قراءات نقدية

رضوان الرقبي: البنى الحوارية والاستدلالية في خطاب الجرجاني

ridowan alrokbiتقديم: يحتل الحديث عن التواصل الأدبي أكبر جانب من تأليف البلاغيين العرب، فهو منطلق سعيهم إلى ضبط نواميس البيان وغايته، ومن الطبيعي أن يحظى بهذه المكانة لأن البلاغة؛ أي بلاغة؛ لا تعدو أن تكون كلاما على كلام، منه تصدر وإليه ترجع.

والناظر في المادة البلاغية المجتمعة عند العرب في سعيهم إلى تحسس مواصفات النص البليغ، يلاحظ حرص البلاغيين القدامى على دراسة كل المظاهر المساهمة في تركيب النص، المؤثرة في خصائصه الفنية، انطلاقا من تأليف الحروف في اللفظ إلى أن يستقيم ويكون متماسكا منصهرا في شكل فني مخصوص، نظما كان أو نثرا، ولذلك نراهم يزاوجون في مقاييسهم بين الخصائص النوعية للوحدات والمميزات العامة لبنية الكلام.

إن تعدد المنطلقات والمصادر ومسارات البحث في الدرس البلاغي العربي، قديمه وحديثه، وكذا تنوع المؤثرات والخلفيات، أدى بشكل تلقائي وطبيعي إلى اختلاف الرؤى والتصورات وطرح العديد من التساؤلات المحرجة في هذا المضمار:

هل ـ فعلا ـ العلاقة القائمة بين البلاغة العربية والمقاربات النصية الحديثة علاقة انفصام أو اتصال، وعن أي بلاغة نتحدث، هل هي بلاغة جملة أم بلاغة نص؟ وهل يستطيع هذا العلم أن يفي برصد ظواهر النصوص لكي ينتقل من بلاغة خاصة إلى  بلاغة عامة كلية؟ ثم هل تستجيب البلاغة العربية لكل شروط التنظير حتى نسائلها عن كفايتها الفطرية والمراسية؟.

كيف نطور البلاغة العربية حتى تصبح مستجيبة لكل المقاربات الحديثة؟ وكيف يتم استثمار أدواتها النظرية في أساليبنا الاقناعية والحجاجية؟ ثم ألا يمكن للدراسة البلاغية أن يكون لها دور في التربية الحجاجية اليومية للمواطن؟.

من نظرة متأنية وشاملة لمجمل الإنجاز البلاغي، و في ضوء الأسئلة البلاغية، نقتنع بأن هذا التراث ما زال مُحاورا يثير الدهشة من جانبين: من حيث الشمول والعمق.

فمن حيث العمق، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري قد سبق طرحه وهو: هل البلاغة العربية بلاغة جملة أم بلاغة نص؟.

والمتأمل في مجمل التراث البلاغي العربي القديم، يجد أن البلاغة العربية لم تكن كما هو شائع بلاغة جملة على الإطلاق، بل كانت إنجازاتها العميقة قد انتقلت إلى مستوى النص، تنبني المعاني بعضها على بعض، ويفهم النص بعضه من بعض.

كيفما كان الأمر، فإن المتتبع للشأن البلاغي يجد بلا مراء فيه عناصر المقاربة التداولية حاضرة في كل الخطابات البلاغية ومن سماتها البارزة: السياق والمقام فضلا عن المقاصد التي يستهدفها المخاطب من الخطاب، انطلاقا من مبدأ أن لكل مقام مقال .

أما من حيث الشمول فيمكن الحكم بأن البلاغة العربية، نظرية شاملة للمعنى في كل تجلياتها المختلفة، سواء كانت ذات طبيعة تصورية كالتشبيه والاستعارة... أو كانت ذات طبيعة أسلوبية نصية كالمحسنات اللفظية .

بناء على هذه التوجهات، فإن البلاغة العربية تعلمنا كيف نتكلم، بل تعلمنا كيف نقنع وكيف نتخذ القرار.. علما بأن الإقناع هو نشاط حيوي في فضاء اجتماعي واقتصادي مبني على المنافسة بين الأشخاص والأفكار. ومن جهة أخرى فإن امتلاك المتكلم لكل الأدوات الحجاجية والتفاوضية والاقناعية، تفترض بالضرورة اللجوء إلى توظيف عدد من الخطابات في الحياة الاجتماعية (الخطاب السياسي، الخطاب الأدبي، الخطاب الاشهاري).

و في هذا الإطار، يبدو أن إعادة تشكيل الذاكرة البلاغية، تتطلب بالأساس النبش في مفاهيم الدلالة وأنواعها وأقسامها عند البلاغيين واللسانيين على حد سواء.

ولا نكاد نمعن النظر في الإنتاج البلاغي للجرجاني حتى نتبين أن فكره هذا متأثر بنزعته الأشعرية، ولذلك كانت غايتنا في هذا المحور أن نبرز مظاهر هذه النزعة الكلامية في أسلوبه الحجاجي، على أن نحاول استخراج من تضاعيف كتاباته – الأسرار والدلائل – ما ينم فيه عن طريقة تفكيره وتعبيره، ولما كانت هذه المظاهر الكلامية متداخلة في أسلوبه على غرار أصولها، فمن العسير أن نفصل بينه.

