قراءات نقدية

القصة القصيرة في الأدب السويدي

عُرِفتْ القصة كجنس أدبي  لأول مرة  في السويد في بدايات القرن الثامن عشر ويعتبر "فيليهليم بالمبلاد" أحد رواد القصة منذ نصه (أمالا) الذي كتبه في العام 1817، الشكل البدائي لكِتاب المجموعة القصصية جاء مع:"فريدريكا بريمير" في العام 1828 من خلال كتابها " رسومات من الحياة اليومية" والذي ضم  ثلاثة نصوص . لكن  بقيت  تلك الأعمال ضمن دائرة القصة الطويلة الأقرب منها إلى الرواية القصيرة حجماً وصياغة فنية. ثم ومع " أوغست ستريندبيرغ " الذي على الرغم من أن المسرح والرواية أخذت الحيز الأكبر من أعماله لكنه أيضاً أبدع في مختلف الأجناس الأدبية وساهم في تطوير  القصة القصيرة  مع مجموعته القصصية "متزوجون" 1884و من ثم  يلمار سودربيرغ "من خلال مجموعته: " قصص " 1898. و"بير لاغركفيست " في حكايا شريرة  1924 ثم ألعاب الليل 1947 لستيغ داغرمان وعلى الرغم من أنه في السويد كما هو الحال في البلدان الأخرى ينظر دوماً إلى الرواية  على أنها تمثل الأدب الحقيقي. ونادراً ما يُسأل أحد الروائيين متى نستطيع رؤية نتاج قصصي لك؟! فيما متى سوف نرى لك عملاً روائياً ؟ هو سؤال يتم دائماً طرحه وبشكل متكرر على كُتاب القصة.  هكذا كان عليه الحال قديماً وحتى يومنا ومع ذلك فان القصة  نمت وتطورت وسُلطت عليها الأضواء حيناً فيما  أحياناً أخرى وضعت على الرف ولم تحصل على نصيبها في الظهور.  وهناك قصص كثيرة تركت بصمات قوية على الأدب السويدي، بعض تلك النصوص تحولت إلى سيناريوهات أفلام سينمائية واذاعية وأخرى إلى نصوص تعليمية في المناهج الدراسية الرسمية وهنا نذكر بعضاً من تلك الأعمال:

"معطف الفرو " ليلمار سودربيرغ 1898، قصةٌ أبدع سودربيرغ في خلق بنيان درامي متماسك في نص قصير يشكل معطف الفرو  رابطها من البداية إلى الحبكة ووصولاً إلى الخاتمة .

"يد الشبح "سلمى لاغرلوف 1898، عن حياة فتاة يتيمة تعيش في بيئة شبيهة بالسجن تحت وصاية عماتها.

"أبي وأنا " بير لاغركفيست 1924. عن صبي يخرج في وضح النهار مع والده إلى الغابة ويستمعان إلى تغريد الطيور ويعودان عند حلول الظلام، الصبي القلق الذي يخشى العتمة يدرك بأنه يوماً ما سوف لن يبقى والده إلى جانبه لاسناده في الحياة وأن عليه الاعتماد على نفسه.

"ايلا تحرر نفسها "  كارين بوي 1940 ، "إيلا " تعيش حياة زوجية يتحكم الزوج في مفاصل حياتها، لكنها في النهاية تقرر أن تتحرر من هذا التحكم وعلى الرغم من أن القصة لاتنتهي بالانفصال إلا أن "إيلا" تتوصل إلى قرار الاعتماد على نفسها والتخلص من هيمنة الزوج عليها.  

" أن تقتل طفلاً 1948" .  ستيغ داغرمان: "إنه صباح سعيد ليوم مشؤوم لأن في هذا اليوم سوف يُقتلُ طفلاً في القرية الثالثة من قِبَلِ رَجُلٍ سعيد." من الجمل الأولى يُحْكِم ُداغرمان قبضته على القارئ ويضمن تشوقه لمتابعة الحدث حتى الخاتمة الحزينة. أن تقتل طفلاً نص فريد الانشاء والتركيب المنسق و له استثنائية مميزة حيث يُعدُّ من أوائل النصوص هذا ان يكن أول نص في الأدب السويدي فيه تُسرد الوقائع بصورة متوازية من منظور الطرفين المختلفين المشاركين في خلق الحدث.

"الأنسة " سارة ليدمان 1954، ووصفت" جريدة سفنسكاداغبلادت " القصة بأنها جوهرة "ليدمان "في وصف الوحشية والرحمة.

"نصف ورقة" 1903 هو النص المرفق ل"أوغست سترندبيرغ " وبترجمتي من السويدية، ويُعدُّ هذا النص من النصوص الكلاسيكية الأكثر شهرة ليس فقط على مستوى السويد بل عالمياً  وهو مترجم إلى أكثر من ثلاثون لغة:

"نصف ورقة

آخر نقلة من أثاث المنزل أُخرجت، المستأجر شاب يرتدي قبعة عليه زهرة الحِداد يتجول مرة أخرى في أرجاء البيت لكي يتأكد من أنه لم ينسى شيئاً تبقى.

