قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة مبحثية في رواية (انقطاعات الموت) لجوزيه ساراماغو

ميتافزيقيا الشيفرات الواصلة وإظهارية دال الموت اللامتوقعة

الفصل الأول ـ المبحث (2)

توطئة: لا شك أن بعض النصوص الروائية تدخل موضوعتها في عمليات (حضور اللامحدد / مسوغات الشيفرة في زمن اللارتباط / ميتافزيقيا الآفاق الاحتمالية) بلوغا إلى مستويات خاصة من كفاءة العلاقات في إطار المحتوى الشكلي الموصول بشتى حسابات الدخولات في أفضية من الشيفرات النصية المصاغة في هيئات تستأثر لذاتها مجموعة من الوحدات المترابطة أو اللامترابطة في ضروريات المؤشر الدلائلي الراسخ والمرسخ في موضوعة النص الروائي.

- الروابط السردية شكلية متتابعة من ترويض الموضوعة.

ما تزال متواليات الأجزاء الروائية في محكي رواية (انقطاعات الموت) تعاود تعقب مواقعها السردية ذات الإمكانية الاسترسالية على جزئية (الأدلة الكونية) بالمقابل من تمويه الأسباب التكوينية في سياق حبكة (غياب الموت) كما وما يزال العمل الحكومي جاريا على قدم وساق، في نشر القوات الحدودية، حفظا لأي حالة من حالات الخرق الأمني الذي بادرة فيه تلك الجهات الدولية الثلاثة المجاورة، بصيغة الرد العسكري أو الغزو ربما، لو تكررت ظاهرة اختراقات من النوع ذاته التي حصلت في الفترات السابقة من زمن غياب الموت.

1 - آليات الموت المعلق ووسائط المافيا في خرق المواثيق:

من الواضح أن (جوزيه ساراماغو) في خطوط شواهد ومظاهر حبكة روايته، كان يلوح إلى بث مؤشرات سياسية أكثر غموضا من موضوعة غياب الموت ذاتها عبر مواطن البلاد، فهو يقدم بالتفاصيل المفرطة بالإشارات والحوادث الأخبارية، ما كان يحدث من ملامح تلخص حقيقة متصلة بجملة إجراءات السلطة الحكومية ذات المظهر الراصد إلى كيفية معالجة هذا الحدث الكوني الخطير: (حكومات البلدان الثلاثة المجاورة التي ثارت حفيظتها لاستمرار اجتياح أراضيها من قبل فرق دفن ـ مافوية ـ منظمة أو عفوية، قادمة من تلك الأراضي الشاذة التي لا يموت فيها أحد ـ بعد احتجاجات دبلوماسية غير قليلة لم تفد في شيء..قررت الحكومات الثلاثة في عمل منسق، أن تدفع قواتها وحامياتها الحدودية إلى التقدم، مع أوامر واضحة بإطلاق النار بعد التحرير الثالث./ص68 الرواية) وعلى هذا النحو صار من المألوف رفع كلفة رجال المافيا ممن كانوا عرضة لعمليات تصويب النار نحوهم قتلى، ولأنهم خارج حدود البلاد فكان أمر موتهم يسيرا.أقول أن معضلات السرد في رواية ساراماغو، تتحمل الأعباء الشديدة، كونها مشحونة بالتفاصيل الأكثر بلوغا من المعتاد في توصيف الأحداث وفق طبيعتها الاستدلالية.وهذا الأمر ما راح ينسحب على جهات مركزة من اشارات (موقع الراوي العليم) الذي لا ينفك بالسرد تقدما نحو رصد المزيد من المظاهر والحالات الموقفية في المشاهد الخارجية من النص.

2 ـ الوظائف الشخوصية والمواقف وهيمنة الراوي:

لو تأملنا البنية الروائية في منظور مستوى وظائف الشخوص ونمو المواقف، لوجدناها محققة من لدن ملفوظ ومرسلات السارد العليم، بل إن حتى شروع مظاهر الزمن وتحولات المكان، حلت في حدود تراتيبية موصوفة من قبل الراوي نفسه، فهل لنا أن نسأل في هذا الصدد: هل إن المراد الموضوعي في حبكة النص أن يبقى العمل الروائي لساراماغو مقاربة تستدعي علاقة قائمة بين السارد والنص تحديدا؟أم أن المستويات الأخبارية في محاور السرد تتطلب أن يكون ساردا متماثلا بالحكي الكلي والجزئي؟غير أننا ونحن نواجه وظائف السارد الرئيس والمؤلف الضمني في الرواية لاحظنا ضمور المواقع الأخرى من وظائف وتقانات السرد والوصف والزمن والحوار المونولوج والاسترجاع والاستباق، لتشكل ذواتها في محددات السارد الكولوجية والتثاقفية، فهل من الممكن أن يكون مراد جوزيه ساراماغو هو الخلوص بوظائف متعددة في وظيفة أسرار السارد المتعدد؟ .من هنا يمكننا فهم الإقرار النقدي منا، بأن باقي مكونات النص الروائي، بدت أكثر تضامنا مع استشرافية السارد الرئيس، حيث إن السياق الروائي العام في ذات النص غدا يكشف بالمقابل من انعدام الوجود الشخوصي المتعين عبر جهاته العاملية، ذلك التباين والتماثل في الاشارات والعلائق المبثوثة من منطلقات الذات الضمائرية الناظمة كليا.ومن خلال هذا الأمر بالعمل في طرائق السارد المتعددة، غدا التصنيف المشخص في مركب المادة الروائية هو (هيمنة السارد الرئيس؟) دون فقدان العمل الروائي إلى إمكانية وديمومة الأسباب الوظيفية الأخرى ـ التعيينية ـ في النص.ونظرا إلى خيوط الحكي المباشرة من الأصعب إلى الأهم تباشرنا وظيفة السارد العليم بأكثر من وجه وزاوية ومنظور وخلفية سياقية.ولأجل أن لا نتغافل نقول بالإشارة المشخصة إن هناك حضورات شخوصية في مسرح الرواية ، كشخصيات (الوزير ـ الوزير الأول ـ الملك = السارد المهيمن) نظرا إلى كون طبيعة المحكي في موضوعة الرواية، تتطلب فراسة خاصة في الوظيفة الإيصالية في أبسط الأحوال، لذلك فمن غير الممكن تعيين محاور شخوصية لا تفي بدور تحريك الخيوط الحبكوية أو السردية. ومن بين التوصيفات التي يمكننا إسباغها على النمط من انعدام تواجد المحاور الشخوصية البارزة في النص، بأستثناء طبقة الوزراء ورئيس الوزراء وصوت السارد العليم، وذلك لأن أداة التبئير تتركز في طبقة الجهة الحكومية وكيفية فعل تدبرها لأمر كوني خارق للعادة والمألوف..ولو افترضنا بأن هناك فواعل شخوصية ما فما دورها سوى ندب حظوظها أو مقادير شقائها وهي تتحلق حول سرير رجل مسن غير قابل للموت أبدا.من هنا تتضح ضرورة إشارات المؤلف النسبية حول بعض الشخصيات الهامشية في الرواية، لكونها لا تعد بالصلة الأداتية والتبئيرية الكاملة في مصدر توقف الموت ومخلفاته الاقتصادية والسياسية والدينية على الطبقة السياسية الحاكمة.ما نود قوله من وراء استطرادنا هنا وهناك، أن مدلول غياب الموت له علاقة حميمية مركزة بالطبقة السياسية تحديدا.

3 ـ تكاثرية سرد التفاصيل في خيوط الحكي:

قبل الخوض في مجال أطروحة هذا الفرع المبحثي علينا أن نعلم من أن الرواية هي بذاتها المبنى المخصوص بالاستعدادات التفصيلية المتوغلة في أدق شعاب الصلب المادي والمعنوي من آليات وصف الأشياء والأحوال الذواتية والزمكانية، لذا فإن صورة توصيف دلالة ظاهرة تتعلق بحدث كوني محتمل التخييل في حدود معطيات حرجة، لابد وأن تكون للروائي القابلية الخاصة في متابعة تفصيل الأدلة الواردة واللاواردة من قبل هكذا محكي يختص أولا في ما يختص بحجم التراكم الكمي في الموارد البشرية الفائضة، والسبب الآخر في ما يتعلق ومستوى ردود أرباب الكنائس وتكهناتها التلاعبية في شأن المصير العام والخاص للبلاد، ومن ثم ما ينتجه زمن الطبقة الحاكمة وردود فعلها إزاء هذا العطل المقيت في عجلة الزمن الوجودي.من خلال الخطاب الروائي يمكننا لمس مدى الانحرافات السائرة بين الوزراء ورئيس الوزراء ثم أخيرا الملك.ففي زمن الحبكة المتاحة في الأجزاء الروائية، تصادفنا وقائع معتادة من نوعها جاءتنا حول فساد القيم والمبادىء لدى مؤسسة المافيا المكلفة بدفن الموتى النهائيين: (المافيا لم تتمكن من نبش اظفارها المعقوفة في كل قطاعات مجتمع منقسم بين الأمل في الحياة الدائمة والخوف من عدم الموت - كانت الكرامة آنذاك طريقة للسمو والرفعة في متناول جميع الفئات..وبالرغم من كل شيء، وبالرغم من المنتحرين المزيفين وصفقات الحدود القذرة، فقد ظلت الروح ترفرف فوق الماء./ص79 الرواية) من الجدير بالملاحظة القصوى أن الحبكة ـ التبئير، قد أخذت في ذاتها محمول موضوعة الوحدات السردية، مأخذا محاكيا إلى جملة من نظريات فلسفة (مارتن هايدغر) حول مفهوم الوجود وكينونة الأنا المتسامية، التي قد تحولت في بعض وحدات الرواية إلى مستوى من المساءلة الفلسفية: (الروح تنظر إلى السمكة الصغيرة الحمراء الساهية وهي تفتح فمها لأخذ الماء، وتسأل وقد صارت أقل سهوا، منذ كم من الوقت لم يجدد الماء، كانت تعرف جيدا ما أرادت السمكة قوله وهي تصعد لتشق الطبقة الرقيقة التي يختلط فيها الماء والهواء..في هذه اللحظة الكاشفة بالضبط ظهرت لها، صافية وعارية./ص80الرواية) إن الغائية المدلولية ها هنا متعلقة بالجهة الفاصلة بين مساءلة (اللاتحجب؟) في جدلية الموت والحياة، فهناك الروح الحائمة التي تعد بمثابة السمو في البعد (الميتافزيقي) فيما تبقى السمكة في حوضها تشكل بذاتها هوية الكائن المقيد بالمادة، ثم بالتالي هناك تلك الحوارية بين الروح والفيلسوف المتدرب: (الروح التي ترفرف فوق الحوض: فلنتحدث عن الموت؟ليس عن الموت، بل الميتات، وقد سألت عن سبب عدم موت الكائنات البشرية، بينما تموت الحيوانات الأخرى، ولماذا لا يكون سبب عدم موت أحدهم هو السبب في عدم موت الآخر./ص81 الرواية) .

4 - محكومية محايثة الموت بين ديمومة السؤال وفلسفة الروح:

إن جدل القيمة الحوارية الدائرة بين (الروح =الفيلسوف) حول حقيقة وماهية الموت، بدا لنا تشخيصا مفترضا عن ذلك المسند المثار في الفلسفات الإغريقية والكانطية وحتى فلسفة مارتن هايدغر.وهذا المجال بدوره ما بدا دخيلا على وحدات السرد في الرواية أولا وأخيرا، رغم عدم يقينية الفكرة ورجاحتها في الأدلة الوجودية تماما، لكننا نقول بأن ساراماغو أراد من وراء هذه الجدليات في المحاورة، إثبات مركزية الموت على كونه حالة صحية للوجود، وبعدم وجوده، فهناك ما يحدث معبرا عن النقصان في المعادلة الكونية، وبانفتاح حديث الروح عن موت الكائنات دون الجنس البشري، فما هي إلا خطاطة في تداول الكلام بجواز كون موت الحيوانات هو العائق للموت البشري، رغم تجدد الماء في حوض السمكة فهذا لا يمنع من كونها تموت أخيرا.وبهذا النحو توافينا تلك الرسالة المتروكة من دون علم السكرتيرة للمدير العام للتلفزيون، والتي في ظاهرها لا تحمل لأي جهة مرسلا أو توقيع حتى، وعندما يحضر المدير العام إلى مكتبه صباحا كعادته يوميا يتفاجأ بوجود رسالة تحتوي على ورقة مخطوطة بخط يد ضعيف: (: أرجوك يا سيادة رئيس الوزراء ؟: لا بأس بما أنك تلح، تعال، وآمل أن يكون في السر ما يستحق العناء./ص102 الرواية) إن حالات النص الروائي تحقق لذاتها درجة كبيرة من الإتقان والذروة في مخفيات الكشف المبثوث في وظائف الأفعال المحكية والحوارية، لو لا عدم إتقان بعض الجمل الحوارية في النسخة المترجمة للرواية، إذ بدت الجمل الحوارية وكأنها سائبة دون جهة محددة بالحوار.أقول إن طبيعة تلك الرسالة التي وصلت مكتب المدير العام للتلفاز وبعد إطلاع هذا الأخير على محتواها أجفل واقفا وحافظا على سرية المحتوى وقد عزم جازما على أن يكون رئيس الوزراء المطلع الأول والأخير على ما جاءت به تلك الرسالة المجهولة المرسل.