لاشك أن لشخصية البلاغي وعقليته واتجاهه الفكري وعقيدته أثرا في أسلوبه، فإذا ما رمنا أن نحدد عناصر نزعة الجرجاني الكلامية في أسلوبه، وجب علينا أن نحدد أولا عناصر شخصيته الكلامية ومقوماتها والاتجاهات التي سار عليها قصدا أو بغير قصد، بصفته متكلما ومتكلما على نهج الأشاعرة.

وهذه النزعة الكلامية الخطابية الجدلية، تتجلى بنوع خاص في الأسلوب الحجاجي الاستدلالي في اللغة الطبيعية، والذي يرجع إلى صناعة الكلام، ما دام غرض الحجاج الأساسي هو الإقناع وفق طرق متعددة ومختلفة، كما أن ارتكازه على اللغة الطبيعية يجعل أدلته لا تكون دائما ظاهرة، بل أحيانا مضمرة، وهو ما يجعل العلاقات الحجاجية تخضع لشروط دلالية وتداولية على الخصوص.

وسنركز في هذا المحور على مبدأ الحوارية عند الجرجاني، باعتبارها آلية من آليات الاحتجاج الكلامي في الثقافة العربية الإسلامية.

والحوارية هي الأساس في كل خطاب حجاجي بل في كل تواصل إنساني، وتقوم على "مبدأ التعاون" Principe de coopération الذي عرف عند الفيلسوف الأمريكي "بول غريس" PAUL GRICE، ويأتي في صيغة: " ليكن انتهاضك للتخاطب على الوجه الذي يقتضيه الغرض منه" . وهذا المبدأ هو المنظم لطرق التخاطب في الخطاب الطبيعي، وهو مطلوب في كل تواصل لغوي جاد وجيد بين المتكلم والمخاطب.

وهذا المبدأ نجده في اغلب الدراسات التراثية، إذ غالبا ما يخلق المؤلف لنفسه محاورا، يعارضه أو يسأله عن مسالة ما فيؤلف في ذلك كتابا، " ولقد اخذ الجاحظ بهذا المبدأ في مؤلفاته، فاختلق عائبا لكتبه ومنتقدا لأرائه ومواقفه، ومن ثم جاءت عدد من مؤلفاته أو على الأقل فصول منها في صورة حوار، أما بينه وبين المعترض على أرائه، وإما بين شخصين يلبسهما الجاحظ لبوس طرفين متعارضين وينطقهما بحجج متباينة متعارضة" .

ولأجل تقريب الصورة سنعتمد مقاربة تداولية لمراتب الحوارية عند عبد القاهر الجرجاني، مستندين إلى ما توصل إليه الدكتور طه عبد الرحمن، حيث جمع بين ما توصل إليه الدرس التداولي الحديث وبين المعرفة التراثية.

 

1- مرتبة الحوار: والنظرية العرضية للحوارية

يعتمد الحوار في هذه المرتبة الآلية الخطابية المعروفة بالعرض، حيث ينفرد العارض ببناء معرفة نظرية، سالكا في هذا البناء طرقا مخصوصة، يعتقد أنها ملزمة للطرف الثاني المعروض عليه، وهي في عمومها مناهج الاستدلال البرهاني،" ومعلوم أن هذا الصنف من الاستدلال يتميز بخصائص صورية من تجريد وتدقيق وترتيب، ومن بسط للقواعد وتمايز للمستويات واستيفاء للشروط واستقصاء للعناصر" .

والجرجاني في هذا المستوى كثيرا ما يفتتح حواره بتوجيه تنبيهي لمخاطبه المفترض بقوله: اعلم، كما في حديثه عن النمط العلي من النظم، يقول:" وإذا قد عرفت هذا النمط من الكلام، وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم انه النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه" . ومنه كذلك أثناء حديثه عن التشبيه وأقسامه قوله:" اعلم أن الشيئين إذا شُبه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين...."  والأمثلة على هذا كثيرة في الأسرار والدلائل، وغالبا ما يأتي هذا الأسلوب الحواري في افتتاح الجرجاني لقضية معينة أو عند الاستنتاج.

وقد تحقق هذا المبدأ الحواري عند الجرجاني من خلال اعتماده على ما يصطلح عليه بـ"الحوار الشبيهي"، "ويختص هذا الحوار بكون "العارض" فيه يتظاهر بإشراك غيره في طلب المعرفة وإنشائها وتشقيقها، بينما هو في حقيقة الأمر آخذ بزمام توجيه "المعروض عليه" في كل مرحلة من مراحل الحوار، فهو الذي يحدد "للمعروض عليه" مسألة سبق أن تدبرها، ويعين طريقا لبحثها خبِرها من قبل، وينتهي إلى نتائج معلومة له" .

