قراءات نقدية

معارج العشق"تسقط الجدار العازل بين الشعر والنثر

قوة التخييل وشعرية الخطاب: "معارج العشق" للأديب العراقي عبد الكريم الساعدي أنموذجا

 

تصدير:

لا يستطيع إنسان أن يكشف لك عن شيء إلا إذا كان غافياً في فجر معرفتك

جبران خليل جبران/ النبي

 

مدخل:

 إن الشعرية مصطلح بعيد كل البعد عن مسألة الإيقاع أو الوزن، الذي هو عنصر مهم للشعر.

والشعرية معنى أدق وأشمل إذ يمكن أن نجد نماذج عديدة نثرية، لكنها تغوص في الشعرية، ومن أهمها على الإطلاق، نماذج ابن عربي، ونماذج للنفري.

والقصة القصيرة اليوم تحطم القيود وتتجاوز المنطق أو الضوابط والنواميس فهي تجمع شيئين متقابلين أساسا، وهما قصة، وتشير لجنسها الذي به تعرف، وترتدي سربالاً مخالفا لها وهو الشعرية.

فما الحد الجامع/ المانع بين الجنسين: الشعر والقصة القصيرة؟

سؤال إشكالي لا ندعي الإجابة عليه، فهو يحتاج إلى مقاربات مختلفة ومتعددة.

لكن سنحاول التوقف عند ركيزتين من خلال الأنموذج الذي بين أيدينا وهما:

ـ الركيزة الأولى: اللغة الشعرية:

 ـ الركيزة الثانية: التخييل

 ـ المعراج نحو العشق: تأملات / ومنعرجات:

اللغة أو السنن، وهي الأنساق الصوتية والصرفية والتركيبة والدلالية المشتركة بين المتكلم والمخاطب

وهي نظام يمكن الأفراد من التواصل فيما بينهم.

أما اللغة الشعرية فهي تخالف اللغة أو السنن التي ترتبط بوظيفة الإبلاغ والتوصيل إلى وظائف أخرى أعمق وأدق.

وبالغوص في عمق "معارج العشق" يطوّقنا الكاتب بعقد من الصور والدرر ليرسم لنا عالماً يرفل في الإنتشاء والبوح، نغوص فيه فنعثر على عالمين: القَبْلُ / البَعْدُ.

 ـ العالم القبلي: "قبل أن تلثمني ضحكتها"

بدا الراوي / البطل موغلا في الغربة، وحيداً، محدّقاً في مرايا العطش، مكتظّا بالوجع.

إنّه عالم الروح الكئيب، المثقل بوجع الواقع، المتحطم تحت أصوات العويل والنحيب.

  حتى تبرز صورة الأمواج المتمردة " تقطع مسافات طويلة من أجل موتها" فتتشكل صورة مجازية كبرى، في مكونين يختزلان دلالات عميقة.

(الموج/ الماء/ الصخرة/ الصلابة/ القوة..) رحلة الموج   نحو الصخور.

إن الصخرة أشدّ صلابة من الموج رغم ذلك الموج يخوض التجربة في سبيل معانقة الصخر.

رحلة وجودية/ فلسفية/ روحية، رحلة الروح لمعانقة الصعوبات، رحلة لها مكوناتها ودلالاتها

تنتظم في مسار تراجيدي رهيب: التوق / الطموح / التمرد / المغامرة / الموت.

لكن هل الموت هو النهاية؟

أبداً إنّه التوحّد، والانصهار/ الذوبان/ التماهي.

وداخل الصورة الأولى تنتظم صورة أخرى، صورة الفًراش وعشقه لمواقد النور، يظلّ يدور حولها حتى الاحتراق، ما أجمل أن يسعى الإنسان إلى نهايته، دون أن يخشى المخاطر.

هذه الفلسفة تأتينا من الجماد/ غير العاقل، لندرك أن داخل الكون تنتظم أشياء عجيبة وغريبة ومذهلة،

منها نتعلم كيف تنتظم الموجودات، وكيف نستمد وجودنا وفلسفتنا منها.

هنا ندرك أن الانغلاق على ذواتنا لا يعطينا الحياة التي نتوق إليها، وأن مشهداً بسيطاً قد يغيّر مسارنا إلى  الأبد.

  ـ العالم البعدي: اللحظة القادحة:

لحظة الإصابة بالعشق، وما أروعها من لحظة...وما أجملها  من إصابة.. تضرب الروح فتذوي، ذابلة في رحابه.

تتجلى لحظة العشق سابقة لصورة المعشوقة، لحظة كالنور، يقذفه الله في قلوبنا، ليس لنا أن نختار، ليس لنا أن نتوقف، فتتشكل الصورة بكلّ مكوناتها:

وردة ــــــــــــــــــــ أثقلها الندى

       ـــــــــــــــــــــــ وجدتها صبابة شوق

أغنية ـــــــــــــــــــــــــ عطشى لموائد حانتي

آهة ــــــــــــــــــــــــــــ  تطفأ حرائقي

صورة مركبة، مجازية تنتظم داخل معجم العشق والصبابة.

هكذا تسربت إلى عالمه بكل هدوء، فكسرت شعوره بالغربة ونثرت عطرها فوق شيبه.

آه، ما أروع المعنى المقبور في بطون الصور، وما أجمل الشيب المعطر بهمسات تشعل الحريق وتدفن آثار الحرب وتكسر نواميس القبيلة.

هكذا تكتمل الصورة لتمثل ذروة الحسن،واكتمال اللذة الروحية، الناتجة عن الانصهار.

