قراءات نقدية

قراة في ديوان مواكب العشق للشاعر محمد نوحي

ridowan alrokbiالشعر غوص في أعماق الذات الإنسانية، واستنطاق لمكنوناتها الباطنية، فهو الحقيقة في أسمى تجلياتها وأبهى صورها، يأسرك ليسافر بك الى عوالم خفية، بحثا عن المجهول الذي يسكننا. فالشعر بهذا المعنى هو القوة الاصلية بما هي ذات الحقيقة التي تصدر عن العمل الفني، وهي في نفس الوقت الهاجس الذي يسعى الى التعبير عنه كطبيعة روحية. فهو بهذا المعنى لا يتحقق الا بوصفه عملا شعريا ما دامت القوة التي يصدر عنها هي روح الحقيقة ذاتها بما هي طبيعة شعرية وما دامت غايته التعبيرية كحقيقة فنية، هي ان يصل الى الامساك بما يجعل من كل ممارسة فنية قولا شعريا. لا يهم عند هذا الحد ان تختلف الاساليب والممارسات الفنية وتتعدد، وانما الذي يهم ان ما يشكل قوام الحقيقة لا يقال الا على نحو شعري.

 

1- عتبات النص الشعري:

النقد الأدبي المواكب لحركية الإبداع الشعري المعاصر، يؤكد في تحققاته الجديدة على الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها عتبات النصوص، باعتبارها مداخل جديرة بالدراسة والتحليل، خاصة وأنها تمثل العناصر الأولى التي يواجهها المتلقي أثناء تلقيه للعمل الادبي. فالعناوين التي يختارها الشعراء لكي يوشحوا بها صدور أعمالهم تمثل في جوهرها إعلانا صريحا عن توجهاتهم الفنية، وأساليبهم في الكتابة الشعرية، فهم لا يختارونها عبثا، وإنما تكون موجهة بقلق إبداعي، وبأسئلة جابهها المبدع أثناء اشتغاله بفعل القول، وخلص من خلالها إلى صيغة العنوان التي يراها مناسبة لإثارة استجابات معينة لدى القارئ هذا ما يبرر الاهتمام المتزايد بالعناوين وما يصاحبها من لوحات فنية، الإغفال عنها ربما يقوض من القدرة على الاقتراب مما يطرحه المؤلف من أفكار وتصورات ودلالات.

 

العنوان:

وأول ما يثير قارئ أي كتاب هو عنوانه، لأنه يستجمع مختلف مكوناته، ويسعى ليكون دالا على مختلف عوالمه، ونجاح عنوان الكتاب لا يبرز فقط من خلال كونه يثير فضول القارئ إلى الحد الذي يجعله يقدم على الحصول عليه والشروع في قراءته، ولكن أيضا في دلالته العامة على ما يتضمنه من أبواب وفصول، وما تحمله من قضايا وأفكار تتطابق مع ما يوحي به أو يومئ إليه. ويعرف ليو هويك leo Hoekالعنوان على النحو التالي:هو " مجموعة من الأدلة ... التي يمكن أن تثبت في مقدمة نص لتعينه، وبيان محتواه الشامل، وإغراء الجمهور المستهدف."

وإذا انتقلنا لمحاورة عتبات ديوان الأستاذ الدكتور محمد نوحي، وبدأنا بعتبة العنوان أمكننا القول بان الشاعر قد جعل عنوانه يتفرع الى وحدتين دلاليتين تتقاطعان، لتبرزا لنا الخيط الناظم الذي يشكل جوهر الفعل الشعري الذي يحمله الديوان، ذلك ان لفظة مواكب وهي جمع موكب توحي في بنائها الدلالي الى البعد الاحتفالي والتزيني، فاذا كان الموكب هم جماعة ركبان يسيرون برفق، وهم أيضا القوم الركوب للزينة والتنزه كم حكى ذلك ابن منظور. فان الشاعر الدكتور محمد النوحي يدعونا للسير معه برفق للتنزه في حدائق العشق، والعروج  معه الى سدرته، لتطهير الذات من رواسب ما علق فيها من دناسة، وما اعتراها من رزايا تحجب عنها الحقيقة. العشق عند الشاعر محمد النوحي يستمد مرجعيته من الأبعاد الصوفية التي ترتفع بالعاشق إلى درجة الصفاء والكمال، لتتجلى له مظاهر الجلال والجمال. والعشق عند الشاعر ايضا يرتبط في أبعاده الوجدانية بمفهوم عام للعشق يبتدئ بعشق المصطفى صل الله عليه وسلم، ليرخي ظلاله الملكوتية على حب الأم والوطن والزوج والحرية...الخ وكلها تسقى بماء العشق النبوي الذي يلزم الشاعر بهذا الفعل، ويطوق عنقه بقلادة العشق التي تشع أنوارها لتصل إلى كل الأشياء، متجاوزة الزمان والمكان... ولا غرابة في جمالية هذا العشق العذري عند الشاعر، لاسيما إذا علمنا انه ينحدر من منطقة صحراوية بدوية تمده بعناصر الجمال والجلال. أقا الحاضرة التي غرست في الشاعر الدكتور محمد النوحي بذور العشق الأفلاطوني المثالي الصافي بصفاء البداوة، وجذرت فيه أواصر التعلق الصوفي بكنه العشق وزعت فيه معانيه، ليثمر هذه الباكورة الشعرية التي تفوح عطرا ومسكا وجدانيا تجعلنا نسافر مع الديوان في جولات العشق نتنسم عبق الرحلة، ونتزود بزاد القرب إلى الأحبة في زمن التيه والضياع الوجوديين.

