قراءات نقدية

بين يدي السرد: قراءة الرسالة .. سيرة النفي الاختياري بحثا عن الحب والحرية والسلام

بواكير الدلالات الفنية للسرد الماثل بين يدي المتلقي تتدافع متسابقة لنيل الصدارة بين:

العنوان الأصليّ " رسالة" بمافيه من دلالات معنوية على رأسها التنكير، بمعناه البلاغيّ، والاكتفاء بالاسم دون لواحق أو توابع من أوصاف، أو حروف.

ودلالات في البناء اللفظي من توسط المدّ بالألف، ومن الانتهاء بالتنوين.

أما لغة الرسالة فهي الروسية، والحق إنها رسائل، يمكن أن تصهرها رسالة واحدة لتكون رسالة السارد – أو الرسائل – بمثابة رؤية البطل للعالم، برغم وصولها متأخرة خمسين عاما وبضعة أشهر، رؤية العالم من خلال عنترة البصريّ الذي يذكرنا بعنترة العبسيّ، مع فارق الزمان والمكان، وليكون الارتحال والاغتراب والمنفى الاختياري، وقد حدث بالنسبة للفارسين – بمثابة رحلة الإنسان المعاصر، بحثا عن الحب الضائع، والحريّة المسلوبة، والكرامة المفقودة، والوطن المسروق، والسلام الذبيح، في وقت خاف فيه الغريب من الحارس العملاق عند باب المرقص، وحيث يثير ظهور الغرباء في المدينة الصغيرة الوادعة انتباه مواطنيها، وحيث يأوي السارد – تحت اللحاف – إلى المذياع ليستمع إلى أغاني الحرب من محطة بغداد، تماما كما كان يحن عنترة إلى مضارب عبس وديارها، فارس هناك بسيفه وفرسه الذي يحمحم، وفارس هنا بقلمه يمتطيه في رحلة البطل المعاصر الباحث عن الحرية والسلام.

ولهذا فإننا نلتقي بأركان الرسالة، وعلى رأسها الاستهلال، أو الافتتاح:

" عزيزي السيد باول نيكلسون .. تحية إلى روحك.." والشخصيات: السارد، ونيكلسون، وليزبث، وأبيها متلقي الرسالة، وموسولوف مرسل الرسالة، وغيرهما من شخصيات، في سرد بضمير المتكلم، حيث تتحقق الحميمية، والمصارحة، ويتدفق الاعتراف في السرد الذاتي.

هذا عن العنوان الأصليّ، امّا العنوان الفرعيّ، وهوعادة بمثابة التفسير والبيان للعنوان الأصلي، فكان "رواية مهجرية" لتلتصق دلالات العنوان الفرعيّ، مدعومة بدلالات العنوان الأصليّ، بالدلالات العامة لمآسي الحروب وويلاتها وكوارثها ومصائبها، سواء أكانت حرب العراق مع إيران وهي إن كانت – شكلا – محلّيّة، فهي في الأساس، وفي البدء، والختام، أيضا عالميّة، أو صناعة عالميّة، شأنها شأن الحرب العالميّة الثانية، موضوع السرد، وما قبلها من حرب أولى وما صاحبهما وتلاهما، وسيتلوهما من حروب في شتى بقاع الأرض، تُصطَنع اصطناعا، وترتب ترتيبا، ومن هنا كانت دلالة العنوان " رواية مهجريّة"لا لبيان أن يعْلم مؤرخو الأدب ونقاده، خطوات انتشار الأدب المهجري الجديد، كما أسميته في موسوعتي للشعر العربي، في طبعتها الأولى، أو (قاموس الشعر والشعراء) في طبعته الثانية، بل لنعْلم أن السارد - وهو من روادالأدب المهجري الجديد، يجيد ثلاث لغات : العربية، والإنجليزية، والدانماركية- في هذا النوع الجديد من سرد السيرة الذاتية، الذي يقدم لنا بطل السرد ضحية من ضحايا تلك الحروب، المقترنة بالدكتاتوريّة، وبطش الطغاة، هاربا من الحرب، في جوِّ قتال عالميّ: قتال في لبنان، حرب إيران العراق، الدم يباع في لبنان، والكلا في الهند، والذئاب ترقص، والبشر يتقاتلون، أسرى، هنود حمر هنود بيض – ملاك ذو مخالب- موسكو تسقط 1990 والذئاب ترقص 1991، لاجئا إلى أحضان " الهجرة"، أو المنفى الاختياريّ، متعرضا لسطوة البوليس السرِّيِّ في روسيا، ومطاردته، إذا ما مات جواز سفره، ويساومه مغربيٌّ ليبيع له جوازا صالحا باسم آخر، أو ليزوِّر جواز سفره، حين اشترى جواز سفر من برلين، بعد أن عاش في روسيا خمس سنوات، فعاملته مثلما عاملته بغداد، التي أراد طغاتها منه أن يعود إلى بغداد جنديّا يقاتل الجنود الإيرانيين، أو يقع أسيرا، أو يكون هاربا أعيد إلى وطنه وقد ألقي القبض عليه في المطار، ولينطلق المونولوج الداخليّ من باطنه. " من قال إنّ موسكو تختلف عن بغداد؟" متذكِّرا ما علَّمه إيَّاه مدرِّس الجغرافيا من وقوع بغداد وموسكو على خط العرض نفسه، متفقتين مناخا، وتوقيتا، حيث كانت في :معالم العزلة، والسجن الكبير، والستار الحديديّ، مع أنها تمثِّل مساحة سدس العالم، وها هو يهرب منها منصرفا عن دراسة الطبّ، وليتمثَّل مقولة الشرقيين التي تتمثَّل تصور أهل الشَّمال أن سواد الشعر، بفتح الشين، هو سواد الشيطان.

