذائقة و يعمل على إشباع الفضول المعرفي تثريه ذاكرة الرموز كما سيتضح لاحقا. قصائد تتدفق رافلة في حلزونية التفافها وإكمال الدورة حنينا إلى الجذر، الفكرة الأم ، عنونة الديوان، من علو هاوية ، الهامسة بمفارقة تستفز المتلقي مذ أول عتبة لخوض مغامرة تأويل ممكن من قطوف ما ورائيات ألوان لوحة شعرية سيرذاتية آسرة ونادرة.

هذا وينفتح فصل المجموعة الثاني على استعمالات لا شعورية للرمز الإنساني ،مترنما بذكراه التي قد يناوشها غياب الحضور كما في نص" على خطى عبد الكريم الطبال" ضمن أيقونة بعده المفاهيمي المحيل على سيمياء التأصيل لثقافة النضال الإبداعي وممارسة الأدب الجاد والملتزم.

ناهيك عن أجواء قصائد التماس مع قاموس النهل من معجم اليومي والسائد والهامشي مثلما في نص" ساعات كازابلانكا" الثري حد التخمة بالتيمة النارية وولوجها الضمني في خلق تقاطعات سمعية بصرية رسالية تتناغم ومفردات النزوع الإنساني.

فيما تفصح قصائد الفصل الثالث عن حمولة نفسية أعمق انصهارا في فوقية المعاناة، ساطعة بأغنية تعنيف استسهال القصيدة المتهمة والمتسربلة بتجدد رحم المجهول،وما ينمّ عن نظير ذلك في تمثلاته المتمحورة على أنسنة الكائن الورقي والارتقاء بالممارسة الشعرية فوق تفاصيل وحيثيات الحياة إجمالا.

وختاما، يسدل شاعرنا المتمكن من أدواته والواثق من حرفية تعاطيه كتابة جوانية بغرض ترتيبات ذاتية تغذيها هواجس توليد مفاهيم طيفية ومحايثة تتيح تصورات حداثية للانتماء،وطافحة بشعرية ترديد الآخر.

بعد أن هرّبوني رَضيعاً،

وارتطمتْ بقاربي أنباءُ الغيب

ووصلْتُ بأُعجوبةٍ إلى امرأتي العزيزة،

جاؤوا يثأرون لي من لُغوِيٍّ مُبين.

*

لا أتذكّره في مشيته إلاّ بالكاد،

وأكادُ أجزُم أنه طاف ليرى أباه.

ذلك الطفل الذي كانَني

خان ظني به وهو يتعثّر بالحنين.

*

حكى لي جدي ألا تنحني.

إذا حل الشتاء رأيته،

منذ الفجر

يبذر الحبكة في توالي البرق.

*

أسمع الحفيف مذ وضعت رأسي على الأرض.

ليث الريح تثق بي

فإِني مثلك أيتها الأغصان

لي كتاب أسرار.'

*

أيها البحر،

هل تسمع مثلي

كيف تتأوّه الأمواج

في لعبة المدّ والجزر؟

*

الله، الله..

أي موسيقى هاته أسمعها

عندما أُلقي بالقصبة في الماء

تحت طائلة الأشواق.'

*

في القرية،

كان يغافلنا النوم

ونحن نتضور جوعا

قبالة القمر.

*

لم كفرت بالزؤان،

والبض من الأعشاش لمن تركتَها

تلمع في الليل

يا طائر الأشواق؟

*

قلت مثل هذا مرارا،وشرحته في أوقات الريح الطويلة؛

لكن غصنا يطير في نوم سنجاب

لا يسعفه شاعر يمشي بالكاد

من مباذل الحياة.

*

أحدّق طوال الليل في وجهك،وأتوقع البرق.

تلك السحب التي مرّت بي الصباح

تتراقص من عينيك،

وأسمعها تسيل بي قاب نهدين فأدنى.

*

لو تسمعني التي بالباب،

لو تسمح لي أن أقول لها ما معناه

إني اشتقت إليك

لولا هذه الأمطار التي أقعدتني عنك.

*

أعتذر لقلبي الذي مرِض،

منذ ما يزيد

عن الشعر

و نحو امرأتين.'

*

أستميحُكِ عذرا إوزّاتي التي في الجوار،

إن لم آخذك معي إلى المساء،

فقد شغلتني عنك

ذكرى جديدة.

*

إلا أوراقك لم آنس بها

في ليالي الخريف.

أيّ حبر أُشْرِبَتْهُ فيك لتحترق،

يا شجرةَ الخرُّوب؟

*

أقلّبُ وجهي في السماء، وأسرّ لكم نجم شارد باسم القصة.

يا لحمقي،

من حاك الذريعة بين الأرجل لترتكب الفظاعات التي اصطبغ

بها الفجر،

ثم صدّقناها طوال النهار؟

*

وحدانا وزرافات،

اقتطعنا المجاديف من لحمنا ومخرنا الليل.

ستشرق الوديعة

بعد أن ينبت الشيب.

*

...

*

لا أزال حتى الساعة

أغنّي

...

...

وعيناي

مغرورقتان

بالوعود.

*

رجاء،

أن تغفر لي عنادي.

رجاء،

أيها

اليأس.

قلت يسدل الستار عن أجدد روائع إصداراته بمطولة " شذرات من سيرة غير ذاتية " كفصل رابع وأخير مستنسخ لما قبله، ومتقوقع على حقول دلالية ومتتالية مجازات آهلة بالنرجسية المقبولة التي تكتب المألوف عبر توصيفات خارقة و مؤرشفة لما يوحي به ضديد المعلومة الأم ،و مختمرة النسغ بما مفاده أن النفاد أعمق ما يكون إلى الروح المكلومة والغوص في الدرك السحيق من جراحاتها ،ما هو في حقيقة الأمر إلا أحد صنوف السمو بهذه الروح إلى مراتب الكمال وخلود البصمة والمنجز.

من علو هاوية...

 

أحمد الشيخاوي/ شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم