قراءات نقدية

قراءة في رواية (بابا سارتر) لعلي بدر .. المفارقة الفنية في مدينة العبث الشخوصي المتثاقف

haidar abdullradaينطلق (بورس) في تحديد الدليل من المقولات الفانيروسكية: الأولانية والثانيانية لتحديد أشكال وجود الأدلة السردية وأقسامها الداخلية والخارجية .. وذلك انطلاقا من أدراك أولي يشي بفلسفة انتاجية تستنطق المحايث ــ الفكر الذي لا يفكر إلا بشيء ما ولا يفعل إلا بالأدلة الكشوفية ــ وتكشف الطبقات الخفية لأنتاج الأدلة وجهات أنتاجها المقولاتي السردي وقد دفع البعض الى القول إن بورس كان يبحث عن الشروط المسبقة لوجود تلك الأدلة . بناء على هذا الإدراك المتمثل وبشكل تحديدي حول مسألة المادة الأنطلوجية في حفريات الدليل والأدلة لنعاين من خلالها عناصر ووحدات قراءتنا لرواية (بابا سارتر) للروائي علي بدر حيث وجود تلك الواقعية المخيالية الواهمة والمخصوصة بإحداث وشخوص حقبة جيلية ستينية حصرا. وبين تمثلات إفق الموضوعة الروائية الخاضعة في محفزات أدلتها التهكمية / التراجيدية لمبدأ الصيرورة المروية ــ أي بمعنى ما ــ إن السارد فيها هو من قد تولى تطورات محاور (الممثل / الموضوع / المؤول) . وهذه المحاور الثلاثية الأخيرة في صناعة المحكي في رواية علي بدر هي من بات يتقبل أن ينظر إليها من خلال مراتبها الثلاثة من جهتين: جهة التحليل وجهة التأليف . فمن جهة التحليل فهو الممثل / المؤول / الموضوع . وأما من جهة التأليف فهو الموضوع / المؤول / الممثل . وتكمن هذه العلاقة الثلاثية في التعريف الأكثر محورية في الأظهار المادي والمعنوي للنص السردي في رواية (بابا سارتر) .

مقتربات موقع التمهيد الدال

ونحن نقرأ بنية مقتربات الموقع التمهيدي في رواية (بابا سارتر) ألفينا محاولات السارد الشخصية وهو يسعى إلى امتلاك ناصية المستخلص المحفوظي من خلفية المشاهد والمقاطع والوقفات السردية الأولى من زمن الحكي .. بحيث تتجلى لنا ثمة احتوائية اطارية استهلالية خاصة تحكي لنا عوامل وعناصر البيئة الروائية المتكونة في محيط الشخصية الأولانية والثانيانية المتكونة في تفاصيل بحثها عن الوثائق التي تخص الشخصية المحورية في متن المسرود النصي . وتبعا لهذا صرنا نشاهد كيفية إجرائية المخطط السردي الذي قام به كاتب السيرة مستندا الى تقنية (الممثل / المؤول) وصولا إلى تقنية الربط الوثائقي بأبعاد تلك الأمكنة التي تسكنها صحبة عبد الرحمن الفيلسوف العراقي الذي راح يمتهن جل محفوظاته الوجودية المتثاقفة شفاهيا عن ظهر قلب فيما كان يلتقي في المقاهي والملاهي الليلية متمنطقا بأسلوبه التثاقفي مع الشخصية التابعة له إسماعيل حدوب وشخصيات أخرى في الرواية . وباختصار شديد نقول نقلا عن قول علي بدر في أحدى خاتمات روايته: (رواية تسخر من الجيل الستيني في العراق)

مشاهد من حياة كاتب السيرة

في الواقع ينطلق كاتب حياة سيرة الفيلسوف عبد الرحمن والملقب بفيلسوف الصدرية من واقع مأساوي شاق وإلى أقصى مراحل سياقية الفقر والبطالة والإفلاس المعنوي والمادي والقول هنا للرواية: (الشيطان المدمر حنا يوسف .. حفار القبور ذو السحنة المرعبة وصديقته الخليعة التي كان يطلق عليها اسما توراتيا نونوبهار هما من اغوياني بكتابة سيرة حياة الفيلسوف العراقي الذي كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينات / رحلة البحث / الرواية) . والحق إن السارد أو كاتب السيرة لا يتوقف عند هذه الحدود التعارفية إلى تلك الشخصيات بل تراه يسعى جاهدا للوصول إلى حفنة تلك الوثائق التي تتشكل بموجبها مفازات كتابته لتلك السيرة المخيالية الواهمة . وما بين حالة الوصف لسلوكيات ونفوذ ومصادر وسرية التمويل لمشروع الكتابة لسيرة فيلسوف الصدرية نعاين تحركات كاتب السيرة نفسه في مواطن شتى من الأسئلة والقلق والترقب في الأمكنة المشبوهة والشخوص الذين كانوا على صلة وطيدة بشخص عبد الرحمن . والقول هنا للرواية: (أين منزل الأب حنا يوسف؟ .. من قال لك أنه أب ؟ وأنفجر الآثوري ضاحكا بشاربيه الأبيضين المستقرين على فمه مثل حليب .. كانت عيناه الزرقاوان الغائرتان ووجهه الناتئ العظام تتهكم . لم يجبني .. أنما أجابتني زوجته التي كانت تجلس إلى جانبه وهي تشير إلى دوحة خضراء منتصبة في الساحة: ــ قالت وهي تشير بأصبعها النحيف هناك أمامك؟ ولم يبق من ذكرى وجهها سوى جدائلها المصففة بشكل هالة منتصبة . / الرواية) بناء على هذه السيرورة الموقعية التي يقوم بها كاتب السيرة لغرض الوصول إلى منزل حنا يوسف ونونوبهار إذ نعاين حيثيات وصف الأمكنة بطريقة دقيقة لا تفارقها التحفظات الذهنية والنفسية لكاتب السيرة . وعندما يتم ربط تصورات الأدلة الذهنية والتخطيطية لدى كاتب السيرة حول المكان واتصاله مع تلك الشخصيات يتمركز لدينا بالدليل المركب بأن لقاء السارد كاتب السيرة مع نونوبهار وحنا يوسف لم يثمر سوى تلك الاطلاقية الاستخفافية بشخص ذلك الفيلسوف: (كان لقاؤلنا حميميا ووديا . فحنا الذي استقبلني كان يبتسم على الدوام فيتسع شاربه الصغير الذي يستقر على فمه مثل خط أحمر من النبيذ أخذني نحو الصالة المقابلة للخوان حيث الستائر مشغولة بنقوش صغيرة لأزهار بلون وردي .. كنت أسمع وشيش الدوش في الحمام الذي يختلط مع صوت عجلة سيارة في الخارج تكشط الإسفلت. / الرواية) وبهذا الزمن اللقائي المشهدي يتم عقد صفقة أو مناقشة صفقة كتابة السيرة لذلك الفيلسوف . بيد أننا نلاحظ فحوى جمالية الشكل المهيدي القائم حول مشهد ذلك الحوار بين الأطراف الثلاثة محفوفا بمحاولات الإفادة من التنكر وكسر أفق توقعات ذلك الكاتب للسيرة: (فسألته إن كان هنالك شخص آخر في المنزل فقال: نونو في الحمام .. وبعد ذلك أخذت أسأله عن الفيلسوف وعن كتبه التي صدرت في حياته فقال لي وهو يهز برأسه الأحمر الصغير وعيناه الزرقاوان تلمعان: لا .. لا هذا الأرعن لم يكتب كتابا واحدا في حياته؟: ــ أرعن .. أقلت .. كل فيلسوف أرعن ؟ قالتها نونوبهار وهي تسير أمامنا عارية بعد خروجها من الحمام: ــ لم أفهم قلت وأنا انظر إلى نونوبهار التي اعتدلت واقفة أمام الأريكة . / الرواية) وبعد هذا الشكل من البناء المشهدي الذي يعد بمثابة الحجر الأساس المدخلي إلى حبكة وبؤرة المحور الأكثر أهمية في مشاهد الرواية . . فهو يتحدد بمنهج يقر بما هو عكس تصورات وتأملات كاتب سيرة ذلك الفيلسوف . والملحظ العام على هذه الجمل الحوارية من السرد أنها باتت تتحرك بين فاعلين فاعل تحريك ودفع وهو ما يتمثل به الأمر في شخصية حنا يوسف ونونوبهار وبين فاعل الصد والتوقيف والإدهاش وهو كاتب السيرة نفسه الذي راح بدوره يطيل من زمن الحوار والمواصلة بين هذان الدجالان على حد قول الروائي في أحدى فقراته: (نعم ! كان فيلسوف أرعن .. لكن هنالك أرعن يكتب كتبا تسهل الأمر على الذين يكتبون سيرته .. وهنالك أرعن لا يكتب كتبا .. فيقتضي أن ندفع مالا لشخص ينقب ويكذب ويؤلف ليصنع فيلسوفا حقيقيا . / الرواية) . ومن خلال هذا التداخل التصنيفي لشخصية فيلسوف الأكذوبة التي سوف تصنع سيرته الأموال من قبل الشخصية نونوبهار وحنا يوسف مما جعل بالنتيجة شخصية الحكواتي أو كاتب السيرة جافلا لا يقوى حتى على فعل مواجهة الصدمة . ويتضح من سرد الأحداث ثمة وقائع وأفعال ما تجعل من كاتب السيرة يطيل سؤاله حول تلك الوثائق التي تتعلق بحياة ذلك الفيلسوف: (كان وجه نونوبهار يتصبب ماء ويلتمع شعرها الأسود الفاحم تحت نور المصباح الموضوع في الزاوية وحين اقتربت مني قالت: ــ تعرف .. الفيلسوف صناعة .. نعم صدقني ! صناعة ؟ فأحسست بلحمها الحار وراء القميص المفتوح الذي راح يكشف عن صدرها الباذخ .. من يصنعه ؟ قلت .. نحن ؟ قال الدجالان كلاهما .. أنت ستكتب سيرة هذا الرجل ونحن نقوم بتغطية نفقات جمع المعلومات والوثائق ومن ثم سندفع لك ؟ قال حنا ثم أكملت نونوبهار: سنعطيك اليوم وثائق أولية وبعض الدلائل الجغرافية ستكون نقاط انطلاقك . / الرواية) . وتتضح من هنا أساليب التشخيص والتنقيب لدى كاتب السيرة حيث لا يفارقه الشعور بفرحة حصوله على المال لقاء كتابته لتلك السيرة وما يرتبط فيها من صور سردية مبهرة حيث الأحداث أخذت من خلالها تتصاعد في فضاءات الأمكنة ومع أفعال بحثه وتنقيبه في مصورات الوثائق .. (أخرج حنا منديلا من بنطلونه المربع المنقوش وأخذ يمسح مكتبه ثم جلس على مقعد من القش وأخذ ينظر نحوي بحذر .. وناولني ملفا مخططا سميكا: هذا ملف نادية خدوري الذين كانوا شركاء بيت لاوي تجار السيارات .. ثم أخرج مجموعة أخرى من أرواق مربعة وقال: هذه الأوراق مهمة تخص شاؤول ؟ فقالت نونو: هذه المعلومات والوثائق لا تكفي أنما ستدلك فقط من أين تبتدئ والأمكنة التي ستجد فيها المعلومات والوثائق الأخرى المهمة . / الرواية) . غير أن كاتب السيرة في الواقع لم يقتنع بما قد أخذه من حنا ونونو من وثائق: (لم تكن الوثائق وثائق بالمعنى للكلمة .. أنما معلومات مكتوبة بأسلوب مبتذل وزائف . / الرواية) . وتبعا لمعاينات هذه المشاهد الروائية تتوالد خيوط الأحداث التنقيبية من قبل كاتب السيرة في الخطاب الروائي . وهي على ما تبدو أكثر تعقيدا مما قد يتصوره كاتب السيرة نفسه .. ذلك أنها إشكالية تتصل من جهة ما بعلاقة الالتباس القائمة بين زيف تلك الوثائق وبين حاجة كاتب السيرة للمال والوصول إلى حقيقة الوثائق التي تقر بموقعية ذلك الفيلسوف: (هكذا كنت أقلب أوراقا تجعل العربنجي عملاقا هائلا صامتا وغامضا .. وهي قدرة بعض الشخصيات على التشويه والتقليد والتناقض .. لكن المهم هو الأسماء أسماء الخدم والسادة والأدباء والتجار والأبناء والشخصيات التي كان علي أنا البحث عنها في مكان آخر . / الرواية) . هكذا ظلت وظيفة السارد / كاتب السيرة تتوقف على حالة المشخصات لواقع البحث والدراسة لتلك الأسماء والأدباء والخدم الذين كانوا يشكلون بذاتهم نقطة الوصول بالسرد الروائي إلى محصلة الدال المركز وهو عبد الرحمن الفيلسوف .