مثل قوله في سياق تأكيده على أن الفصاحة وصف للكلام بمعناه لا بلفظه مجردا، " وإذا قد عرفت ذلك فينبغي أن يقال لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا:" أن الفصاحة وصف يجب للكلام من اجل مزية تكون في معناه، وأنها لا تكون وصفا له من حيث اللفظ مجردا عن المعنى"....

فان قالوا: لا نرى ذلك/ لا يُكلموا.

وان قالوا: نرى الكلام، إذا كانت فيه، مزية توجب له الفصاحة.

قيل لهم: فاخبرونا عن تلك المزية، أتكون في اللفظ أم في المعنى؟ .

إن هذا الأسلوب الاستدلالي الحجاجي يكاد يُكون مجمل عمليات الجرجاني الاستدلالية على دعواه.

ويتجلى استثمار هذه الأداة في توجه عبد القاهر الجرجاني إلى المخاطب وتواريه وراء ضمير الخطاب مغفلا تماما ضمير المتكلم، وعند نتأمل الفقرة التي يحلل فيها الآية الكريمة أعلاه، نراه يقوم بتوجيه المخاطب ودفعه إلى الوصول إلى النتيجة بنفسه، وهذه الوسيلة أكثر إلزاما للمخاطب لأنها تصل به إلى درجة الاقتناع، وهي أعلى مرتبة وأقوى من درجة الإقناع، لأن الاقتناع إيمان وتسليم والتزام.

يقول:" إن شككت فتأمل! هل ترى لفظةً منها بحيث لو أُخِذَتْ من بين أخواتها وأُفْرِدَتْ لأَدَّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟

قل "ابلعي" واعتبرْها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.

فهذا التوجيه الحجاجي الذي يُشرك فيه الجرجاني المتلقي في الوصول بنفسه إلى النتيجة، يحقق ما أسميناه بمبدأ التشارك الحجاجي، أي أن العارض يدفع بالمعترض إلى الاستدلال بنفسه على الدعوى التي أراد إثباتها.

 

2- مرتبة المحاورة: والنظرية الاعتراضية للحوارية

ومرتبة المحاورة كأن يعتمد المحاور في بناء نصه على الصور الاستدلالية مجتمعة إلى مضامينها أوثق اجتماع، وكأن يطوي مثلا الكثير من المقدمات والنتائج، ويفهم من قوله أمورا غير تلك التي نطق بها على جهة الاستلزام والاقتضاء، وكأن يذكر دليلا صحيحا على قوله من غير أن يقصد التدليل به، وان يسوق الدليل على قضية بديهية أو مشهورة، هي في غنى عن دليل للتسليم بها، كل ذلك لأنه يأخذ بمقتضيات الحال، من معارف مشتركة ومعتقدات موجهة ومطالب إخبارية وأغراض عملية.

وطبعا كل سبيل استدلالي يكون هذا وصفه، فهو سبيل احتجاجي لا برهاني يقيد فيه المقام التخاطبي التراكيب والعبارات، ويرجح فيه العمل على النظر . ويظهر هذا النوع بوضوح في المناظرة، وهي نوع من المحاورة القريبة، كما يظهر في مستوى التناص الظاهر والباطن، والجرجاني يظهر في هذا المستوى عارضا رأيه على مخاطبه طالبا له الدليل من كل ناحية، منوعا بين النقلي منها والعقلي ليطمئن فؤاد المعروض عليه، فيقتنع بصوابية رأيه ووجاهة مذهبه، كل ذلك من غير طعن ولا تنقيص، إلا ما اقتضى النظر طرحه وهدم الاستدلال صرحه.

 

3- مرتبة التحاور: والنظرية التعارضية للحوارية

يرتكز التحاور في تصور النظرية التعارضية على الآلية الخطابية المعروفة باسم التعارض، حيث يضطلع المتحاور بالقيام بدورين في نفس الآن، فيكون مرة عارضا ومرة أخرى معترضا، منشئا لمعرفة تناظرية وفق مسالك معينة يعتقد أن خصائصها التقابلية أحث على العمل .

ومن ذلك محاورة الجرجاني للذين يرون أن الفصاحة وصف للكلام بلفظه مجردا لا بمعناه، واعتراضهم عليه في قوله:" إن الفصاحة وصف يجب للكلام من اجل مزيَّة تكون في معناه، وأنها لا تكون وصفا له من حيث اللفظ مجرَّدا عن المعنى" واحتجوا بان قالوا:" انه لو كان الكلام إذا وُصف بأنه فصيح، كان ذلك من اجل مَزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون تفسيره فصيحا مثله" . ثم يسائلهم الجرجاني:" اترون ان من شان هذه الاجناس، اذا كانت في الكلام، ان تكون له بها مزية تُوجب له الفصاحة، ام لا ترون ذلك؟.

فان قالوا: لا نرى ذلك لم يُكلموا

وان قالوا: نرى للكلام إذا كانت فيه مزية تُوجب له الفصاحة.

قيل لهم: فاخبرونا عن تلك المزية، أتكون في اللفظ أم في المعنى؟.