ومع ما تقدم احتلّتْ عتبتان اختار لهما صفة (تهويمتان)، بما للتهويمة من معان.

التهويمة الأولى من الأساطير العربية :نابعة من مثل عربي، هو سرد موجز مكثف في الوقت نفسه، يلخص دلالات السرد الذي بين أيدينا، اضطر عربي عانى الضيم من أهله، ففر منهم إلى من أبدله بالضيم عزا، وبالذل إكراما، وهي الدلالات نفسها، التي ينطق بها السرد الذي بين أيدينا.

التهويمة الثانية من ترنيمة سومرية، فيها من الأسطورة والميثولوجيّ، وبناء " السكن" الإنسانيّ، الأسرة، الزوجة الدافئة، والأبناء، والمنزل السعيد، أي الأركان المفقودة في عالم السرد هنا، الخالي من أبناء الوطن، والأهل، وجماليات المكان في البصرة وبغداد، بعد أن ضاع حلمه أن يصبح طبيبا، وحرم من ممارسة مهنة الطب في بلدته البصرة، الميناء الوحيد في العراق (وللميناء دلالته)، والتي ولد فيها (قرية نهر جاسم) سنة 1951، وغادرها أهله في السنة الثالثة للحرب، وهو لا يعرف من أمرهم شيئا، فخسر الزواج، ومن ثم كان الحرمان من الاقتران بالقرينة، منذ غادر العراق سنة 1979، لاجئا في الدانيمارك،، أو موسكو، فقد اشتعلت الحرب في العراق فلم يجرؤ على زيارتها، ولا على استعمال الهاتف المتصل بها، وكيف وقف المارشال " كريشكو" المنتصر في الحرب العالمية الثانية، والذي دوّخ الألمان في الحرب، يقابل السيد النائب الذي انتهى توّا أو قبل سنوات من محاولة اغتيال الزعيم المحبوب في شارع الرشيد المشهور في بغداد، ومعروف ذلك النائب الذي صار رئيسا، والذي كان وراء تلك الأحداث والمآسي المتتابعة، ومنها مصير السارد، الذي يمسح الآن، الصورة القديمة من ذاكرته تماما، ويقْطع صلته بالماضي مقررا:

" لست مجنونا حتى ألقي بنفسي في أتون حرب لا يعْلم إلا الله نهايتها".

كان موقع العتبتين في مكانهما المتبع في كل إبداع، أي في الصدارة، والجديد في السرد هنا، أن تعود العتبتان إلى المتن الحكائيّ، أو يبعثهما السرد من جديد في متنه، فيعود للتهويمة الأولى ليكمل خيبة أمل الأعرابيّ، حيث المفارقة، المتمثلة في أن ينقله مصيره من الاطمئنان إلى الخلاص من ذلّ القبيلة، والظنّ بالنجاة من بطشها، إلى إصابته بالأسى، فبعد أن نصب خيامه وسط مضارب قبيلة أخرى، وجدهم " يؤذونه كما فعل أهله من قبل".