ـ الكوميديا السوداء بين انبعاث الموت وخطاباته المذيلة

من أهم الإشكاليات التي تطرحها الأجزاء المتوسطة من متواليات الفصول الروائية، تلك الخلاصة التي أظهرتها حقيقة محتوى تلك الرسالة والتي جاءت من لدن الموت نفسه.

1- زمن المخطوطة بين الحدوث الفجائعي ومأزومية الانفراج:

هكذا يتضح لنا ولباقي عناصر الرواية الشخوصية، بأن الموت كان في استراحة أو عطلة من نوع ما إن جاز لنا التعبير حول عمله في هذه البلاد، ولأنه عاده فقد أتضحت دلالات صورة الوفيات المعطلة كل تلك الفترات الزمنية، فيما تلقى المسؤولين في الدولة أخبار عودة الموت بصدور مسترخية: ( كانت الشوارع في حالة هائلة من الهرج والمرج..يرى أشخاص متوقفون بذهول، حائرون، لا يعرفون بأي اتجاه يهربون، وآخرون يبكون بتفجع، وآخرون يتعانقون، كما لو أنهم بدؤوا الوداع هناك ./ص115 الرواية) وعلى هذا النحو واجهتنا دلالة (مأزومية الانفراج) وذلك لكون مؤسسات المآتم والدفن وصناعة التوابيت لم تزامن واقع حدوثية رجوع الموت إلى البلاد، بعد انقطاعه الذي دام عدة شهور، لذا تكالبت حالات الوفيات بأعداد ضخمة، مما زاد منفعة العاملين في وسائط الخدمة في مؤسسات الدفن إلى حد الانتعاش الاقتصادي عند حاصل الدخل لأصحاب تلك المؤسسات: (خلال مكالمة هاتفية أخرى علم أن حفاري القبور يطالبون بزيادة كبيرة في أجورهم ودفع ساعات العمل الإضافية ثلاثة أمثال الأجر العادي./ص120 الرواية) تتابعا مع فصول ووحدات سردية أخرى نعاين بأن هناك وسائل رقابية ركزت على التحقيق في مستوى الخط المدون في الرسالة التي قام الموت ابعاثها إلى مدير التلفاز، وبعد الفحوصات المتأنية من قبل ذلك الخبير في الخطوط، أقر في نتيجة فحصه بهذه الجمل: (السيد أختصاصي الخطوط على صواب، هذه كانت كلماته بعد قراءته العرض..إلا إنه من غير المفهوم، إذا كان الموت ميتا./ص129 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

لا شك أن القارىء إلى تجربة رواية (انقطاعات الموت) لربما يجد فيها ضربا من ضروب (الكوميديا السوداء) أو ذلك النمط من الأدب العجائبي، ولكن في حقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك.فالرواية تجربة جادة في ندرة موضوعتها وأحوال هويتها الدلالية، ولكنها ذات علاقة انتقادية جازمة حول مهاترات السلطات السياسية، إلى جانب تحول منافع الفرد الشخصية على حساب خسران الأخرون من الفقراء والمساكين من الشعوب، كما ولا نريد طرح كل متعلقات الرواية الجوهرية في مباحث دراستنا لها بطريقة مهلهلة، بل إننا نود مقاربة أجزاءها في حدود من المعاينة التحليلية التي توفر لدراستنا أخيرا ذلك الشكل المختبر من تقويم تجربة الرواية في آفاقها المعلنة واللامعلنة. مرورا إلى أهداف مبحثنا هذا الذي سعى إلى الاحساس الذائقي، في كون بعض من الأجزاء الأولى والمتوسطة للنص، ظلت كركائز موضوعية تتمثل في مسرودها بما يقارب: ميتافزيقيا الشيفرات والإظهارية المحتملة من حسابات ومدروسيات الزمن التأليفي الذي أربكنا بدوافعه المؤسسة على مظاهر الدلالات الضمنية والمضمرة في مجابهة معادلات غياب وحضور حكايا الموت .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم