قراءات نقدية

نقر على أوتار الحرف للعامرية سعد الله .. نصوص البدايات الواعدة بين الذاتي والموضوعي

907-amriaمـقـــدمـة: أقدّر الشعر ضربا من البوح بما يعتمل داخل الوجدان، وقولا متجاوزا يستفزّ الرتيب، فإن لم يكن كذلك صار لغوا من الهراء والهذيان، فإذا هو عقيم.

ولقد رأيت الشعر صنفا من التواشج الحميم يتعالى على المبتذل بما هو نتاج اختلاجات الوجدان الصادق لا ميْن فيه ولا تقية، عدوا للرداءة لدودا، أو هو يرتد تواطؤًا ولعنة على الزائفين...

والشعر صناعة لغوية في منجم الروح، وإنه لجمالية مخصوصة: جمالية الفهم والتذوق والتفاعل، خطاب استثنائي مراكبه الإضمار قبل الإظهار، إيعازا وإحالة وانزياحا وعدولا...

وأما التلفّظ، فركن يدركه السامع نافذة للمضمر من القول وأنساق المعاني، ولذّة يؤمنها المتلفِّظ بالمتلفَّظ، صادقا، صانعا غير متصنّع. وإنّ الفتنة لخلاّبة، وإن تجويد القول كما تجويد الإنصات، ضرورة انبناء القصيد الذي يأبى أن يقع عبدا لضوابط الأخلاق وقوانين المجتمع، وخطب الساسة والأئمة والرعاع إلى الالتزام بحدود صناع الشريعة والمنظّرين إلى مذهبية الدين أو منزعية الفكر، لأنه نمط من القول يظل أبدا مستقلا توّاقا إلى الانعتاق، ممتلئا بذاته، مخلصا لسماته... فالشعر ليس جمعية خيرية، ولا حزبا سياسيا، ولا دعوة مذهبية، ولا نعرة دينية ولا خطبة منبرية، وهو بذلك ولذلك يكون نرجسيا إلى حدّ بعيد، وتتضخّم فيه الأنا الشاعرة فتلوّنه الذات القائلة، وتسبغ عليه من الإحساس ما به يستقل ويعلن عن استقلاليته دون نفاق ولا مجاملات...

هكذا رأيت الشعر وقدّرته، وما عداه فثرثرة خارج الشعر، أو هو القول في اللاّشعر.

 

الشعر بين الذاتي والموضوعي:

إن الحديث في مسألة الموضوعي في الشعر قول افتراضي لا يستند إلى حقيقة ولا يقوم على برهان، اعتبارا لأن هذا النمط من القول منشؤه الشعور وميدانه الإحساس لا محالة. إذ هو إفرازات الانفعال والتفاعل في ذلك العمق السحيق من الوجدان، يتكون في البدء إرهاصات خفية تتشكل تفاصيلها في اختلاجات عاطفة جياشة لا تخرج عن كون الشاعر وذاته، حتى إذا ما طفت على السطح تأجّجت فتحولت إلى قول تخون اللغة أصدق تطلعاته، لأن الفكرة تضمحلّ بين انطلاقتها ساخنة مندفعة ومشرئبة، وبين انكشافها في ثنايا القول عبر آلية معقدة تمرّ من القلب أو العقل إلى اللسان، عن طريق نوع من الترجمة. ولا يخفى ما تقترفه الترجمة من خيانة وخذلان للأصل، فإذا ما يقوله الشاعر، أو ما يُسمَع ليس إلا ظلاّ لما يحسه، مالكا للغة ومسيطرا على أدوات القول والتعبير.