كما يعود السرد في متنه الحكائيّ، مرة أخرى، للتهويمة الثانية في " فلاش باك" إلى الصدارة، حيث أحبّ الشاعر إحدى قريباته، وتقدم لخطبتها، فطلب منه أبوها الارتحال من أجْل تقديم مهْر لها، فارتحل واغترب، أما هُم فزوّجوها من غيره، أما هو فحين عاد أوهموه أنها ماتت، ودلّوه على قبرها، ليبكي ضياع أمله في الحياة الزوجيّة، وهو، وإن تمثّل، بحكاية عنترة بن شداد، وقصته مع والده، ومع حبيبته عبلة، ومع قومها، ومهرها من النوق الحمراء ذوات الأجنحة، فما ذلك كله إلا الصراع الإنسانيّ من أجل الحريّة والكرامة، وهو، نفسه، مانراه مع المهاجرين المغتربين من أنحاء الوطن العربيّ كله، وما نراه من آثار الحروب المصطنعة، التي طبخت طبخا جيدا قبْل وضعها على الموائد، وأعدّتْ سيناريوهاتها قبْل الإخراج والتصوير الجيدين، ليضاف ضحاياها المشردون، إلى ضحايا الهجرة من أجل الدراسة أو العمل أو أكل العيش، سواء أكانت هجرة شرعية أم غير شرعية.

ثم يجذب المتن الحكائيّ العتبتين والتهويمتين مرة ثالثة عن رحلة الأعرابي الثالثة، وعن العاشق الذي ظل يبكي قرْب قبر حبيبته حتى فارق الحياة، ثم مرة رابعة وأخيرة، ظل فيها البدويّ كلما وجد قوما اكتشف فيهم قوة وبطشا تفوق ما وجده لدى سابقيهم، أما العاشق في التهويمة الثانية، في مرحلتها الرابعة، فقد وضع كفيه وذراعيه حول كتف عروسه المحبوبة، التي كانت نهارا بالنسبة له، تعتلي العرش ليعوضه الله بأناس طيبين، موقنا أنها في حضن رجل آخر.

وهكذا أضاف تكرار ذكر العتبات، صفة بطولة " سيزيف" أمام التحديات المتكررة.

ومع توظيف العتبات، وقيامها بالدور المثْري للسرد، كان توظيف الأجناس الأدبية الأخرى من شعر غنائيّ، ومن غناء، حيث كانت الأغنية الروسية التي كانت شهيرة زمن الاتحاد السوفيتي، غناها بحماسة كالآخرين، غير مبال بالثلج والصقيع:

لتبْق الشمس مشرقة دوما

لتبْق السماء صافية إلى الأبدْ

لتبْق أمّي دائما

لأبْق أنا

ومنه: ذلك النص من الشعر الغنائيّ الطويل المنسوب إلى القرن التاسع عشر، وبالتحديد سنة 1864، رصدا مآسي الحرب وفيه:

الحدائق تمّ فرْزها مؤخرا – كانت هناك عاصفة وبستان تعرّض للجليد- ... نير على الرقبة، وقفْل في الفم...

وتوظيف جماليات اللغة، حيث لا يكون البيان تزويقا، أو زخرفة شكلية، بل يكون ضاربا في أعماق الدلالة، فيفوق التصوير آفاقه التخييلية، ومراميه الإبداعية، متجاوزا ذلك إلى توسيع الدلالة، مثلما نرى في تصوير" تناول الفاكهة الباردة في موسم مثلْج، أو المشروب الساخن في عزّ الحرّ "، تصويرا للتنافر والتضاد، ومن ثم الاغتراب والوحشة، وضياع الألْفة، لتتضافر اللغة : شعرا، ونثرا، في السرد، في التراسل مع الأجناس الأدبية وتمازجها وتوظيفها- تتضافر مع آليات السرد، وأركانه في تصوير محنة الإنسان المعاصر مع الاغتراب، ومعاناة القهر والبطش والظلم والقمع والدكتاتورية، وضياع الحب والسلام والحرية والكرامة والإنسانية، فيما يبوح به الروائي الشاعر الناقد أحد رواد المهجر الجديد " قصي الشيخ عسكر " فيما بين أيدي المتلقي من سرد فني راق.

 

د . يوسف نوفل

.................

الرسالة رواية للروائي د.  قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم