قراءات نقدية

أطفئيني بنارك.. قراءة في ديوان الشاعر العربي الكبير يحيى السماوي

hakim alsabaqعنوان يُخفي عطرَ البوح بينَ أضلاع الألق: لمبدع الكبير، يحيى السماوي يُمثّلُ ظاهرة إبداعية جديرة بالتناول بروح الإخلاص للكلمة، للابداع، للأجيال الآتية التي سوف يكون لها موقف فكري وأخلاقي اتجاه انتاجه الغزير على عمقهِ، يُصافحُ جذور النخيل تحتَ اعماق المعنى متوحدًا مع الزمن الذي يعيش بشتّى انواع التراجيديّات، ثمّ وهو يدوّن شاعريتَهُ بأناقة نادرة، يقفز الى الآتي من المستقبل كحالة انسانية واعية، تشرق خلالها روح وملامح نبوءة الشعراء المستوحاة من التماهي الكلّي بينه - كشاعر يعي دوره في الحياة - وبين الحياة التي تتشكّل بأشكال متغيّرة أمامه، ومعه، وحوله، فصورُهُ الشعرية عبرَ فضاءاته الحرّة تَتفقُ مع المقولة التي مفادها (الصورة الشعرية، ترتّب ُ احزاننا)، هو هكذا في دواوينه وانتاجه النثري، يُرتّبُ حزنه وحزننا بفنيّة عالية، رفيعة، للحرفيّة فيها بصمات لا تُنسى، وللحلم والتلقائية الروحية، تلك التي طالما تصاحب المبدعين الكبار، سماتها البارزة في الابعاد الدلالية لقصيدته، ومن هنا كانت اشارتنا: بانّ المبدع السماوي، سيحتفظ بمستقبله الشعري مع اجيال جديدة، لاتّساع الرؤى وتعددها في همّه الشعري والفكري، اضافة الى قدرة نصوصه على الانفتاح والتشكّل اعتمادا على ذائقة القارئ وثقافته، فالناقد القادم لن يكون بمنأى عن نصوصه المشبّعة بالخيال والصورة الشعرية المتجددة، سيتناولها -بلا شكّ - بعيدا عن التباسات الزمان والمكان، في فترة تصبح بها المواقف السياسية خارج محور الابداع النقدي، والاحتكاكات النرجسية تكون وضعتْ اوزارها، وقتَ لا يصحّ فيه الّا الصحيح المنحوت في الصدق النقي بأروع إلهاماته .

أطفئيني بنارك: أغلب عناوين الدواوين، تستمدّ معانيها من اللغة المعيارية، بمعنى ليس لها فعل المجاز، ولا دلالات نفسية، أو إيحائية، وربّما يتّخذه الشاعر علامة فارقة عن الدواوين الأخرى، ولكنّ العنوان الذي نحن بصدده -أطفئيني بنارك - رغم ان القارئ بعد أن ينتهي من قراءة نصوص الديوان، يظن بان عنوانه يتيم لا قصيدة تحمل اعباءه، ولا مقطع ينتمي إليه، والحقيقة التي نخوض غمارها، هي: بعد قراءته قراءة، تعتمد التأويل المعنوي، ومتابعة الجذور النفسية بهدوء صارم، وكشف التجلّيات الشعرية، وتسامي لغة البوح والتحوّلات التي يفرضها المؤثّر المكاني، والاحداث التي خرجتْ القصائد من رحمها عاكسة مضامينها بخيال يتّقد بزخمها ويتوسّع تحت تأثير فعلها، ثمّ تشابك وتداخل حالات المدد الشعري عبر مراحل التداعي الذي يفرض غيبوبة المبدع في ذاته الشاعرة، غيبوبة غير قطعية عن الواقع الحي، بل المزاوجة بين وسطين يمثّلان ملامح النصوص اثناء صيرورتها الانفعالية، عند التوغل حيث تستقر المعاني بين عذوبة الصور المتخيّلة والنزول معها الى قيعان الحافز الشعري والارهاصات التي بُنيتْ عليها النصوص من خلال اللغة كحقيقة حيّة تشير الى الفضاء النفسي بأدواتها المباشرة احيانا، وبمجازاتها وازاحاتها احيانا اخرى .

