قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. سلوك (3)

madona askarهل ستعرف الشّعوب العربيّة يوماً معنى الحرّيّة، أو تدرك مفهومها قبلاً كي تتمكّن من التّحرّر من ذاتها وبالتّالي زعمائها وقادتها،  وتسير قدماً نحو التّطوّر الفكريّ الّذي يؤهّلها للارتقاء إلى مستوى الإنسانيّة؟ هل ستتمرّد بعيداً عن ردّات الفعل والتّأثّر والعاطفة المنقادة إلى حاكم أو زعيم، أو شعارات فارغة ما تلبث أن تخمد قوّتها ويتلاشى بأسها مع أوّل خطوة نحو تحالف جديد أو تسوية جديدة؟

ما نراه في المجتمعات العربيّة من ثورات وانتفاضات بحسب أنسي الحاج لا يترادف والتّمرّد حتّى وإن التبس معنى الثّورة والتّمرّد عند كثيرين. "التّمرّد صفة الوديع إذ يضيق صدره بالظّلم. ليس التّمرّد غضب الأحمق ولا بغضاء المبغض ولا غيرة الحسود ولا انتقام العاجز. كثيرون يخلطون بينه وبين الثّورة. الثّورة حركة جماعيّة للاستيلاء على السّلطة. المتمرّد يثور على السّلطة لرفضها من أجل الحرّيّة أو من أجل لا شيء، لا للاستيلاء على الحكم." (*)

المتمرّد هو ذاك الّذي يبصر الواقع بدقّة ووعي. ويقوده هذا الوعي إلى رفض ما يدور من حوله دون أن ينساق للغضب  الّذي قد يعمي بصيرته ويسيطر على عقله، فلا يعود قادراً على ضبط نفسه فيلجأ إلى السّلوك بردّات فعل عشوائيّة عنيفة، ما يسمّيه كثيرون "ثورة". بيد أنّ هذه الثّورة ليست سوى تفجير لكبتٍ مزمن، وانفلات السّلوك من انتظامه الأخلاقيّ.  يكون التّمرّد على مستوى الفرد ليتحرّر من ذاته باستمرار وينتفض من داخله حتّى يتمكّن من المعارضة  والسّلوك عكس التّيّار باتّجاه الوعي والإدراك، فلا تجرفه الانتهازيّة  فيغرق بمزيد من العبوديّة/ عبوديّة نفسه. ولا يبارح مكانه ولا يبلغ الحرّيّة حتّى وإن حلّ مكان نظام ثار عليه. "ولأنّ الثّورات تنطوي هي أيضاً على قدر من الانتهازيّة والإجرام لا يقلّ عن مساوئ النّظام القائم وقد يبزّها، فإنّ التّمرّد يثور كذلك على الثّورات."

بين الثّورة والتّمرّد فرق شاسع في الفكر الأنسي، فالأولى صراخ وصخب وضجيج، وأمّا التّمرّد فهدوء واتّزان وأناة واستقرار. التّمرّد رؤية الواقع بذهن صافٍ ومتّزن، مدرك للتّفاصيل الّتي ينبغي تغييرها في سبيل بلوغ الحرّيّة.  ولعلّ المفاهيم اختلطت وبات لكلّ عصيان جماعيّ لقب "ثورة"، ولكلّ حركة اجتماعيّة اعتراضيّة تسمية "ثورة". "الثّورة مجتمع كما هي السّلطة القائمة مجتمع. التّمرّد عزلة. الثّورة صراخ والتّمرّد هدوء. وإن كانت الثّورات تدّعي أنّها حقّقت تقدّم البشريّة سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً فإنّها تَنسب إلى الدّمّ الّذي سفكته أو المؤامرات الّتي حاكتها ما كان سيحصل بدونها وبحكم الزّمن. وربّما أفضل ممّا حصل بمشاركتها. ويبقى فكر متمرّد واحد في التّاريخ، من الأنبياء والشّعراء والعلماء إلى المفكّرين والفناّنين والبسطاء، أكثر إلهاماً وصداقة من خدمات الثّورات كلّها." المبشّرون بالجمال والحبّ والحرّيّة، هم المتمرّدون  والثّائرون الحقيقيّون لأنّهم يزلزلون الكيان الإنسانيّ ويحفرون عميقاً في دواخله، ويعلّمون الإنسان بسلوكهم كيف يصنع نفسه، ولا يصنعون بطولاتهم على حسابه.

 

................

(*) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 100

 

 

في المثقف اليوم