قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. ذات (8)

madona askarإلى ليلى.(1): في النّصّ الأخير في الفصل المتعلّق بتأمّلات الذّات الأنسيّة، يحاكي أنسي الحاج "ليلى"، الزّوجة والأمّ الثّانية والرّفيقة. ونتلمّس من اللّغة الأنسيّة وجعاً حفر عميقاً في نفس أنسي، أعظم من مجرّد ألم عابر لفقدان زوجة.

"هناك موت يحرّر أصحابه، وما أحسبك من هؤلاء. لا يؤوب الملاك الحارس إلّا مهموماً على رعيّته."

الملائكة لا يحرّرها الموت وهي الموكلة بالرّعاية والاهتمام. والملاك الحارس هنا ليلى، ملاك أرضيّ سماويّ لا يقارن بالمفهوم الملائكيّ التّقليديّ. وإنّما لعلّ في قناعة أنسي ملائكة الأرض فاعلون أكثر من أؤلئك الّذين اعتدنا ألّا نراهم.  والملائكة الأرضيّون السّماويّون يحرمهم الموت من المضي في الرّعاية والاهتمام، وكأنّي به يقيّد قلوبهم المفعمة بالحبّ والحنان، أم أنّه لقلّة حيلته يأتي مرغماً ليخطف أنفاساً أخيرة تعبت من الألم والمعاناة. "كأنّ موتك بخفره يعتذر لأنّك لم تريدي، رغم الأوجاع والخوف، إزعاج أحد. وتلك كانت حياتك بأسرها. وظللت تجسّدين التّضحية حتّى هالتني عظمتها فيك وكرهتها لفرط ما أرتني حقارة أنانيّتي.". 

لا نقرأ في نصّ أنسي "إلى ليلى" رثاءً أو مدحاً لغائب بقدر ما نتعرّف على ليلى واحتوائها لأنسي الإنسان، ورؤية ذاته على ضوء الحياة الّتي جمعتهما. وإذ يصف أنسي ليلى بأمّه الثّانية، فهو يعبّر عن غرق وجدانيّ فيها، احتوى كلّ أنفاسه وهوجسه، واعتنى بأدقّ تفاصيل حياته. "يا أمّي الثّانية، كان وجهي التّائه بين يديك وأنت تحتضرين، لمّا وضعت أناملك بمنتهى الرّأفة على رأسي ولفظت كلمتيك الوحيدتين بصوت من يحتضن ويؤاسي: "ليش مقهور؟"... حتّى اللّحظات الأخيرة تعبّر ليلى عن قوّة اللّمسات الحانية وتحتوي حزن أنسي وقلقه، وتمسح عنه آلاماً تجذّرت في عمقه، وآلاماً قد تحملها الأيّام الآتية.

"وداعاً أيّتها الرّفيقة، ليس أجمل من هذه المناداة. رفيقة لرفيق جعلته بكرمك يحسب نفسه، بينكما، هو الأقوى، والحقيقة أنّه الضّعيف الأضعف، ولا يكشف الحقيقة مثل انسحاب الحقّ حين يأخذ عطاءه." وكأنّ بالرّفقة أقوى من الحبّ، فهي السّند والدّعم والأنس، تخنق الوحدة وتزهر في النّفس بذور الاطمئنان والأمان. ليلى الرّفيقة ظلّ وجهها منطبعاً على وجه أنسي "لأنّ النّجمة الّتي في السّماء هي النّجمة الّتي في القلب.

لأنّ النجمة الّتي في السّماء هي القمر الّذي في القلب." (2).

تلك الرّفيقة يوليها أنسي رتبة الحبّ حتّى المنتهى، فيرحل الحبيب مطمئنّاً لما أفاضه من حبّ على أحبّائه، أو يموت حبّاً من أجلهم. "لن تغادر عينيّ صورتك لحظة الفراق: كان وجهك مطمئنّاً كما تكون روح الخالق الّذي يموت فداءً عن خلائقه.".

يطوي فصل "ذات" آخر صفحاته مع نصّ (إلى ليلى) الّذي أراده أنسي ذروة خواتم "الرّجل الهارب من قدره الغائص في عذابه، الّذي قرّر ألّا يعود" (3)، والّذي تحرّر من ذاته ليصوغ ذاته في ما يشبه الاعترافات والمحاكاة للذّات وللآخر. وبين جدليّة الوجود والعدم، والخير والحقّ والجمال والحرّيّة، تبدّلت المفاهيم، واقترب أنسي من القارئ أكثر فأكثر، ليمنحه فرصة الوقوف أمام ذاته بصدق، ووعي، وتمرّد إلى أن يبلغ عدمه المحرّر.

 

........................

(1) ذات- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 82

(2) قصيدة "لي حبيبة"- أنسي الحاج

(3) مفتاح القدر- ذات- كان هذا سهواً- ص 57.

 

في المثقف اليوم