اقول إذا سبرنا غور ماذكرنا اعلاه -بلا شك - سنجد الصور الشعرية المصاغة برصانة عالية وعلى فترات زمنية متقطعة، سنجدها تتمحور حول العنوان: معنىً، او إشارةً او إيماءةً، وهي تمثّل المعطيات الاساسية للتواصل الذهني، والروحي لفكرة الديوان عبر نصوصه من جانب، ومن جانب آخر هي قادرة من خلال تأويلها الحسي والمعنوي على خلق مسافة فضفاضة حرّة بينها وبين المتلقي، تفي بربط المقدمات بالنتائج، وهي تُلقي إضاءة إلزامية على (اطفئيني بنارك) بألوان مختلفة، مما يدلّ بوضوح بان المبدع، انطلق من مركز ثقل واحد مهمّ جدا لتوازن العاطفة والعقل معا -هي المرأة التي لم تتجمّد جسدا أو روحا، وهي ليست الغاية القصوى في النصوص كعاطفة او جسد، وإنْ بدا ذلك ظاهريّا، وإنما هي اكسير التداعي الانساني ورمزه الفكري الذي يحمل مناصفة مع الرجل جميع الاسئلة وحلولها المتيسرة منها والغامضة أيضا باعتبارها المواكبة له خلقا وتأريخا واسطورة، لذا عاش المبدع اجواءه في ملامحها ورقّتها، عاش معها وحولها وخلالها، عاش التوازن الانساني بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى، التوازن الذي ينطلق من وإلى المرأة في جميع اشواط الحياة، مما يجعل المتلقي يبادله الادوار وهو يتقمّص شخصية البطل في قصائده .

 والعنوان ليس هو خطاب أحادي من مذكّر الى انثى، فقط تأمّل الحالة الوجدانية والكثافة الشعورية المرافقة للعبارة، ترينا صيغة حددتْها اللغة بسياقاتها المعروفة لفظيّا: توحي الى احاسيس الطرف الآخر، لمتطلبات حالة العشق الذي لا تعيش ولا تنضج ناره الّا على حدّيه النابضين بالاشتياق والغريزة الجسدية والتوق الروحي الشديد، نعم، هي صيغة توافقية، تبادلية لا تترك فراغا دون ان تشغله بالاشتعال بينهما - اطفئيني بنارك، هاهما يشتركان بالاحتراق والانطفاء معا .

(علم النفس يعرّف الشعر، بأنّه أثر اللاوعي في الابداع -- من مقال لريمه الخاني -مفهوم الابداع)، فقد كان التجلّي في معنى العنوان، يُمثّل عمق احساس الشاعر بمصداقية انهمر في لحظة الهامية سامية، (الخيال موهبة ثمينة وان الإلهام اقصى درجاته - هكذا قال فولتير ومارمو مونتيل -- مفهوم الخيال الادبي من مقال لريمه الخاني).

 أطفئيني بنارك، النار كائن مشترك بينهما دونها لا عشق، لا لقاء، لا هجر، لا شكوى، مَنْ يُطفئ مَنْ ؟! هناك حالة ترقّب تستدعيه الجملة، فهي في سياق المستحيل، اذا كان هو فقط، يطلق هذه الصرخة أحادية، بل هناك اشتعال على جانبي النهر، الماء ليس في الحسبان مطلقا،(وداوها بالتي كانت هي الداء)، وفي الاشتعال رماد، لا كما هو الرماد المعروف، والانطفاء الحسّي او المعنوي، خصوبة رائعة تُنبتُ معاني الجسدين وتُثمرهما في زمن لا يصدأ أبدا .

لغويّا: فعل الأمر له مستويات واسعة، تعتمد على حدّي المخاطِب والمخاطَب من ناحية، وعلى معنى الجملة المسندة إليه من ناحية أخرى،فتشكّل الوان قوس قزح منه تمتد من الامر التقليدي - من الاعلى الى الادنى - الى التمنّي والدعاء .... الخ ولكن أطفئيني بنارك، يخرج عن سياق اللغة المعيارية، فالمبدع ألبسه حلّة جميلة، رقيقة شعريا، ففي النصّ الادبي الابداعي، تكون الكلمات -رغم احتفاظها بجذورها الاولى لكنّها تلعب دورا مختلفا في المعنى داخل الصورة الشعرية، الكلمات في النصّ الناجح تتناسق وتلتحم مع بعضها خارج معجمها لتصوغ المعاني الكبيرة - هنا تعاملنا مع العنوان كصورة شعرية لها دلالة مكتنزة من البوح النفسي والتعبيري .