نخلص من وراء هذا إلى أن الشعر ذاتي بالأساس، طالما هو نتاج انفعال وجداني، غير أنه قد يتجاوز الذاتية إلى الموضوعية بمقدار حين يهتم بمفاهيم عامة كالوطن أو العمل أو القضايا الاجتماعية المشتركة بين الناس، فيسعى إلى التعبير عن بعض هموم الآخرين وانشغالاتهم ورؤاهم، ولكن ذلك يبقى مرتبطا أساسا بنظرة الشاعر ورؤيته في الجزء الإنشائي من القول، وقد يكتسب صفة الموضوعية في جانب الخبر، ولا يخفى أن الشعر أنشاء قبل أن يكون خبرا، فإن نحن تحدثنا عن الموضوعي فيه، فإن ذلك من باب التجاوز في القول واعتبارا لتوسع دائرته حتى تتجاوز قليلا مدارات الذات القائلة، ولن يحدث ذلك إلا بمقدار. على أساس ما سبق، نرى ما كتبته الشاعرة العامرية سعد الله في مجموعتها الشعرية الأولى "نقر على أوتار الحرف" التي نحن بصدد مساءلتها محاولة في القول لا تشذّ عما حاول الشعراء غيرها ويحاولون قوله، سعيا في المصالحة بين الذاتي والموضوعي، في نصوص بكر، ولا يخفى طغيان الذاتي لدى الشعراء المبتدئين، بحثا عن ذواتهم وإبرازا لها ودفاعا عنها في اللاوعي السائد لديهم لحظة البوح وتكريسا لحميمية خاصة مع ما يبذرونه في حقول النفس/ حقول القصيد.

907-amriaوكأني بالشاعرة العامرية تقدم لمجموعتها الشعرية الأولى بقصيدتها الأولى: "حروفي" التي افتتحت بها لتختزل من خلالها علاقتها بالشعر، وتعقد فيها روابط حميمة مع الحرف- حرفها- إذ ترى في حروفها، المنسوبة إليها بياء المتكلم في تركيب إضافي، ينابيع من الأحلام ودروبا للفرح، وبابا لولوج عالم الشعر المنشود، ببعض ثقة في النفس، فخرا مبطنا لا يطفو على السطح ولكن ظلاله تتراقص على جدار القول، فتستند على الذاتي، وتتكئ على الوجداني، في البوح بما تحسه، من تلاحم بينها وبين الحروف أدوات لكتابة القصيد، طلبا لنحت العبارة المؤدية إلى المعنى، ولكنها لا تبقى قيد الذاتي، سجينة الانفعال، ولا تتوقف عنده، لأن الشعر كما رأته- وإنه لكذلك- هو قضية ومسؤولية، وامتداد إلى الآخر، خارج نطاق الذات المتشظية الراسبة في أعماق قصية، لذلك فقد سعت إلى أن تُجاوز بين الذاتي والموضوعي بالخروج من الاحتفاء بالذات إلى الوطن الذي إن خبت شمسه تألمت الحروف واشتكت وجعا إذ هو يسكن القصيدة بالضرورة.

هذا النص يفتح باب القول ويلخص رؤية الشاعرة وانتظاراتها ليقول لنا إن الشعر هو الاحتفاء بالذات أولا وفي أغلب الأحيان، ولكنه لا يقف عند ذلك بالضرورة إذ لا مناص له من الاهتمام بمن حولنا وما حولنا.

هذا النص نجد له صدى يتردد فيتجدد في نص : "أنثى السراب" ص21 حيث تكتمل ملامح فعل الكتابة الشعرية لدى الشاعرة إيغالا في تخوم قصية فتصير القصيدة: أنثى السراب/أنثى الغرام، تمثالا مرمريا يقوم بين الأسطر، أسطورة "تانيت" و "دمترا" وعروس البحر، أشباحا في برزخ الأحلام والرؤى، لتكتمل التفاصيل، ولن تكتمل دون وجع الكتابة، ومابين جرح المريد ونبض الوريد ينبني القصيد ألما وأملا.

في الجزء الخاص بالذاتي من شعر العامرية سعد الله تلتصق الشاعرة بذاتها التصاقا حميما لتترجم وشائجها الوجدانية وتحتفي بصدق الإحساس النابع من ذاتها من خلال استعمال قاموس لغوي مخصوص يحقق لها ذلك بدرجة عالية حيث تستخدم بكثافة ملحوظة ضمير المتكلمة بتاء التأنيث توظيفا للفعل المصرّف مع أنا ماضيا (فعلت) ومضارعا (أفعل) مثبتا في الغالب، ولم نسجل استعمال النفي إلا لماما.

هذا بالإضافة إلى الاستخدام المكثف لياء المتكلم المثبتة للملكية في المركب الإضافي: حروفي- كلماتي- أملي- أحلامي... إلخ...

وقد ورد ذلك بكثرة طي النصوص، وتجسّم في عناوين ثلاثة هي: حروفي ص7/ حبيبتي استثناء ص 9/ وطني ص23.

