قراءات نقدية
طالب عبد الأمير: دلالات المنفى في شظايا أنثوية
في مجموعته القصصية الجديدة "شظايا أنثوية" يواصل رحمن خضير عباس غزل حكاياته بخيط رمزي شفاف، بدأه في مجموعته القصصية الأولى "أوراق من يوميات حوذي"، حيث نتلمس في مفاصله دلالات الإحساس بالنفي والغربة تتقاطع مع الواقع المادي المعاش. هذه الثنائية التي تفصح عن حالة يعيشها من ترك بلاده مجبراً للعيش في المنافي، فيحاول من خلال سياقات صيرورتها دوزنة الروح التي أتعبها التجوال في فضاءات غريبة. وهذا ما نجده في هذه المجموعة القصصية، إنطلاقاً من مبتدئها، وهي قصة "ساعة جدارية" التي تشي بالكشف عن هذه الثنائية في تداخل الافكار والانشغالات المفصلية بين عالمين، أحدهما رمزي يعيش في إحساس وذاكرة المنفي، والآخر واقعي معاش ترتد فيه أصداء الحياة، التي عاشها في وطنه قبل الرحيل عنه الى ضفاف نائية، وقد شكلت، رغم صخبها وتداعياتها التي أجبرته على ترك الوطن، شعوراً بالحنين، الذي تتجلى أبعاده حتى في ابسط الأشياء التي يحس فيها بما يرمز للوطن، لكنها تعكس في مرايا نفسه دلالات شتى. فالساعة الخشبية الملصقة بخارطة الوطن ، التي أقتناها من "محلات الرافدين للبقالة"، في مدينة وينزر، على التخوم الجنوبية لكندا، منفاه، تحمل أكثر من دلاله بالنسبة له: فهي ترمز للزمن القديم الذي توقف عند جغرافية الوطن الذي أبتعد عنه كثيراً، لكن عقاربها مازالت تعزف ايقاع الذكريات التي توزعت على خارطة خشبية صامتة معلقة على جدار داخل بيته. هذا الوطن الذي هرب منه يوماً نراه يحتضنه الآن من جديد، مجسداً في خارطته التي تحمل نبض الحياة الذاوية في ساعة، بات متسمراً عند دقاتها، متعلقاً بأشرعة الزمن المر على تخومها، كما يقول بطل القصة: " أدور مع عقاربها، وهي تقطع المسافات الشاسعة، وكأنها سفينة في معترك المد والجزر البحري، وأنا متشبث كالغريق في حبالها، مُصر على عبور المسافات، والسنوات التي تحملني إلى أيام الطفولة، وأيام الشباب الذي ذوى بعيداً عن.." في هذه القصة التي قد تبدو معايشة فردية، لكنها تحمل في سياقاتها ظاهرة يتقاسمها المنفيون، الذين لم يستطع المنفى تجفيف عروق ارتباطهم بالوطن، "فقد حملوا معهم عراقهم في رقصاتهم وافراحهم وحتى في مشاكساتهم".
رمزية الساعة الجدارية تتكرر في قصة "آلة الجوزة البغدادية" التي اقتناها في بغداد، ليحملها معه الى مغتربه في كندا. مع اختلاف رمزية الفكرة في كلا القصتين. ففي حين حمل المغترب ساعته في منفاه بحرية ودون قيود، لم يتمكن من حمل جوزته معه من وطنه، اذ صادرتها منه شرطة الحدود. وفي هذا دلالة على الشعور المزدوج بالنفي، ولكن ايضا التشبث بالاحتفاظ بما يرمز للوطن رغم بساطة الفكرة، حيث الاصرار على صنع الآلة الموسيقية التي تحمل نكهة تراث بغداد بيده: "لا ، لن اجعلهم يسرقون مدينتي. سأصنع الجوزة".
صورة المنفى لا تتأطر فقط في ألبوم الحنين الى الوطن والذكريات النابضة بإيقاع الزمن، بل تجد ملامحها في سياقات عديدة، تشكل حالة من الشعور بالتغرب، ولكن بالمجازفة والتحدي، أيضاً. وهنا نحن امام حالة، ليست استثناء، فهي متكررة في حكايات الغربة والنفي، ولكن تناولها من زاوية مختلفة يعطيها بعداً درامياً آخر، كما هي قصة " أغنية تحت المطر" وعنوانها يذكرنا برواية " الحب تحت المطر" لنجيب محفوظ، رغم اختلاف التيمة. فالعنوان يوحي للقارئ انه مقبل على السفر مع قصة رحمن خضير عباس في رحلة رومانسية ، لكنه يتفاجئ بمعاناة لاجئ هرب من الحرب العراقية الايرانية، فوجد نفسه في مهب رياح عليه مقاومتها وتحدي عتيها. في حبكة فنية أوهمنا القاص في البدء انها سرد لأحداث واقعية، لكننا نكتشف في النهاية ان القصة مجرد حلم متداخل بكوابيس اشباح مترائية في اليقضة، يعكس عن حالة من حالات تجلي الشعور بالنفي.
وكما للشخصيات التي يتعامل معها القاص في سرده خصائصها وطبائعها وخلفاياتها، فللأمكنة والمدن، بشوارعها ومعالمها وبماحفلت بها من مزايا وما مرت به من احداث تأريخية، مكانتها في نسيج عوالم قصص رحمن خضير عباس. فنجد بغداد ووجده ومراكش، وفاس وشقلاوه، ووينزر، وأتاوه والحسيمة وغيرها من محطات العمر مبحرة فيها. وحين تُذكر المدن يتجلى حضور المرأة في حضرة الشعر والاحساس بنداوة الزمن. فوجدة "مدينة الالف مسجد، مسكونة بالغرابة والاضداد" روت حكايتها آسية، الفتاة التي اقحمت نفسها في عالم وحدته وتغربه. والحلم المركّب الذي راوده في مراكش، في قصة "حب تحت المطر" كانت في تفاصيله امرأة مجهولة، تلك التي نقرأ عنها في قصة "شظايا أنثوية" انها "تبدأ من البرج – وربما تنتهي إليه – وكأنها تائهة تحت رحمة الصدفة الحائرة. هل كانت متعطشة لصهيل مدينة أدمنت على الضجيج، وهي التي تعشق الصمت وتلوذ به؟. كانت مغرمة بأشعار محمود درويش ورؤى نجيب محفوظ وحزن كنفاني". وهي الزوجة التي تأتي حاملة باقة من ورود التوليب، في قصة "الضفدعة الحجرية". صورة المرأة في قصص المجموعة، بالإضافة الى كونها تمثل عنصراً فنياً في البناء القصصي، فهي تملك وظيفة مهمة في السرد، قد تبدو في بعض الحالات مجتزأة، لكن حضورها يتكامل في السياقات التي تدخل في تفاصيلها، اذ نتلمس شظاياها في خلجات المنفي الغريب وهي "تحلق في ضوء القمر مستشهدة بقول لجلال الدين الرومي: أيها المسافر لاتضع قلبك في أي منزل مهموماً عند الرحيل عنه". بقي أن أقول أن رحمن خضير عباس عرفته قاصّاً منذ بداية السبعينات، وهو يملك ذات الاسلوب السلس التلقائي في السرد، لكن الملئ بالدلالات أيضاً. وأن قرائتي المتواضعة لهذه المجموعتة "شظايا انثوية" الصادرة حديثاً عن دار تموز للطباعة والنشر، والتي تضم قصص ثمان، وتدور احداثها بين العراق والمغرب وكندا، ليست سوى انطباعات عابرة، لا تدخل في مجال النقد الأدبي.