لا، إنه لم ينسى شيئاً، لا شيئ على الاطلاق. وهكذا خرج إلى البهو عازماً على أن لا يفكر بتلك الفترة التي عاش في هذا الطابق. لكن انظر ..هناك في بهو الدار نصف ورقة عالقة بالقرب من الهاتف، وهي مليئة بالكتابة وبأنواع متعددة من الخطوط وكذلك حال الحبر  وأخرى  مخطوطة بالقلم الرصاص أو بقلم حبر أحمر اللون . مكتوب عليها وقائع الحكاية الجميلة كلها، التي حدثت في تلك المدة المحددة، المؤلفة من عامين من الزمن، كل مايريد نسيانه مكتوب هنا، شطر كامل  من حياة عائلة في نصف ورقة.

أخذ نصف الورقة تلك والتي كانت من ذلك النوع من ورق المسودات صفراء اللون مما يبدو عليها. وضعها على غطاء الموقد المتواجد في الصالة، وانحنى نحوها وبدأ يقرأ. في البداية مكتوب اسمها:" أليس"، أجمل اسم عرفه حينذاك، لأنه كان اسم خطيبته, والرقم 151،1. تبدو مثل أعداد إحدى الترنيمات الكنسية. ثم بعد ذلك مكتوب: البنك. حيث كان يعمل هناك، ذلك العمل المقدس الذي من خلاله تَأمّن  المأكل والملبس والزوجة والمسكن أساس الوجود.  لكن كان مشطوباً عليه ! لأن البنك كان قد انهار مالياً ولكنه كان قد أنقذ نفسه بالانتقال إلى بنك آخر  وذلك بعد فترة مليئة بالقلق.

ثم بعد ذلك جاء: محل تاجر الزهور، الحوذي.. تلك كانت مرحلة الخطوبة إذاً وكان بحوزته الكثير من المال. ثم بعدها تاجر الاُثاث، معلم تركيب ورق الجدران،عش الزوجية . وكالة النقل السريع: ينتقلون إلى البيت .مكتب تذاكر الأوبرا: 50.50. أي أنهما متزوجَين الآن ويذهبان معاً الى دار الأوبرا أيام الآحاد, أفضل لحظاتهما حين يجلسان بصمت وينسجمان بتناغم مع  الجمال على أرض الخيال في الجانب الآخر من الستارة.

هنا أيضا اسم رجل ما مشطوب عليه، كان أحد الأصدقاء وكان يحظى بمكانة مرموقة في المجتمع ولكنه لم يستطع الاحتفاظ بتلك المكانة والسعادة وأُنزل من مرتبته بلا حول ولاقوة وأصبح ملزماً بالسفر بعيداً. هكذا هشاً كان.

هنا شيئاً ما جديداً  يدخل في حياة الزوجين. مكتوب بخط يد  امرأة وبالقلم الرصاص. امرأة أية إمرأة ؟! نعم تلك المرأة التي كانت تريدي معطفاً طويلاً وتتمتع بوجه سَمح، والتي تأتي بهدوء ولاتعبر من خلال الصالة بل إنها  تدخل عن طريق  الممر إلى غرفة السرير . تحت اسمها مكتوب "دكتور . ل".

لأول مرة يظهر هنا اسم أحد الأقارب. مكتوباً " ماما". انها الحماة التي آثرت عدم الظهور لكي لا تعكر صفو حياة زوجين جديدي العهد،  لكن هنا حيث وقت الضِيق فجاءت بكل سرور  لتلبي حاجتنا الى مساعدتها.

هنا تبدأ خرابيش كبيرة باللون الأزرق والأحمر: مكتب عمولة: الزوجة الشابة قد انتقلت، أو سوف يتم تعيين موظف جديد. الصيدلية. ه.مم.مم! العتمة تزداد ! شركة الألبان. هنا يُطلب الحليب الخالي من الدرنات. محل عطارة، الجزار إلخ! بدأ تسييرَ أُمورَ المنزلِ يتم عن طريق الهاتف، لأن الزوجة لم تعد في مكانها، ولأنها أصبحت طريحة الفراش.

ما جاء بعد ذلك  في نصف الورقة ِتلكْ لم يعد يستطع قراءته وكأن غمامة أمام عينيه مثل مايحدث مع الغريق في البحر الذي يفتح عينيه وسط الماء المالح ليرى من خلاله. لكن هناك مكتوب: مكتب دفن الموتى .

انها تقول بما فيه الكفاية! ثم: تابوت كبير وآخر صغير. وبين قوسين مكتوب (من التراب) ثم لا شي مكتوب بعد ذلك! بالتراب انتهى، وفعلا انتهى كل شيء إلى تراب. أخذ الورقة الصفراء قَبَلَها ثم وضعها في جيب صدره.

خلال دقيقتين عاش عامين من أعوام حياته. حين خرج لم يكن مطأطىء الرأس بل على العكس خرج مرفوع الرأس مثل أي شخص سعيد وفخور. لأنه شعر بأنه كان محظوظاً وكان  لديه أجمل إمرأة. كم مسكيناً لم يحظى بشيء من ذلك  أبداً!"

***

فرمز حسين - ستوكهولم

كاتب ومترجم سوري

في المثقف اليوم