والزمن في فعل الامر هو المستقبل، الذي يبدأ بعد انتهاء المخاطِب من كلامه مباشرة، ويستمر الى ما لانهاية، وبخاصة في حالة الامر المطلق، مثل أوامر القرآن الكريم المتعلقة بالعبادات، ونصائح الانبياء واحاديثهم الطلبية، فهي تحمل زمنها معها، واوامر تتعلّق في التجارب الانسانية (فتعلّم كيف تنسى، وتعلّم كيف تمحو -- الاطلال) . فهي تتجاوز مكان وزمان الحدث الى ابعد ما يمكن، وتأسيسا على ذلك، فان الزمن في العنوان مطلق، يتجاوز حدود الديوان، ولو جاء يعكس ارهاصاته الشعرية بكثافة عالية، يستمدّ طاقته الإيحائية من خصوصية الاختصار فيه، وطبيعة المعنى الصوتي والدلالي لحروفه، في كتاب الخصائص - ابن جني، وفقه اللغة د،. صبحي الصالح: تأكيد جميل بأنّ حرف الفاء اذا مُزج مع بعض الحروف ومنها الطاء، فالكلمة تدلّ على الضعف والوهن، أطفئيني بنارك، هو الظمأ الذي اغرقته التباريح -شدة توهج العشق - بنار تشتعل بريح المُخيّلة المتحركة، القلقة الساخنة، يستغيث، الاستغاثة ضعف ووهن، وتألّق ايضا بدلالة النار، وفي العشق العميق، إضاءة حتميّة، وقوله: بنارك، اوجز لنا حالتها هي المشبعة بالتوقّد والانصهار، في نار العشق لغة لا تنطفئ مازال هناك روحان يبحثان عن لهيب لا عن ماء،بنارك: لم يتّهمها بالاحتراق، وانما اعترف بميزتها عن الأخريات،ولم يفكّر بالانطفاء الحسي قطّ،فنارها شاهدة عليه، في المعنى اشتراك معنوي حدّ التماهي، والانطفاء خرج بعيدا عن نفسه واصبح استلهام للذوبان الروحي والجسدي

لغويّا ولفظيّا: ربط المفعول بالفعل والفاعل (أطفئيني)، فالصورة الشكلية، توحي لنا المشاركة الفعلية، فلم يقل: أطفئي ناري بنارك مثلا، التداعي العميق والاندماج الكلي في الحدث الحسي ساهم برسم مسار محبب، ينسجم كلّيا مع الحالة، لقد كان خيال المبدع متوقّدا، احاط بالمكنون الخفي للمعنى الايحائي، تحت تألّق بكثافة عالية لشاعريته المثقلة بالحلم القديم، وما يجب الإشارة إليه، بأن للخيال سطوة لا تُقاوم، حين تحتدم الايقاعات النفسية ببعضها، (علم النفس الحديث عرّف الخيال:

بانّه صورة مجسدة للذات المبدعة -- من مقال لريمه الخاني مفهوم الخيال في الادب)

وبعد، فلنتصفّح الديوان:

 

كلّ المعاركِ خاسرةْ

إلّا انتصاري

حين يقتلني هواكِ

فألتقيكِ

على سرير من زهور التين والريحان ... الخ من قصيدة: عيناي نائمتان ص7

 ألتقيكِ = الأنطفاء - في اطفئيني، الحدث لا يتمّ الّا عن احد القربين: الروحي، او الجسدي او كليهما معا، و (يقتلني هواك)، هو انطفاء وعيش ونماء جديدان، والصورتان الجميلتان جاءتا لابراز اشارات العنوان بكثافة عن طريق تقابل الاضداد: الخسارة -- الانتصار، يقتلني هواك - فألتقيكِ، معادلة معنوية متوازنة جميلة، وكلاهما: يقتلني هواك، واطفئيني بنارك، موت، متألّق، تبدأ به ومن خلاله اسرار الحبّ بالوضوح والانتشاء،وثمّة ولادة لروحين هائمين على موجة واحدة من اللهيب .