وياء المتكلم لا تلتصق بالجانب الذاتي فقط من القصائد، فقد برزت كذلك في الاحتفاء بالوطن في نص بعنوان "وطني" ص23. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الوطن يوجد في مرحلة وسطى بين الذاتي والموضوعي، فهو الموضوعي الأقرب إلى الذاتي، وهو الذاتي والأقرب إلى الموضوعي.

 

الوطن: ذاتية الموضوعي أو موضوعية الذاتي

حين يتحدث الشاعر عن وطنه، فإنه ينطلق دائما من علاقة ذاتية بينهما وهو ممتلئ بإحساسه الشخصي بهذا الوطن كأنه ملكه وحده قبل أن يفكر في أن الآخرين هم أيضا شركاء له فيه، وليس ذلك من باب الأنانية في شيء ولكنه بعض من صدق وهذا لا ينقص من قيمة الوطن ومكانته في إحساس المواطنين جميعا لأن الشاعر، ولئن عبر بصيغة المفرد، فإنه في أعماقه ينطق بلسان الجماعة نيابة عن كل المواطنين لأنه يعلم في المقابل أن الوطن ملك مشاع للجميع، وحب البلاد إحساس مشترك بين الناس إلا من أنكر وخان... وثمة إحساس آخر مواز لدى الشاعر لما يكتب عن الوطن فهو يختزن في ذاته شعورا أكيدا بأنه ينتمي إلى هذا الوطن، وأن الوطن هو الآخر يمتلكه فهو بعض منه والكل يمتلك البعض: شعوران متوازيان يتكاملان ليكون المواطن حيال وطنه مالكا ومملوكا فيتقاطع هاهنا الذاتي بالموضوعي وكلاهما مشروع وضروري.

أما الشاعرة العامرية فلم تخرج عن ذلك بل كرسته على أوضح صورة،

إذ جاهرت به معلنا من العنوان وقد صاغته مركبا إضافيا والمضاف إليه (ياء المتكلم) وطني ليكون المقطع الأول من القصيدة بمنطوق لسان الجماعة تعلنه نون المتكلم الجمع.

كسرنا المرايا التي تجلي ملامحنا/ سرقنا شمسك يا وطني.

غير أن الشاعرة لا تلبث أن تعود إلى ضمير المتكلم المفرد في ما تبقى من مقاطع (خمسة مقاطع) يبدأ كل منها بـ: يا وطني لتؤكد أن الوطن مصدر الأنس، وأن الوطن رحم الأمل، وأن الوطن حضن دافئ للشعور بالأمن والاطمئنان، وأن الوطن نجدة الملهوف، وأن الوطن واجب الفداء والبناء .

يا وطني/بتّ أسكنك غريبا/ وبات يسكنني هاجس الأنس/فأورقت خواطري اشتهاء...

 

لماذا الوطن؟

يكاد لا يوجد شاعر إلا ما ندر لا يعرّج في كتاباته على الوطن ويفرده بالقول في ما يصدر عنه من إفشاء أحاسيسه للناس. وتشهد المدونة الشعرية العربية بأن أروع وأكثر ما قاله الشعراء على مدى التاريخ، بعد شعر الغزل هو ما قيل في حب الأوطان، والحنين إلى الأوطان، والتعلق بالأوطان. وإن ذلك لمن منطق الأشياء لأن الشاعر في ما يقوله لا يخرج عن السعي إلى إثبات ذاته، وتكريس دوره فاعلا في ما حوله

ومنفعلا به ايجابيا، لذلك يمثل شعر الوطن أجلى نماذج لتقاطع الذاتي بالموضوعي إلى حد التماهي والانصهار.

يقول ابن الرومي: ولي وطن آليت ألاّ أبيعه وألاّ يكون غيري له الدهر مالكا.

بين الذاتي والموضوعي تؤثث الشاعرة باكورة إنتاجها الشعري باثنين وثلاثين نصا يغلب عليها الاحتفاء بالذاتية بنسبة تسعة عشر نصا تمجّد المشاعر وتعزف على وتر القلب والروح وتكرّس عنايتها بهموم الذات، ويرد إحدى عشر نصا في ما هو موضوعي خارج الذات، في حين تكتفي الشاعرة بنصين اثنين مشتركين هما:

وطني ص23، وفي ماهية النور ص74.

في ما اعتبرناه ذاتيا نرصد النص "فجر الأماني ص35 " نموذجا لذلك صورة لميلاد القصيد يختزل لحظة المخاض العسير حين تزدحم الأفكار في ذهن الشاعرة وتحتشد المعاني لتخرج الزفرة من شعاب الروح ( والكلام للشاعرة...) فإذا القصيد بتعبيرها: أشبه بشرنقة/ تصارع لحظتها/ تحاول تمزيق قشرتها/ لترسم لوحة البدء الغريبة.

في نص تأملات من وحي الأرض ص59، تتخلص الشاعرة من سيطرة الأنا وتتحرر من سلطة الذات لتخرج بالنص إلى ما حولها، إلى الأرض والتراب، إلى الزمان والمكان وعلاقة الإنسان وغدر الزمان يتحمله الاثنان... الزمان عدو لدود يغيّر كليهما إلى الأسوإ، وما الشيخوخة إلا تأثير الزمان على الإنسان وفعله في المكان، بصمات اهتراء وترهّل يورث خطوطا وندوبا وكدمات، فعل الوقت ومخلّفاته تورثنا للوهن والضعف إيذانا بقرب النهاية. ويظل الإنسان حتى يضلّ، يحمل في البدء حزمه وعزمه وتفاؤله وتحفّزه للحياة يدعمه الأمل فيتسلح بالرجاء تحديا وطموحا، وإيمانا بالفعل والخلق والبناء والإعمار فتكون الحياة.

يقول مطلع القصيدة:

ماذا تحمل في دفترك؟

شمسا...

أو وهجا يتراقص

يلمع

ترابا يختمر في واحات الأمل

هذا النور المنتشر في آفاق القلب يضيء الدرب ويبعث عل التفاؤل تحفّـزا للحياة يدعمه الأمل يفتح مجالا رحبا لفعل الإنسان في الزمان والمكان، سيرة في التاريخ وتخليدا للحضارة على الأرض وفعلا في الحياة مادام الإنسان يحمل في دفتره، في صحائفه، في قلبه، في روحه، ضوءا، شمسا، وهجا يلمع... ويكون الانجاز. ويختمر التراب في واحات الأمل يتهيأ للإخصاب...

ولأن الأرض وفاء والزمان خؤون فإن النص ينزاح نحو التعبير عن ذلك، وترد الجملة صريحة: "ويزنى الزمان" فإذا هي المأساة، وإذا هي مرحلة السقوط والفوضى وتقويض الأمل.

يزنى الزمان

لا رمس يتسع لفوضانا

لم يبق غير بخار

تقذفه حمم الأرض العطشانة

إن الحياة قصيرة والزمن فاعل فعّال. وجهد الإنسان محدود، موعود للفشل، محكوم بالعجز مرهون بالواقع، وإن التوازن سرعانما يختل فيكون الانهيار والسقوط، وتلك بعض أروقة الفلسفة المنشغلة بالوضع الوجودي للإنسان في مكرهاته الحياتية كبشر وهو يجاهد أن يكون بين ما يريد وما هو كذلك أي بين التّـوق والإمكان، وهي أجلّ قضايا الفلسفة وأكثر اهتماماتها جدية وصرامة، وأشدها إيغالا في الاهتمام بالمنزلة البشرية ودورها في العناية بقضايا الكون...

ولأن الإنسان كائن متفائل غير يؤوس، مصرّ متحدّ (سيزيف يتحدى ويصنع ذاته) فلابدّ له من تجاوز العراقيل والمثبطات ومصارعة المحبط والمدمّر كي يظل ولا يضل.

تقول الشاعرة:

الماء يحتضر في مطحنة العدم

قيّد أحلامك يا خريف

ألبسها تيجان النخل الصامد

في واحات الأمل..

قيد أحلامك

وانشرها في فجاج الريح.

هاهنا مرحلة الانتقال من العدم إلى الكينونة ترددا بين الممكن والمنشود، انتفاضة المتردّى في السقوط يسعى إلى النهوض، يطلب الوقوف. ثم صراع الحلم والواقع، ثم مواجهة بين الاستسلام والأمل، بين النزول والصعود. الخريف بداية مرحلة الضعف والوهن بين الكهولة والشيخوخة في العمر الافتراضي للإنسان وكذلك في دورة الزمان من فصول السنة.