وتبدو أن الطريق إليها عسيرة فيداهمنا بالسؤال " إلى أي مدى ستنتظرين الأسى؟"

ويتجلى مشهداً حوارياً، مشحوناً بالأسى، يصوّر لحظات قاسية، كحدّ السكين، تشقّ منّا الوريد، وتقطع الأنفاس، فنصغي إلى همس الأرواح ونشعر بالعشق الحارق المكبّل بالنواميس.

ويصبح الفراق كالنار تشتعل في الشرايين.

ـ لحظة البحث عن الهوية:

"معارج العشق" قصة/ قصيدة تبنى  على طاقة داخلية، مشتعلة فينتج عنها قوة التخييل وتتوالد الصور البلاغية، من مجاز واستعارة وتشبيه، وتتوالد معها المغامرة في اللغة وباللغة، وفي العشق وبالعشق.

فتتحرر الشعرية من الموروث الشفوي   / الخطاب الشعري  والإلقاء، إلى شعرية الكتابة ـ بمفهوم بارط ـ وشعرية الانطلاق والانبعاث، لا شعرية القيود والانكماش. إنّه الانعتاق في أرقى تجلياته  .

لقد أسقطت قصة "معارج العشق" الجدار العازل بين النثر والشعر و أزالت  الخيط الفاصل بينهما

وكشفت عن كمّ هائل من المشاعر قد تسكن تلك القلعة الصغيرة (القلب)  التي مهما بنينا حولها الأسوار والحصون فلن نتمكن من تحصينها من نار العشق التي إذا اشتعلت كانت كالسرّ الذي يلتهمنا في صمت.

 إن كتابات الساعدي  قد شهد لها الأستاذ والناقد الأكاديمي أحمد الطنطاوي، إذ قال:

  القارئ للساعدي تجابهه يقينًا مشكلة الحيرة

و التوقف العاجز عن التعبير اندهاشًا و انبهارًا .. و خشية أن يتفوه في محراب

الجمال فيسيء الكلام لبهاء اللوحة و نورانيتها القدسية :

" “فإذا وقفت أمام حسنك صامتا

فالصمت في حرم الجمال جمال

كلماتنا في الحب تقتل حبنا

إنّ الحروف تموت حين تقال

حسبي وحسبك أن تظلّي دائماً

سراً يمزّقني وليس يقال”

(نزار قباني )

.....................

جانب الحيرة الآخر _ المشمول بالانبهار الشديد _ هو هذا المزيج الغريب :

القصة \ القصيدة

القصيدة النثرية \ القصة القصيرة جدًا

الشعر \ النثر

و تلك التوأمة الغريبة التي تحقّق للقصة القصيرة جدًا معنى شعريتها تحقيقًا

كاملاً اجتهد النقاد و من نظَّروا لها في بيان كنهها ..

ها هي شعرية القصة ... لمن يريد أن يرى

.......

الأفكار التى يتناولها الساعدى فى سردياته الإعجازية بحق هى أفكار عالية جدًا ,

و أبطاله على درجة فائقة من الثقافة _ كما وصِفت شخصيات رواية " رباعية

الإسكندرية " لداريل _ و هذا طبيعى , فالأفكار المتجاوزة للعادية و المألوف ,

و السابحة تحليقًا و عمقًا ذهنيًا و صوفية لا يمكن أن ترتدي أردية المألوف

الساذج المتواتر المنتشر و الشائع , و من هنا كانت غرابتها و طرافتها و جدتها

و سحرها المشوق.

...

شكلا و تقنية .. يحدث ( التنامي الدرامي ) ـــــــــــــــ [ وجدانيًا ] .. لا حدثياً

فالتتبع هو لمسارات الروح , و دروب المشاعر و ليس لتطور الأحداث , و هذا نمط

جديد يحسب له باعتباره رائده و مؤكده و مجسِّده وراعيه في طرق الكتابة

....................

سيدي الملك ..

حقيقة لا أعرف ماذا أقول و الله العظيم ..

سأهمس لك بشيء غريب :

كتابتك تصيبنا بالأسى و الحزن أن نعرف أن هناك جانبًا آخر مشرقًا ووهاجًا

لا نراه إلا للحظات قصار .. ثم يغيب فنحزن و نقول ليته لم يجيء فنظلّ في

جهلنا سعداء .. بدلاً من تذوق الظامئ لقطرة ماء تزيده إحساسًا بالعذاب و العطش ,

و يتمنى أن لو كان لم يتذوقها لأنّه قد تعود الشقاء

أحمد طنطاوي

 2016- 5 - 17

  وليس لي بعد إيراد هذه الشهادة حقّ التلفظ أو الكلام فالكلام ـ كما أورد الفيلسوف التوحيدي ـ على الكلام صعب.

خاتمة:

معارج العشق، نص يشتعل شوقا وصبابة ، تعلو منه رائحة العطر المخضب بالشعر والبهاء،

قصة تهمس في الوريد وتتسلق الأنفاس، معراج نحو التجلي والإنعتاق من الواقع المهزوز.

تعانق روحي معارج العشق، ألوح بفكري إلى أعماقها، ترتعش داخلي لحظة غريبة، أغوص في عالم النص، أغرق، أغرق.. أتوغل حتى الجنون، وعندما أرفع رأسي لأخطّ الحرف الأخير تغتالني الدموع، أحدّق في عيني، ويغتالني كطيف.، وأهمس :

"لا عليك سأتسلّق حروفك همساً

أنثر عطري فوقها لأغفو"

ويشتد الوجع

وأعلم حينها

كيف يشعر الوحيد بالضياع

كما الجياع...

كما  الطفل  المحاصر  في القلاع

كما الدم المراق..

كما الوداع..

الوداع، الوداع...........

 

الأستاذة سامية البحري/ تونس

  

 

في المثقف اليوم