 

فوجدتُ

أنّ ألذّها كان احتراقي في مياهكِ

وانطفاؤك في لهيبي ... من قصيدة عيناي نائمتان ص8 --

 

تبادل الادوار في مسرح عشق خصب واحد -- احتراقي في مياهك - بدلالة ياء المتكلم، انتمى المبدع للاحتراق واطفأها في لهيبه، ففي العشق الذي ينحت احلامه، ليس هناك اعتبار مهم للضمائر، فالمتكلم هو المخاطب، والمخاطب هو من ينوء بمهمّة الغرام، في العشق العذب جدا ليس هناك (برزخ بينهما لا يبغيان --قرآن كريم)، وإنما الروحان بكثافة نوعية واحدة، هما متداخلان حدّ ضياعهما ببعضهما.

 في المدد الشعري: الصورة الشعرية، تتكئ على مسوّغ لها باطني، لتكمل جانبا مهمّا من الحقيقة التي تحاول بانسيابية ان تعلن نفسها بصيغ المخيال الشعري، بعد ان نمتْ، وترعرعتْ في رحم التفاعل المثالي والنوعي بين واقع المبدع-حاضره الشاهد على الحدث الملتهب، وبين اللاوعي المكتنز بتأريخه وتجاربه الماضية المشابهة تماما لحكايته المتفاعلة معه لحظة صيرورة النص، هنا تتيقظ احاسيس كانت نائمة، تنتظر سكب ماء الحاضر على جسدها كي تأخذ زمام التعبير المتكامل على مهل وجداني رقيق، ثم بعد هذا المشوار البليغ روحيا وعاطفيا يلخصهما النصّ بحيوته، تظهر الصورة الشعرية بملامح يقبلها الذهن بحماس فطري لأنها تختزل الحاضر والماضي بأبعادهما الكامنة، فالصورة الشعرية الناجحة، تُثبّتْ وتشارك دلالاتها ذائقة المتلقي واحاسيسه، نعم، ليس هناك نجاح شعري حقيقي الّا بشمولية المعنى -رغم فردانية البوح فيه - الشعر في الحقيقة انسان، يتعرّف عليه الآخرون من ملامحه التي تشبههم كثيرا، خلاصة ما نريد قوله بهذا الصدد: الصورة الشعرية المتخيّلة هي حقيقة تجيء بملامح نحبّها، لنتأمّل الصورة الآتية:

 أنا المغامر في تهيّمه بكأس زفيرها

والصبيّ الجائع النيران في حقل الغواية، من قصيدة: كذّبتُ صدقي ص16

 من خصائص الخيال، كما يقول الاستاذ عبد الرحمن منصور: (ان يكون مناسبا لعاطفة الكاتب وانفعالاته .. الخ من محاضرة له عن الركن الثاني في النصّ)

الجائع النيران في حقل الغواية: معادل موضوعي للعنوان (اطفئيني بنارك)، فالعاطفة النبيهة التقطتْ بسلاسة وعناية صورتها المعبّرة عن خلجاتها، واستقرّتْ بتناسق مع البوح المنزاح من فضاءات الادراك المعنوي الى الادراك الحسّي الملموس، المغامرة، الزفير، و(الصبّي الجائع الذي تعطي معنى سرعة نفاد الصبر لخلو معدته من الطعام - دلالة على عنفوان العشق وقدرته الاسطورية على تركيع العاشق)، والنيران، وحقل الغواية، هي مفردات ترسم لوحة واقعية حقيقية لكشف الشعور المضمر الذي انتج المعنى بحرفية .

 فخذي بي للغد المأمولِ

مادمتِ تعمّدتِ نشوري حينما أحييتني

بعد موات . من قصيدة: البشيرة ص22،

 

فخذي بي، الجملة ترسّخ تقاربهما، واختلاط روحيهما بغزارة نادرة، و تعمّدتِ نشوري، تكفي لبرهان أن ليس هناك رغبة احادية في العشق -لانهر بدون ضفّتين، هي تعي ما تفعل وهو ايضا، فالتعمّد في الحبّ والمشاكسه من اجله، واستفزاز الآخر، هي الحبّ كلّه بتجلّياته المضيئة، ورغباته الجامحة، ونشوري لها إيحاء بالإحياء الجديد، وتبلّور الاحادية الى ثنائية منصهرة (واذا النفوس، زوجت - القرآن الكريم)،الكلمة - نشوري - تحيلنا الى تخيّلها اي المعشوقة العاشقة، لها قدرة هائلة على ابداعه كعاشق ومعشوق واعادة رميم احلامه الى حقيقة ماثلة ليعيش حياتين احداهما موهوبة من الله الخالق الاحد، والثانية الهامات العشق وهي النافذة الحيوية التي يترصد حياته الحقيقية من خلالها .