الخريف رمز للضعف. فكل شيء إلى وهن. أوراق الأشجار تصفر وتتساقط النباتات الضئيلة، و تذبل الشمس معتلّـة شاحبة الوجه، فقدت أشعتها ألقها وحرارتها وعنفوانها، تبدو منكسرة حزينة. كل الطبيعة قيد الظل والذل. هذا الوجه الأول للخريف، ولكن للفصل وجها آخر يأبى الإحباط ويتشبث بالأمل، فهنالك نخل صامد، والخريف موسم الأمطار، ماء يحيي الحياة ويميت الموت، فاتحة الأمل الموعود، موسم البذر والحراثة إيذانا بموسم الخصب والصابة والعطاء الوفير. فإذا كان الربيع طفولة وجمالا، والصيف خصوبة وغلالا، والشتاء شيخوخة وهزالا، فإن الخريف لا يكون إلا بشرى وآمالا.

قيد أحلامك

وانثرها في فجاج الريح

ترسم بدايات للغد...

إنه هدم الماضي لبناء المستقبل

ما عادت دساتير الأمس

تتسع لتناقض حاضرنا

هذا خريفك يا أرض.

هذا النص: " تأملات من وحي الأرض" يتقاطع مع النص "الخلق" ص48 ويتماهى معه.

يأتي شتاء بعد ربيع

تتراكم في الأفق سحب

إن حياة الفرد إلى فناء ولا شك، والفلسفة الوجودية تتعامل مع هذه القضية بوجوب قتل الموت لإحياء الحياة، ولكن القدر فوق العلم، وفوق الفلسفة جميعا، والموت قدر لابدّ منه، فلننتصر للحياة ما دمنا في الحياة. وجب إذن أن نتطهر من رجس زمن عشناه، من دنس الماضي. لابدّ من توظيف الفعل البشري إلى فعل بناء ومقاومة القبح بتكريس الجمال والانتصار إلى الخلق والإبداع.

تقول الشاعرة:

كيف تغتسلين من دنس الأمس

كيف تكونين عروسا

تكتحل بوهج الدم

وتشهر زينتها لغاصبيها.

إن الإنسان كائن شرير، أنانيّ ومنافق أيضا، حمّل الأرض أوزاره، وأثقلها بأخطائه مذ نزلها آدم فكانت الخطيئة الأولى أن عصى ربه وأطاع الشيطان فأكل من الشجرة المحرمة، ثم كانت الجريمة فسال دم هابيل بيد قابيل بسبب الحقد والغيرة فترتّب عن ذلك وجوب العقاب لتتواصل الحياة على نسقين ضروريين لاستمرارية التاريخ، هما الخير والشر، الموت والحياة، وذلك هو محور الاهتمام الجدّي، وقلق السؤال الحائر الحارق، أهم قضايا الفلسفة على الإطلاق.

ألا ترى أن الإنسان يبني ويهدم في نفس الوقت، أليست الحضارة والتقدم التكنولوجي شرف الإنسان وفضيحته في آن، ألم نصنع بالعلم وذكائنا القنبلة الذرية الماحقة للحياة، وأسلحة الدمار الشامل، وبعثنا في الأرض الحروب لتدميرها وإبادة الإنسان؟

قد يكون ذلك من سنة الحياة لخلق التوازن من خلال صراع الخير والشر، ولكن الإنسان بطبعه كنود، وللخير جحود. قتل الإنسان ما أكفره.

عذرا أيتها الأم

ما عاد صدرك يحوينا

يظلّلنا... يهدينا

وينغلق النص على نهاية محتومة مادام الموت خاتمة الكائن الحي. تلك لعبة الزمن خَـلْقٌ فحياة وكينونة، فموت وفناء.

هكذا يتماهى النص مع الوضع البشري للإنسان لينهض على مراحل ثلاث، هي مسيرة الكائن تتبدّى من خلال انطلاقته باتجاه الأعلى صعودا، توقا إلى الأفضل فاستقرار وخلق وبناء وتعمير، فسقوط وفناء واندثار، ولكن الحلم مشروع ومطلوب ليكون في الحياة ما يستحق الحياة بتعبير العظيم محمود درويش. وما الشعر إلا حلم جميل وسعي لبناء الحياة وزرع الأمل ومقاومة تشيّئ العالم وصلابته، فالقصيدة حياة والشعر بعض معاني الكون، لذلك فإن الشاعرة لم تكن غافلة عن ذلك، فإذا هي تتطرق إليه في نصّيْـها: "حروفي" ص7 و "حبيبتي استثناء" ص9 الذي تعالج فيه تعريف القصيدة حبيبة للشعراء تولد من رحم الحلم الذي يكشف عن ذاته باكرا منذ المنطلق فإذا هو أول ما تقرأ مما كتبت الشاعرة في أول سطر من أول قصيدة. ولقد وردت لفظة الحلم أربع عشرة مرة في النصوص.