فان قالوا: في اللفظ دخلوا في الجهالة، من حيث يَلزمُ من ذلك أن تكون الكناية والاستعارة والتمثيل أوصافا للفظ، لأنه لا يتصور أن تكون مزيتها في اللفظ حتى تكون أوصافا له، وذلك مُحال، من حيث يعلم كلُّ عاقل انه لا يُكنى باللفظ عن اللفظ، وانه إنما يُكنى بالمعنى عن المعنى....

وان قالوا: هي في المعنى

قيل لهم: فهو ما أردناكم عليه، فدعوا الشك عنكم، وانتبهوا من رقدتكم، فانه علم ضروريُّ قد أدَّى التقسيمُ إليه، وكل علمٍ كان كذلك، فانه يجبُ القطع على كل سؤال يُسأل فيه بأنه خطأ، وان السائل ملبوس عليه .

فالجرجاني كما نرى يتخذ وضعيتين: وضعية العارض ووضعية المعترض، كل ذلك من اجل إنشاء معرفة تناظرية، تؤدي في النهاية بالخصم إلى التسليم بطرح الجرجاني، لأنه يحاول دحض أراء خصمه من خلال هدمه للأساس الذي بَنى عليه الطرف الثاني مسلماته.وكل ذلك في إطار تحاوري أساسه قوة الدليل وحسن الاحتجاج.

ويستند التعارض كما يرى الدكتور طه عبد الرحمن على قواعد تخاطبية منها:

1. عدم التنصيص على شيء والقصد تخصيصه.

2. سلوك طرق التقابل في تدقيق الكلام.

3. استحضار إمكانية الاعتراض على الأقوال المعروضة.

وطرق هذه المرتبة هو ما يسمى بالتحاج، ويكون بأساليب عدة منها أن يأتي المتحاور فيثبت قولا من أقاويله بدليل؛ ثم يعود إليه ليثبته بدليل أقوى منه، ومثال ذلك قول الجرجاني في معرض حديته عن جمالية الحذف في المبتدأ، بعد أن يذكر مجموعة من الادلة والشواهد على براعة الحذف:" وان أردتَ ما هو أصدق في ذلك شهادة، وأدل دلالة، فانظر إلى قول عبد الله بن الزبير يذكر غريما له قد ألح عليه . ثم يذكر الابيات، ومنه كذلك قوله: ومن جيد الامثلة في هذا الباب قول الاخر... أو قوله: ومن بارع ذلك ونادره ما تجده في هذه الأبيات...   وكأن يثبت قوله بدليل ثم ينتقل لإثبات نقيضه بدليل أخر، أو يثبت قولا بدليل ويثبت نقيضه بعين الدليل وما إلى ذلك.

وعبد القاهر الجرجاني هنا في هذه المرتبة الحوارية العالية التي يظهر فيها التأثر اشد ما يكون بأساليب علماء الكلام في إيرادهم أقوال الخصوم، أو ما يمكن أن يعترض عليهم به ولو افتراضا، والجواب عنه برده ليزداد دليل العارض الأصلي متانة ويتقوى رأيه بما يدفعه من شبه واعتراضات ترد عليه، إذ إن الدليل لا يقوى على غيره بنفسه فقط، بل بما يقتدر معه على دفع ودحض ما يعترض به عليه، حتى تصير ساحته خالية من أدنى شك يتطرق إلى قوته بما يرد عليه وهو أقوى.

وخطاب الجرجاني الحجاجي في الأسرار والدلائل غالبا ما يأتي كما أسلفنا على شكل حوار، حيث يُنشئ الجرجاني اعتراضات مفترضة من خصومه على أقواله، ويحاول دحضها ليعطي القوة والصلابة لرأيه، وهذا ما يعطي لخطاب الجرجاني البعد الحجاجي الكلامي.

كما أن استدراج الخصم/ المعروض عليه، بعرض رأيه كما هو في الواقع من غير تحريف بالزيادة أو النقصان، والقصد إلى كشف تناقضه واضطرابه، ومحاصرته بما لا يستطيع غير القول به والإقرار بمقتضاه كما فعل الجرجاني، وهذا الأسلوب هو أرقى ما يلجأ إليه علماء الكلام في مناظراتهم ودفاعهم عن أرائهم ضد خصومهم.

وعلى العموم ففي تصفحنا واستخراجنا للبنى الكلامية والاستدلالية والحوارية في خطاب الجرجاني، لا نقصد به إلا التدليل على تسلح الجرجاني بسلاح الحجاج الكلامي، وعليه يمكن رصد بعض أساليب الحجاج الكلامية في خطاب عبد القاهر الجرجاني كما يلي:

1. النقض: لغة الكسر ، واصطلاحا" خدش مجموع الدليل بتخلف الحكم عنه واستلزامه فسادا آخر" ، وقيل " ادعاء السائل بطلان دليل المعلل مع إقامته الدليل على دعوى بطلانه" وعليه يكون النقض هو أن يذكر المعترض شاهدا يبطل دليل الخصم.