 النصّ الذي ذكرنا:

فخذي بي الى الغد المأمول،

مادمت تعمّتِ نشوري حينما احييتني بعد موات - يتراءى تفصيلا شعريا دقيقا، وشعوريا للعنوان

دون ان يعثر الخيال بنمطية الصورة الشعرية، او تكرارها، فمن خصائص الخيال: (الإبتكار، وعدم

التكرار - الاستاذ عبد الرحمن منصور من محاضرة له حول الركن الثاني في النصّ)

عبر هذه الإحالة غير المفتعَلة، برزتْ -بدون شكّ - مصاديق فاتحة مصراعيها على أطفئيني بنارك، تتناغم وخبايا الفضاء النفسي والابداعي الذي احاط بروح المبدع الكبير .

...

فأنا

كنتُ وجاقي

ووقودي، ورمادي، ودخاني، ولهيبي -من قصيدة:شمس عمري ص34

...

فاسجر التنورَ

واخبزْ لي من العشق رغيفا

واسقني من كرمة الثغر

ولو قبلة كوب -ص36 القصيدة اعلاه

 فرويد يقول (ان العمل الادبي، موقع اثري، له طبقات متراكمة من الدلالة، ولابدّ من كشف

غوامضه ... مناهج النقد الادبي -صالح زامل)

على ضوء ذلك: نرى النصّين الآنفين من قصيدة، شمس عمري، يكشفان طبقة جديدة ومهمّة من طبقات الاحساس المتراكمة في ارضية البوح، تأخذنا عمقا واتساعا الى مركزها الشعوري بالتواصل مع ما يأتي من نصوص اوطبقات على حد تعبير فرويد - بما يثري الفكرة، ويؤكدها برقّة عذبة، ليدفع بزخم من الدلات التي لا تفسّر العنوان، وتُبرز ألوانه الخفيّة فحسب، بلْ توسّع من ازاحاته، وتجعل المتلقي ملتفتا إليه من جميع جهاته .

 كنتُ وجاقي /نار عشقه الازلية -- ووقودي /الاشتياق الذي لا ينتهي حتى باللقاء -

رمادي / اللوعة الصادقة -- دخاني / فضاءات العشق وهيامه -- لهيبي / تذكير بالاحتراق -

واسجر التنور / ديمومة التلاحم الثنائي - واخبز لي من العشق رغيفا / جوع استثنائي لها -

واسقني من كرمة الثغر ولو قبلة كوب / عطش لا يُقاوَم -

 هكذا تمحورتْ الاشارات حول اطفئيني بنارك بمصداقية نادرة، ونسيج فني متكامل، ومتلاحم بنقاء جوهري مع الانفعال التلقائي والطاقة الشعرية العتيدة في اجمل واعمق ملامحها .

 الاديب الراحل، عباس محمود العقاد يقول: (انما الشعر ترجمان النفس والناقل الامين عن لسانها،

ثم يؤكد على صدق النفس فيما توجه من احساس، وينفي كذبها اطلاقا في بوحها الفني والشعري، فيقول: اذا كانت النفس تكذب ما تحس به، او تداحي بينها وبين ضميرها، فالشعر كاذب، وكلّ شيء في الوجود كاذب، والدنيا رياء، لا موضع للحقيقة في شيء من الاشياء ... من كتاب النقد الادبي -د -خالد يوسف) .

 نعم من خلال المصداقية اللامتناهية في التفاعل مع الحدث ومطواعية الموهبة لعكسه على مثال فني انيق، والتصدّي لفكرته بحرفية عالية بكشف الغامض من كوامن البوح، والرقي به الى جماليات الطبيعة المكتنزة في ذاكرته، وحثّ ذاكرة المتلقي على الاحتفاء بما هو مطروح من الهامات شعرية لها فعل الندى في زهرة ظامئة، انتج لنا المبدع السماوي، الأيقونة التي لا تُنسى مع ملاحظة: هناك الكثير من الحقول الباذخة، لم يتم حصادها في الديوان، تُغري بتناولها مستقبلا من قبل النقّاد المختصّين.

 مع فائق تقديري للجميع .

 

الشاعر العراقي حكيم الصباغ

 

في المثقف اليوم