إن المتأمل في القصائد المدرجة لا يفوته أن يلاحظ هيمنة البحر وما يتّصل به والنور ومصادره ومشتقاته: وباعتبار سيطرة هذين الاهتمامين على غالب النصوص فقد رأينا أن نركز عليهما بصفة خاصة لنرصد مدى حضورهما في الحقل اللغوي للخطاب.

1) في البحر وما يتصل به:

البحر- الشاطئ- الزورق- اللجّة- السفينة- الإبحار: يتوزع هذا القاموس على أربعة عشر نصا من جملة اثنين وثلاثين، والعدد مشيرومؤشّر ودالّ. وقد نوعِز تردد هذه العبارات عبر النصوص إلى علاقة وجدانية حميمة للشاعرة مع البحر باعتبارها ابنة الجبل تتوق إلى ليونة الماء، ولكن أيضا إلى ضرورة البحر حافزا مهما في الكتابة الشعرية يُليّن صلابة تجتاح المناخ، ويبلّل اليابس. والشعر يكره الجفاف ويطلب النديّ لتبتلّ جوانحه.

2) قاموس النور في قصائد العامرية وإحالاته الإيحائية:

يلاحظ المتأمل في نصوص العامرية أنها اشتغلت بكثافة على قاموس لغوي مخصوص يطغى على غيره وظفت فيه النور ومصادره والأفعال ذات العلاقة، مقابل العتمة ومشتقاتها، إحالة على صراع الخير والشر/ الأمل واليأس/ التفاؤل والتشاؤم/ الحياة والموت في واقع الإنسان عامة وفي حياة الشاعر بصفة خاصة.

ومن خلال إحصائية دالة، رصدنا المؤشرات التالية:

الاشتغال على النور ومصادره

وردت العبارات التالية بكثافة نضبطها في ما يلي بعدد مرات ورودها لنتبين مدى انتشارها.

الشمس (15 مرة)/ النور (12 مرة)/ الفجر (5 مرات)/ النجوم (5 مرات)/ القبس (3 مرات)، ومرة واحدة الألفاظ التالية: الضوء- قناديل- سراج- النار- منارة- مشتعل- الشعاع- وميض- المضيء.

وبصيغة الفعل: سطع- ينير- يومض- أشرق.

ولقد وردت هذه الألفاظ في النصوص 64 مرة فكانت أكثر العبارات استعمالا بالإضافة إلى أربعة عناوين تحمل بعض هذه العبارات مثل: نقر على أوتار الشعاع- فجر الأماني- قناديل الأرض العطشى- في ماهية النور.

وفي المقابل فإن الاشتغال على قاموس العتمة وما يواليها في اللغة كان محدودا بشكل لافت، حيث وردت عبارة الليل (9 مرات)، الدجى (مرتين)، الغسق (مرة واحدة). وورد عنوان واحد يتيم في هذا المضمون هو: "حورية الليل"، ولكن الليل فيه لا يعود إلى نفس المرجعية ليعبر عن الظلام ، بل جاء محيلا على الرؤى والحلم والإلهام.

الخــلاصــــة: يمكن بمقارنة سريعة أن يتّضح لنا توسع مساحة النور على حساب تقلّص العتمة في مجموع النصوص، فيكون الاستنتاج المباشر حينئذ أن القصائد في مجملها تحلّق في أفق فضاء مضيء وتجنح نحو التفاؤل والأمل ليطغى قاموس الفرح على ما كُتِبَ إيحاء بالغبطة والسرور والفرح بالحياة اعتبارا لأن القصيدة تكتب شاعرها على حدّ قول "موريس بلانشو".

على سبيل الخاتمة: "نقر على أوتار الحرف" مجموعة شعرية موسومة بشرف البدايات، تبشر بميلاد نصوص لاحقة واعدة بالعزف على أوتار الإبداع الأفضل والأرقى.

 

الهادي العثماني- تونس

 

 

في المثقف اليوم