قراءات نقدية

حسين علي خضير: تشيخوف والكاتب المعاصر يوري بويده

husan alikhedayrهناك الكثير من الكتاب الروس المعاصرين لم يتحررو من نص تشيخوف الى الان، وأصبح نص تشيخوف مصدر رئيسي في أعمالهم، فهذه المرة سنتحدث عن الكاتب المعاصر الكبير يوري بويده الذي يدخل في جدل مباشر ومفتوح مع نص تشيخوف، من هو يوري بويده؟ يوري بويده كاتب روسي معاصر ترجمت أعماله الى عدة لغات : الفنلندية، الفرنسية، البولندية والالمانية والتركية، والانكليزية، وغيرها من اللغات. وشهرته وصلت الى أمريكا. مواضيعه الرئيسية هي: الذاكرة وارتباطها بموضوع الاختلاف والتنافر والعزلة، وتميز نثره بالجمال والكلمة المعبرة التي تخترق القلب من دون ان تشعر بها، ولكن أحياناً حينما تقرأ أعماله تشعر على الفور بالخوف. في عام ١٩٩٠ في جريدة (العالم الجديد) (نوفي مير)، نشرت قصة ليوري بويده وكان اسم القصة (مدرس مادة الكيمياء)، وفي عام ١٨٩٨ نشرت قصة تشيخوف (الرجل المعلب) مثلما ترجمها المترجم الكبير ابو بكر يوسف، والمدة الزمنية بين القصتين تقريبا اكثر من ١٠٠ سنة. في قصة (مدرس مادة الكيمياء) نجد يوري بويده يلجأ الى الوسائل النفسية حتى يتغلغل الى اعماق الروح الانسانية، في هذه القصة البطل هو سيرغي كان مريضا في القلب وكان أيضاً يعاني من نظرة المجتمع له، هذه الأمور كانت ترهقه وأصبحت صراع نفسي بالنسبة له وهذا الصراع تتطور وأصبح يؤثر تاثيراً مباشراً على سلوكه. شخصية البطل في قصة (مدرس مادة الكيمياء)، و(الرجل المعلب) كان الخوف يرافقهم دائماً، ولكن هذا الخوف ظهر عند الأبطال بشكل مختلف، لان الظروف الاجتماعية كانت مختلفة في الزمان والمكان، فبطل تشيخوف الذي كان اسمه بيليكوف، هو كان يخاف من كل شي وكان دائماً يعيش بحذر وقلق وعدم الثقة بالآخرين، بيليكوف كان يخاف من الظلام ، والليل وحتى النساء، وهو لا يعرف من ماذا يخاف، لكن شخصيته قوية ودائماً يفرض موقفه على الآخرين وباستمرار يردد عبارته المعروفة (اخشى ان يحدث شي)، اما بطل يوري بويده كانت حالته تختلف فهو يعرف جيدا ماذا يخشى ويخاف، هو كان يخاف الأماكن غير المعروفة والمجهولة بالنسبة له، والقبو والأماكن العالية، لكن سيرغي عكس بيليكوف لا يفرض أراء على الآخرين ولم يعد نفسه المحافظ على القيم والاخلاق والنظام، ان خوف سيرغي ظهر واضحاً، حينما (آسيا) المدرسة التي كانت تدرس في نفس المدرسة، هي طلبت منه جلب شيئا ما من القبو الذي كان في المدرسة ولكنه يرفض (ذات مرة (اسيا) طلبت منه ان يجلب شياً ما من قبو المدرسة: - نعم... لكن انا أبدا لم أكن هنالك....لا أحب ان ادخل في اقبية وأماكن عالية وهي مجهولة بالنسبة لي.... اعذريني اسيا خارينوفه). كذلك ظهرت لدى بطل بويده رغبة شديدة الى الانتقال من التدريس الى المختبر الكيمياء، وهذه الرغبة في النهاية أصبحت غلافه الخارجي الذي يعزله عن العالم الخارجي بررت موقفه هذا الناقدة الكبيرة إيلينا بيتوخوفه: (ولكن ظاهرياً (سلوكه الغلافي) يعود لعدة أسباب داخليه هي : الإحساس بالمسؤولية، الحذر وعدم مخالطته للناس، تكفي هذة الأسباب ان تجعل منه (الرجل المعلب) لذلك هو يفضّل المختبر على الناس). إذن جميع هذه الأسباب هي التي جعلت مدرس مادة الكيمياء يدخل في علبته ان صح تعبير، لكن الشي الملفت للنظر ان موقف سيرغي من قصة (الرجل المعلب) كان اشبه بالاحتجاج حينما زميلاته اسيا وصفته ب (الرجل المعلب) ذات مرة (الرجل المعلب يقرأ "الرجل المعلب"... لكن أرجوكِ لاتناديني بالرجل المعلب). هنا، بطل بويده يدافع عن نفسه حتى لا يكون مضحكاً وفي نفس الوقت يوري بويدة كما لو انه يريد ان يقول للقارئ ان مثل هؤلاء الناس لديهم مشاعر وأحاسيس ويجب احترامها، وكذلك يوري بويدة عبر عن موقفه الرافض الى قصة (الرجل المعلب) التي أصبحت تطلق على كل شخص عازل نفسه عن الآخرين. اما دور المرأة في هاتين القصتين فكان دورا مميزا ومؤثرا على سبيل المثال (فاريا) في قصة تشيخوف جلبت الاهانة والموت لبيليكوف، اما (اسيا) في قصة (مدرس مادة الكيمياء) كانت ذكية، جميلة ومليئة بالحيوية التي كانت تسحر الجميع ومن ضمنهم بطل بويده، ولكن خلال فترة من الزمن قررت ان تتزوج من بطل بويده الذي كانت تعده (الرجل المعلب). ويبدو ان زواجهم فيه سر غامض ومبهم - ربما العمر، المستوى العلمي والثقافي او أطباعهم اذ كانت حالمة وتحب الطبيعة وتميل الى العزله. والشيء الملفت هنا ان بطل (بويده وآسيا) يلتقيان بالصدفة ويتبادلان الحديث عن الطبيعة والسباحة وعن مرض القلب الذي اصابه التي هي لا تعرف عنه شي، وحينما اخبرها بمرضه هي كانت في صدمة وطلب منها عدم اخبار اي شخص بهذا الموضوع. اسيا في هذه القصة لعبت دورا كبيرا في تغير حياة سيرغي، هي بمثابة اعادت له الأمل في الحياة، وكأنوا سعيدين في اثناء حياتهم الزوجية، ولكن بعد وفاة بطل بويده، هي قامت بردة فعل عجيبة ضد تشيخوف (اكره تشيخوفكم)، يبدو ان هذه ردة الفعل تعبر عن احتجاج ورفض فكرة (الغلاف) التي طرحها تشيخوف في قصة (الرجل المعلب)، لان هذا الغلاف اصبح قالب ادبي يتعامل فيه في الاعمال الأدبية والحياة اليومية لذلك (آي.ب. ماخينه) تحدثت حول هذا الموضوع وتقول (ان مآساة مدرس مادة الكيمياء أصبحت قالب ادبي يتعامل مع الانسان، فحينما اسيا أعلنت عن كراهيتها تجاه تشيخوف - هي احتجاج ضد سلطة هذا القالب الأدبي)، هنا يقصد بالقالب هو العادة التى جرت في الادب الروسي وأصبح الناس يتعاملون معها كجزء من حياتهم، لان كثير من الاعمال أصبحت أمثال تضرب في الحياة اليومية وعلى سبيل المثال بطل تشيخوف (الرجل المعلب)، لذلك (يوري بويده) احتج على نص تشيخوف ورفض فكرة او غلاف تشيخوف المتمثله بقصته (الرجل المعلب). إذن (غلاف) بيليكوف يعد تجسيد للخوف المستمر من الناس المحيطة به، اما قصة بطل بويده هي احتجاج ضد هذا الغلاف ان صح تعبير كما يطلقون الروس عليه.

 

*يوري بويده فاسيليفيتش ولد في كالينينغراد عام ١٩٥٤، كاتب وأديب معروف له اعمال عديدة ترجمت اعماله الى عدة للغات، ويعمل حالياً في موسكو رئيس تحرير مجلة (دينگي

 

في المثقف اليوم