2. المنع: لغة هو نقيض الإعطاء  وفي الاصطلاح هو " طلب الدليل على مقدمة دليل المستدل"  وقيل هو " امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل" .

3. المعارضة: لغة المقابلة على سبيل الممانعة، وهي اصطلاحا " إقامة الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم" . أو هي " مقابلة دليله بدليل يباينه إنتاجا" . وتكون المعارضة بإثبات نقيض المدعي أو نفيه، كما تكون بإنتاج دليل يساوي نقيض الدعوى، أو إثبات الأحض من النقيض" .

وهناك أساليب أخرى كلامية مبثوثة في ثنايا خطاب الجرجاني، منها التسليم الجدلي، وهو أن يسلم ببعض قضايا خصومه لكي يبرهن على ما يترتب عليها من بطلان أو فساد. ومنها التفريق: وهي أن يميز في لفظ الخصم أو قوله بين معان متباينة فيما بينها، ومنها كذلك استخراجه الشبه وإثارة الشكوك، وهو أن يتعقب نتائج أقوال خصومه فيما تفضي إليه من إشكالات أو احتمالات لا تقبل....

وعلى العموم فإن الخطاب البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني جاء وكأنه حوار جدلي، يبحث عما في نفس الباحث من استطلاع أو اعتراض بطريقة تذكر بما كان يروى عن منهجية المتكلمين في إيقاظ الفكر بالحوار، ويحرص على أن يظل دائما وثيق الصلة بمخاطبه الافتراضي، يمثل له يقنعه يجادله يستميله ويستمهله... كل ذلك بعقل مجتهد لا يفتر عن النظر في النقل وتقليبه.

 

2 - التوجيه الحجاجي التداولي للقولات:عند عبد القاهر الجرجاني

في هذا المحور سنسعى إلى اختبار آليات التحليل الحجاجي التداولي، بفرعيها البلاغي واللساني، والى معرفة مدى توظيفها عند الجرجاني، وإلى الكشف عن الوظيفة الإقناعية والحجاجية للنصوص الأدبية، والتي تساعد هذه الآليات على اكتشافها، من أجل توظيفها في تحليل شامل لجميع مستويات النص الأدبي، الدَّالِّيَّة والدلالية والتداولية،. ونجد هذا التطبيق متوافقا مع ما أشار إليه محمد الخطابي من تعايش الوظائف الوصفية والسردية والحجاجية في النصوص الأدبية، بخلاف التصنيف التقليدي الصارم للنصوص الذي يعتبر الحجاجية نمطا بعينه يهيمن على أنواع محددة من النصوص دون غيرها ، بحيث يمكن تعديل هذا التصنيف كما سبقت الإشارة وتقسيم النصوص الأدبية إلى نصوص أكثر حجاجية وأخرى أقل حجاجية.

وعلى هدا الأساس سنحاول تبيان الآليات التي اعتمدها عبد القاهر الجرجاني في التدليل على فكرة النظم، من خلال نص المفتاح في دلائل الإعجاز، حيث يقول مبينا أهمية النظم.:

«وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة {كذا} معناها لمعنى جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟

وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه: قلقة ونابية، ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لِفْقا للتالية في مؤداها؟

وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44)، فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يَعْرِض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة؟ وهكذا إلى أن تستقريَها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها.

إن شككت فتأمل! هل ترى لفظةً منها بحيث لو أُخِذَتْ من بين أخواتها وأُفْرِدَتْ لأَدَّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟

قل "ابلعي" واعتبرْها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء بـ "يا" دون "أيْ" نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل وغيض الماء، فجاء الفعل على صيغة "فُعِلَ" الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: "وقضي الأمر"، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو "استوت على الجودي"، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة "قيل"، في الخاتمة، بـ"قيل" في الفاتحة. أفترى لشيءٍ من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟

فقد اتضح إذاً اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له  بصريح اللفظ" .

 

2-1 بؤرة الحجاج:

لقد أبدى عبد القاهر الجرجاني تمكنا راسخا في أساليب الحجاج جسدته ردوده المتكررة على المعترضين وعلى شبههم في التأويل، كما كان كلامه يفترض مخاطبا عالما بما يلقى إليه ومقتنعا به. وأظهر كذلك إلماما واسعا بجهاز المناظرة المتأصل في المعرفة الإسلامية. فمصطلحات: الادعاء، والدعوى، والإثبات، والتقرير، والسؤال، والاعتراض، والمعارضة، والدليل، والشاهد، والاستدلال، والقياس وغيرها، مفاهيم سهلة الرصد والملاحظة على طول مشروعه البلاغي، وهذه الآليات البلاغية هي التي تشكل المدخل الأساس لفهم العمق الاجتهادي والتداولي في هذا الإنتاج.

وتحليل المظاهر الحجاجية التي وظفها عبد القاهر الجرجاني في هذا النص، كفيلة بكشف قدرة هذا العالم على استثمار آليات الحجاج البلاغية واللغوية، مما منح لأسلوبه تلك القوة التأثيرية المقنعة.