مواكب العشق هو سنفونية شعرية تتراقص على إيقاعات التشكيل اللغوي والتصويري الذي يعكس حب الشاعر محمد النوحي للانساية في أبعادها المختلفة والمتعددة، وفي الوقت ذاته يتطلع إلى تقديم إشراقات تخرج هذا الكائن الإنساني من دوابيته وتوحشه، فالعشق هو البلسم الذي يضمد به الشاعر كل الجراحات التي تنزف.

 

1- بين يدي المضامين الشعرية:

يتكون ديوان مواكب العشق من 123 صفحة من الحجم المتوسط، تتخلل محتوياته ستة عشر قصيدة( حب المصطفى، أمي، هيام، غزة تنتصر، بين العشق والتمرد، ملحمة الثورة، طبول الحرية، سخرية الوادي، بين الأعاصير، جنون الملاعب، تأمل، طائر، احتجاج، لأحمد ياسين تحية، حبيبتي، بلادي.) مع توطئة حدد فيها الشاعر الخيط الناظم بين هذه القصائد، ومعبرا فيها عن دلالاتها التي ترتبط بمفهوم العشق ومواكبه، باعتبارها كواكب تسبح في ملكوت الأجرام وأفلاك السماء..

والمتأمل في الديوان، يلاحظ أن الشاعر قد حاول ملامسة اغلب المواضيع التي ترتبط بتيمة الحب في مفهومه الواسع، الذي يحدد جوهر العملية الإبداعية عند الشاعر محمد نوحي، ذلك أن الشاعر قد انزاح عن المألوف والمعتاد عند اغلب الشعراء، وهذا ما جعل ديوانه يتميز بميزة التفرد لقدرته على ملامسة بعض الجراحات، وتحويل الألم إلى صورة عشقية تتماهى مع عمق التجربة الإنسانية في أبعادها الكونية. وإذا كانت المرجعيات الفكرية والخلفيات المعرفية التي تؤطر العملية الإبداعية عند الشاعر محمد نوحي تبدو مستقاة من المرجعية الدينية، كما هو واضح بجلاء في جل القصائد، فإنها في الحقيقة تتعزز بانفتاح واسع من الشاعر على المرجعيات الكونية، مما جعل القصيد في الديوان يكسر الحدود والزمان والامكنة، ويتجاوزها إلى اعتبار الحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها. ولا غرابة في هذا الانفتاح لاسيما إذا استحضرنا الجانب المعرفي لمحمد نوحي باعتباره أستاذا باحثا حاصل على الدكتوراه تخصص الأدب الانجليزي. هذا التلاقح الثقافي أمد الشاعر باليات جديد في فهم جوهر العملية الشعرية، وقد انعكس ذلك بوضوح في قصائد الديوان.