لقد وجد عبد القاهر في إعجاز القرآن نموذجا ونصا جاهزا لبناء نظريته في النظم. و"معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلِم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض" ، وذهب إلى أن إعجاز القرآن يتحقق في نظمه ورصفه لكل مكونات الخطاب معتبرا أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة .

ويؤكد في رده على المعتزلة على أن الفصاحة لا تقع في اللفظ مقطوعا عن سياقه التداولي، ويخصص لذلك فصلا يسوق فيه الأدلة على بطلان دعوى من يقول بان الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ، قائلا:" وهذا فنٌّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون " الفصاحة" صفة للفظ من حيث هو لفظ" .

وبيان أخر، وهو أن القارئ إذا قرأ قوله تعالى: ( واشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيباً) . فانه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلا من بعد أن ينتهي الكلام إلى أخره، فلو كانت "الفصاحة" صفة للفظ " اشتعل" لكان ينبغي أن يُحِسَّها القارئ في حال نطقه به" .

وموقفه في هذا النص لا يخرج عن الاحتجاج والاستدلال على هذه الدعوى العامة التي انشغل بها مشروعه البلاغي، فهو ينطلق من دعوى جزئية يصوغها في شكل مسلمة لا تقبل النقاش، وهي أن الكلمة لا تكتسب فصاحتها إلا داخل النظم (التركيب). ولذلك يقول" وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها،ومعلقا معناها، بمعنى ما يليها، فإذا قلنا في لفظة "اشتعل" من قوله تعالى: (واشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيباً) . إنها في أعلى رتبة من الفصاحة، لم تُوجَبْ تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولا بها " الرأس"/ معرفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما " الشيب" مُنَكَّرا منصوبا .

ويواصل الجرجاني احتجاجه على أن الفصاحة كامنة في علاقة اللفظة بما يليها وما قبلها، وليس في كونها مستقلة عن سياقها التداولي، مثل قوله في تبيان وجه الفصاحة في قوله تعالى: (يَحْسبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحذَرْهُمْ)  يقول:" سبب الفصاحة فيها أمور لا يشك عاقل في أنها معنوية:

أولها: أن كانت "على" فيها متعلقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني.

والثاني: أن كانت الجملة التي هي " هم العدو" بعدها عارية من حرف عطف.

والثالث: التعريف في " العدو" وان لم يقل: "هم عدو".

ولو انك عَلَّقت" على" بظاهر، وأدخلت على الجملة التي هي" هم العَدُوُّ" حرف عطف، وأسقطت " الألف واللام" من " العدو" فقلت: " يحسبون كلَّ صيحةٍ واقعة عليهم وهم عدو" لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها، ولو انك أخطرت ببالك أن يكون       " عليهم" متعلقا بنفس " الصيحة" ويكون حاله معها كحاله إذا قلت: " صحت عليه" لأخرجته عن أن يكون كلاما، فضلا عن أن يكون فصيحا،وهذا هو الفيصل لمن عقل" .

ويمثل هذا الادعاء بؤرة الحجاج وصلبه، ومنها تتسلسل حجج النص وتتوالد أساليبه وأدواته الحجاجية.

أما العارض المدعي فهو كاتب النص "عبد القاهر الجرجاني"، ويختفي في النص وراء استعمال ضمير المخاطب، وهو الصيغة المفضلة للمحاورة والجدال والإقناع لدى القدماء. وأما المعترِض فحضوره مضمر، إذ ربما كان أحد معاصريه ممن يمثل اتجاها بلاغيا مناقضا لرؤية عبد القاهر البلاغية، وقد يكون كل قارئ لنصه مهتم بمعرفة الأوجه البلاغية لإعجاز النص القرآني، ورغم ذلك فإن تجلياته في النص بارزة من خلال عدة مؤشرات نصية، من قبيل: "هل تجد..، هل تشك..، قل..، اعتبر..، أفترى...".

 

2-2 البناء الحجاجي للنص:

اعتمد عبد القاهر في بناء نصه على ما يدعوه طه عبد الرحمن بـ"الحجاج التقهقري" ، أي أنه انطلق من النتيجة (أو الدعوى)، وهي أن مزية اللفظة ليست في ذاتها، وإنما في مواءمتها للتركيب بالنظر إلى علاقتها فيما قبلها وما بعدها، أي في بعدها التداولي، ثم انطلق عبد القاهر بعد ذلك يبين لنا المقدمات التي تنبني عليها الدعوى مستدلا عليها بما يرسخها، ثم عاد في الختام إلى تأكيدها وتعزيزها بتعبير قطعي جازم (فقد اتضح إذاً اتضاحا...).

 

المظاهر الحجاجية في النص:

- السلطة المرجعية:

من الأدوات الحجاجية التي استثمرها عبد القاهر في بناء نصه استناده إلى سلطتين لهما أثرهما الفعال والمؤكد على المخاطب، ولا يملك المعترض أمامهما إلا التسليم والإذعان، لأن مصدرهما إما قطعي الثبوت أو قطعي الدلالة، رغم أنهما في ميزان البراهين المنطقية القطعية قابلان للمجادلة والنقاش والتأويل، لأنهما دليلان نقليان وليسا عقليين، وقد استند إليهما عبد القاهر الجرجاني باعتبارهما قاسما مشتركا بين المتكلم والمخاطب، مما ييسر مهمته في الإقناع والتأثير، وهاتان السلطتان هما:

سلطة الإجماع: وتتجلى في قوله: "وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة {كذا} معناها لمعنى جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟"، وذلك أن صياغة العبارة التي افتتح بها دعواه بأسلوب الاستفهام بمعنى النفي المؤدي لمعنى القصر، يدفع بنا إلى اعتبارها حجة ضمنية تدفع بالمخاطب إلى استنتاج نتيجة هي: "أن الكل مجمع على اعتبار النظم معيارا للحكم على فصاحة اللفظة".

وتتجلى حجية الإجماع كذلك في إحالته على ضمير الجماعة في قوله: "وهل قالوا...".  واستثماره لهذا الأسلوب دال على مقدار تمرسه بأدوات الفقهاء والكلاميين في الجدال وإفحام الخصوم.

سلطة المرجعية الدينية: وذلك أن استشهاده بالآية الكريمة ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44) بالتحديد دون غيرها من آيات الذكر الحكيم أمر له دلالته، وذلك لما حظيت به هذه الآية من تقدير وعناية من قبل البلاغيين والمفسرين، حتى قال فيها جار الله الزمخشري: «استَفْصَحَ علماءُ البيان هذه الآيةَ ورَقَّصوا لها رؤوسهم» ، ولعل ذلك كان الدافع وراء اختيار أبي يعقوب السكاكي لها أنموذجا تحليليا يختم به مباحث علم المعاني والبيان ، وتبعه القزويني فقام بدراسة أوجهها البيانية دراسة وافية . ويضاف إلى ذلك احتواؤها على مقومات بلاغية كثيرة تفيد عبد القاهر في إبراز دور النظم في التركيب، ورغم ذلك فقد اكتـفى بذكر أوجه البلاغة في الآية دون تفصيل فحصرها في ما يلي:

مناداة الأرض والسماء وتوجيه الأمر إليهما.

اختيار "يا" دون غيرها.

إضافة الماء إلى الكاف (ابلعي ماءك) عوض أن يقول: (ابلع الماء).

اختيار صيغة "فُعِل" لإبراز قوة الآمر.

تأكيد قدرة الله بجملة (وقُضِيَ الأمر).

تصوير حال السفينة دون ذكرها بالاسم للدلالة على عظم الشأن.

مقابلة "قيل" في فاتحة الآية بـ"قيل" في خاتمتها.

ولعل هذا الإجمال والتركيز الذي أصاب تحليل عبد القاهر للآية لم يكن إلا بسبب توجهه إلى متلق من نوع خاص، هو المعترِض المُتوقَّع، والمعترِض لا يكون إلا من طبقة عالمة مقاربة لعلم الجرجاني ومعرفته، فاكتفى باللمحة الدالة والإشارة السريعة دون تفصيل.

ويمكن القول أن عبد القاهر الجرجاني، وضع أصول نظريته في الحجاج من خلال استفادته من:

1- أساليب الحجاج المتعارف عليها كالرد على أقاويل المعترض وعلى شُبه تأويله، وكالتوجه إلى المخاطب وافتراض علمه واقتناعه بما يلقى إليه وبناء الأحكام والقواعد على هذا الافتراض.

2- الجهاز المفاهمي للحجاج في أدب المناظرة، وهو جهاز مفهومي متأصل في المجال التداولي الإسلامي العربي، فقد عمد الجرجاني إلى اقتباس عناصر مختلفة عنه في تكوين تصوره للحجاج كالادعاء؛ الدعوى؛ الإثبات؛ التقرير، الاعتراض؛ الاستدلال؛ القياس...

 

2-3  مبدأ الترتيب الحجاجي التداولي:

لقد سلك عبد القاهر في الإقناع بحججه مسلكا متدرجا في الإقناع معتمدا تراتبية في الاحتجاج، تنطلق من الأدنى إلى الأقوى والأكثر تأثيرا، ويتجسد ذلك في استدراجه المتلقي من أجل الوصول إلى النتيجة المرجوة مستهدفا قطع دابر أي شك في سلامة دعواه، ويمكن توضيح ذلك من خلال السلم الحجاجي التالي:

ن = التسليم بضرورة ملاءمة اللفظة للنظم.

ح4 = فقد اتضح (...) لا يدع للشك مجالا       -

ح3 = كيف بالشك في ذلك...                   -

ح2 = إن شككت فتأمل...                       -

ح1 = هل تشك إذا فكرت...                    -

فقد وظف عبد القاهر في (ح1) أسلوب الاستفهام المقترن بالنفي وهو ما يفيد القصر، أي "تخصيص أمر بآخر عن طريق مخصوص. ويقال أيضا: إثبات الحكم المذكور، ونفيه عما عداه" . ويقوم القصر هنا بوظيفتين:

الأولى: نقل القوة الإنجازية للجملة من الدلالة على "السؤال" إلى الدلالة على ا"لإثبات".

الثانية: دور العامل الحجاجي الذي يحصر ويقيد الإمكانات الحجاجية التي تكون للقول، لأن المخاطب لا يملك غير أن يجيب بجواب واحد لا ثاني له يفيد التسليم بصحة الدعوى.

أما (ح2) فقد صاغها عبد القاهر بأسلوب الشرط، وهو من التراكيب التي يتوارد ذكرها في سياقات التخاطب الحجاجي التداولي، لأن "إنْ" و"الفاء الرابطة لجواب الشرط" بمثابة روابط حجاجية، لأنها تربط بين متغيرين حجاجيين هما: الشك في الدعوى والتأمل المفضي إلى الاقتناع. والجملة الشرطية بعنصريها "فعل الشرط وجواب الشرط" عبارة عن عامل حجاجي، لأنها تقيد من قدرات المخاطب على التأويل والاستنتاج.

وأما (ح3) فيستهلها عبد القاهر برابط حجاجي "فكيف"، وهو اسم استفهام، لكنه سرعان ما يقيده بعامل حجاجي "ومعلوم"، مما ينقل الجملة من الدلالة على القوة الإنجازية "السؤال" إلى القوة الإنجازية "الاستنكار"، وهو أقوى من "الإثبات" الذي دلت عليه (ح1) لأن المخاطب ليس مطالبا بالإجابة بل التسليم والالتزام وإلا أخرج نفسه من دائرة "العلم"، كما أنها أكثر حجية من (ح2) التي تظل بسبب بنيتها الشرطية حاملة لمعاني التردد وعدم القطع.

وقد حشد عبد القاهر (ح4) بما يجعل منها جملة ذات قوة حجاجية عالية:

فقد: "قد" الحرفية تفيد التحقيق، وهي مفتتح الجملة التي ستكون أقل قوة وتأثيرا لو حذفت هذه الأداة، كما أنها رابط حجاجي بين كل ما سبقها من كلام وما يليها من نتائج قاطعة.

اتضح: جاء على صيغة "افتعل" الدالة على المطاوعة، فكأنما اتضح من تلقاء نفسه، وهذه الصيغة أكثر إلزاما وإقناعا وتصل بالمتلقي إلى مرحلة الاقتناع. كما أن هذا الفعل على المستوى المعجمي أكثر إبانة وقوة من أفعال أخرى ترادفه مثل: ظهر، بان، برز، بدا..، ولذلك كانت العرب تسمى الصبح بـ"الوضاح"، وتسمي اجتماع الضوء والبياض بالوَضَح .

إذن: حرف جواب يبين أن ما سيأتي بعده نتيجة وجواب لما قبله ، فهو رباط حجاجي يدل على أن الحجاج عند عبد القاهر متسلسل آخذ بعضُه برقاب بعض.

اتضاحا: مفعول مطلق دال على التوكيد.

لا يدع للشك مجالا: قدم "الشك" على "مجالا" لأن هدف عبد القاهر هو إزالة الشك واجتثاثه.

أنَّ: حرف مصدري وتوكيد.

بقية الجملة: إعادة صياغة وتذكير بمضمون الدعوى المتبناة في النص.

وتتبين القوة الحجاجية العالية لهذه الجملة، إن من حيث المبنى أو من حيث المعنى، حين ننزع منها العناصر اللغوية الدالة على هذه القوة، ونحافظ فقط على "الخبر"، وذلك باتباع الخطوات المتدرجة التالية:

حذف أكبر متوالية لسانية دالة على التأكيد، وهي الجملة الاعتراضية "لا يدع للشك مجالا".

حذف الفضلة "اتضاحا".

حذف أداة التحقيق "فقد".

حذف حرب الجواب "إذن".

ولا نحتفظ في النهاية بعد التخفيف من قوتها الحجاجية إلا بالجملة الخبرية "اتضح أنَّ.." الدالة على القوة الإنجازية "الإثبات"، وهي التي يؤثر حذفها على المعنى المراد.

وختاما، فإن إخضاع مجهود الجرجاني في هذا النص المجتزأ من سياق أكبر، لآليات الحجاج وحدها قد يضيق من سعة مشروعه البلاغي المتكامل، ويقف دون إدراك أبعاد رؤيته الجمالية، ولكن غرض هذا الباب منذ البداية كان هو الوقوف على تجليات الاستدلال الحجاجي والإضافات المنهجية التي تقدمها آليات التحليل الحجاجي اللساني التداولي عند دراسة نصوص أدبية، ناهيك عن أن خطاب عبد القاهر البلاغي لا ينفصل عن رغبته في إحداث الأثر النفسي لدى المتلقي، وهو ما جعل منه حقا إمام البلاغيين بلا منازع ومكَّن لمشروعه أن يستمر ويرسخ أقدامه في الثقافة العربية إلى يومنا هذا.

 

د. رضوان الرقبي

 

 

في المثقف اليوم