1- حب المصطفى: يفتتح الشاعر ديوانه الشعري، بإبراز التعلق الروحي الوجداني للحبيب المصطفى صل الله عليه وسلم، مستذكرا مناقبه وخصاله وصفاته الخلقية والخلقية.. ولعل الدافع الذي جعل الشاعر يكتب هذه القصيدة كما هو واضح في ثناياها، هو تلك الحملة المغرضة التي ارتبطت بالرسومات الكارتورية، فالشاعر محمد نوحي يرى بان هذه "الإساءة " هي امتداد فكري وحضاري لمحاولات سابقة للنيل من كرامته صلى الله عليه وسلم سجلها التاريخ...ارتدت في أعناق أصحابها.. هذه الحقد الدفين للرسول من طرف بعض الغربيين، يتحول من محنة إلى منحة ربانية ترخي بظلالها النوراي على قلوب جاهلة لقدره، فتحولها إلى عاشقة له صلى الله عليه وسلم. هذا العشق النوراي الممزوج بعطر الرحمة هو ما يدعو له الشاعر ليكون وسيلة للرد على كل إساءة، عوض العنف الذي يتناقض مع معاني العشق النبوي.

2-  أمــي: هي القصيدة الثانية في الديوان، يتغنى فيها الشاعر بأمه الحنون:

يا مورد الأمان والحنان في بلدي*** يا كنز الكنوز في عقلي وفي خلدي

يعرج شاعرنا في هذه القصيدة الماتعة، بنا إلى معالي الأمومة وأحضانها الدافئة، مستحضرا مناقبها وما تحملته من وهن على وهن في الحمل والتربية والتوجيه...الخ فهي " النبراس لكل مجد ومقصد" هذا النبراس الذي سيظل متوقدا في أعماقنا، لا تخبو ناره أبدا.

3-      هيام: يعرض فيها الشاعر لقلبه الشغوف إلى مسرى المصطفى. هذا القلب الذي أفشى الوجد أسراره:

كتمت سري والسقم أفشى سريرتي *** ولا جسد لسجن الغرام يطيق.

 

4- غزة تنتصر:

من تحت الركام غزة تنتصر  *** والماء الزلال تحت الصخر ينفجر

تعرض فيها الشاعر محمد النوحي لملحمة غزة الابية في كفاحها ضد الكيان الصهيوني الغاشم، مبرزا فيها باسلوبه التصويري الفتح الرباني وصمود جند الله، امام قوة وعتاد الجيش الذي لا يقهر؟

 

5- بين العشق والتمرد:

في قلب القدس..

تنسف الذات لاحزام..

وفي منعطف التاريخ..

يثور الشعب ضد الحكام.

توضح هذه القصيدة عشق الشاعر الى الحرية، وكسر اغلال القيود التي كبلت البشرية، وجعلتها ترزخ تحت كلل الاستبداد والظلم، والاستكبار العالمي.

6- ملحمة الثورة: هي اطول قصيدة في الديوان، تحاول اعادة قراءة تاريخ الامة، وما صاحبها من انكسارات تاريخية ادت الى تزعزع وحدتها وتشتت صفها. قصيدة مضمخة بعبق التاريخ تترجم الرؤية الفكرية عند الشاعر محمد نوحي،الذي يرى بان الانسان يعيش في بيداء التيه، يجتر الخطى، حيث لا ظل ولا ماء ولا طلل..

7- طبول الحرية: تترجم عشق محمد النوحي الى الحرية، حيث صوت الطبول يعلن من بعيد عن شعلة لا زالت متقدة في دواخل الشاعر، تقاوم كل مظاهر الاستغلال والاستكبار.. تنفض الغبار عن افئدة ذابت في الاحتلال.. تغسل قلوبا تربت على الظلم والاستغلال...

وعلى العموم فهذي بعض مضامين القصائد الشعرية في ديوان الشاعر محمد النوحي، وقع اختيارنا عليها، لانها تترجم مختلف الاسئلة التي تؤرق الذات الشاعرة، ولانها كذلك تعكس مواقفه الفكرية ورؤيته الوجودية، هذا بالاضافة الى انها تختزل المواقف التي تعبر عنها القصائد الاخرى في الديوان.. والتي يمكن اجمال حصرها في ثلاث تيمات اساسة: هي:

1- العشق والانسان

2- العشق والطبيعة

3- العشق وهموم الامة

وعلى العموم فشعر الشاعر الدكتور محمد نوحي، هو شعر يكتشف من خلاله الشاعر العالم، وفعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله، بل انه يقتضي من صاحبه اتخاذ موقف من الكون والإنسان والحضارة، ويحتاج إلى روح المغامرة التي تطمح إلى تفسير العالم وتغييره، والمزج في فكره ووجدانه بين روح الثقافة العربية وبين الثقافات الأخرى، وفق رؤيا جديدة تمزق قشرة المجتمع العربي وتقف على مواطن التيه والضياع التي اصابت الذات العربية والاسلامية.

2- البناء الأسلوبي والتصويري في الديوان:

1-   الصورة الشعرية:

تقوم الصورة عند الشاعر محمد نوحي على على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير، وتوظيف الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة إيحائية. وهكذا فالصورة في ديوان مواكب العشق قد وسعت الإطار ليشمل الهم الذاتي والجمعي، وجعلت من الصور معبرا ملائما لتطوير التجربة الشعرية، على أساس أن هذه الصورة في الشعر العربي الحديث قد أخذت ثلاث تجليات: أولاً:  توسيع أفق الصورة نفسها لتتسع لأكثر قدر من الاحتمالات المتصلة بأعماق التجربة الشعرية. ثانيا: الحد من أفق الصورة، وذلك بإحكام ما يجمع بينها وبين بقية صور القصيدة، قصد الابتعاد عن النزعة التقريرية الجافة. ثالثا: إزالة المسافات الزمكانية عبر تغذيتها بالرمز والأسطورة.

2- اللغة الشعرية: رغم وحدة المرجع الذي ينهل منه الشاعر محمد نوحي، إلا أننا حين نتأمل لغته في ديوانه الشعري نجدها تتوزع في ثلاث أنواع مختلفة، بل متباينة أحيانا:

• لغة محافظة على خصائص اللغة العربية التقليدية: إذ نجد ا الشاعر محمد نوحي يستعمل لغة جزلة وعبارات فخمة وسبكا متينا على غرار الشعر التقليدي، الذي يتميز بالمتانة،

• لغة تميل إلى اللغة اليومية: إذ يعتبر توظيف هذا النوع من اللغة في الشعر، مظهرا من مظاهر اللغة الشعرية الحديثة، وملمحا من ملامحها.

• لغة تبتعد عن اللغة المتداولة: وذلك باستعمال لغة إنزياحية موحية، تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق،. كما نجد في الديوان كذلك اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، هذا الصوت المنبثق من أعماق الذات، خلافا لما هو عليه الأمر في الشعر العربي القديم الذي امتاز سياقه اللغوي بصدوره عن صوت داخلي متجه إلى الخارج.

 

على سبيل الختم:

وعلى العموم فديوان مواكب العشق هو تعبير صادق عن عمق المأساة الإنسانية، وعن التيه الوجودي لهذا الكائن في زحمة أسئلة انطولوجية تؤرق الشاعر المبدع محمد نوحي، فيبحث لها عن أجوبة في عالم الشعر الموسوم بأسلوب فني يتميز بالكثيف والاختزال ، وبلغة شاعرية أخاذة، تمتزج فيها ضراوة ومرارة الواقع المعيش للشاعر، بتطلعات استشرافية إلى غد يحفر في الذاكرة معاني الإنسانية الخالدة.

ديوان مواكب العشق هو سنفونية شعرية تتراقص على إيقاعات التشكيل اللغوي والتصويري، الذي يعكس جرح وكلوم الأمة الإسلامية، وفي الوقت ذاته يتطلع إلى تقديم إشراقات. فالخيط الناظم بين جميع قصائد الديوان، يتجلى في طبيعة اللغة المتسمة بدفقاتها الشعورية، التي تحمل في طياتها مشعل الابداع الفني في زحمة مختلف الحساسيات الشعرية الجديدة. وكذا على مستوى الإيقاع الشعري المتجلي في الاختزال الدلالي والتكثيف الإيحائي، الذي يختزل جوهر العملية الإبداعية عند الشاعر، الحاملة لرؤية خاصة تميز كتاباته الشعرية.

إن القارئ لديوان مواكب العشق سيستمتع بلا شك باللغة الإيحائية الراقية المفعمة برؤية فلسفية، وبجمالية الحبك الشعري المأسور بعالم الدهشة والتخييل الشيء الذي سيجعل المتلقي يرقص.. ويسافر.. ليرسو في جزيرة شعرية تربتها حفر في الذاكرة الموشومةباسئلة عن مصير الانسان الحقيقي، وأشجارها نصوص شعرية، عميقة الدلالة و المعنى، وأغصانها لغة رمزية إيحائية مشحونة بأبعاد ودلالات متعددة، وثمارها نفس جديد في الكتابة الشعرية... مغلفة بعشق نوراني مستمد من مشكاة الوحي.   

 

د. رضوان الرقبي- المغرب- اكادير

 

في المثقف اليوم