الأحداث التي تتعاقب والزمن داخل النص

أن حركية دال شخصية السارد العليم في رواية (بابا سارتر) تتحرك ضمن المشاهد المرسومة سواء كانت هذه المشاهد دالة على الشخصيات المحورية أو الشخصيات الغير محورية إلا أن الغاية السردية في الرواية تبقى العين الراصدة لكل المشاهد والألوان الشخوصية التي تساعد كاتب السيرة في الرواية على الوصول إلى جوهر تلك الوثائق وصولا منه إلى حقيقة أيقونة تلك العلاقات الشخوصية ومدى فاعليتها في دعم رصيدها الدلالي المتصل بشخصية ذلك الفيلسوف الوجودي . وهكذا يكون السارد قد قام بالبحث والسؤال بصورة موضوعية شبه أستفهامية بمن يلتقيهم من الشخصيات ذات الصلة بحياة عبد الرحمن . فالروائي المثقف علي بدر راح يرسم لسارده الشخصية في النص صورا ذات أحساس دقيق وممتزج بالفطنة والحنكة البحثوية . فهو ليس روائيا عاديا مثل غيره . فروايات علي بدر تشكل في ذاتها مساحة تثاقفية وحماسية كبيرة في التقاط المخفي والمخبوء والمسكوت عنه كما وفي رصد عين مجاهيل الحالات المنسية من الأشياء ضمن كاميرا المفتش الروائي الحاذق . وتبعا لهذا فإننا نعاين تحركات شخصية كاتب السيرة وسؤاله لحنا وهنا القول للرواية: (فسألت حنا إن كان للفيلسوف أصدقاء .. فأجابت نونوبهار بصوتها الكسول: سنعرفك إلى التاجر صادق زادا فهو وحده الذي يعرف عن حياته الخاصة الكثير .. والمحامي بطرس سمحري .. هذا أيضا عليك أن تلتقيه فلديه هو الآخر وثائق رسمية تعينك على الكتابة .. / الرواية) .

تقنية الوقفة أو النظر

أن الوظيفة الروائية في نص (بابا سارتر) ما هو إلا وظيفة تقنية من تقنيات الوقفة أو النظر التي راحت تدفع بالرواية إلى النظر والتأمل والمراجعة والتنقيب في مشاهد وشخوص الرواية لتستدرج تقنية الوصف وهذا ما أطلق عليه النقاد بـ (الوقفة) وهذه التقنية بدورها هي ما جعل شخصية السارد / كتاب السيرة تتصرف بطريقة المراقب الرؤيوي لإثبات الذات الراسمة لحالات التوصيل المشهدية داخل مقاطع وفقرات الفصول الروائية: (متى ستبدأ العمل ؟ قال حنا يوسف بشبابه العارم المكتوم: غدا ؟ .. هنالك رسائل أكتبها لك ربما تعينك وتسهل مهمتك كما لدي نصيحة: ماهي ؟ هل أنت أخلاقي ؟ .. كان يبتسم بينما كانت نونوبهار تلعب بقلادة تستقر بين نهديها .. أن رجل شريف قلت لهما في الحال .. هذا ما عليك أن تحذره .. وضحك الإثنان ضحكات خفيفة مكتومة فقامت نونوبهار من جانبي بشعرها الوحشي وهي ترفع يدها حيث يظهر جانب صغير من صدرها بين الإبط والثدي .. نحن لا ندفع لك المال لأنك رجل شريف .. لا .. لا على الإطلاق .. قالت نونوبهار وانفجرت بضحكة ناعمة وتابعت بصوت كسول: كلنا شرفاء ولكن شرفنا لا يصرف علينا ../ الرواية) .إن الوظيفة الإدراكية والحدسية والفراسية السردية كانت ملازمة لشخص كاتب السيرة لدرجة وصول الأمر إلى محط شكوكه الشخصية بأن هناك أمرا ما يتعدى حدود كتابة السيرة بل أنما يتجاوز الأمر جل الأسباب والمسببات والعلل والبراهين ولكن بالنتيجة كانت غايته الذاتية من وراء الكتابة هو الحصول على المال وخصوصا وهو يرزح تحت عبء الإفلاس والبطالة .

أسفار البحث عن تفاصيل وثيقة الفيلسوف

من خلال هذا المبحث سوف نستعرض أسفار رحلة البحث عن تفاصيل وثيقة حكاية الفيلسوف .. ذلك الفيلسوف والكيفية التي سوف نصل إليها به تتطلب من كاتب السيرة صحبة تلك الشخصية النسبية جواد على متن فاعلية (السارد المنظور) وقد يكون السارد في جنح هذا المسار من الأحداث الروائية مزودا بوعي مؤلفه الضمني وبدرجات راحت تنحسر فيها رؤيته في إدارة منظورات سردية مختلفة ومتمكنة . إذ يظهر لنا السارد فيها عبر كيفية خروجه في رحلة بحثه عن المعلومات والوثائق الخاصة لهذا السياق: (أنا وشخص آخر أسمه جواد .. كان قد كلفه حنا يوسف بمرافقتي وتتبع خطواتي / كانت الشمس ضحى ذلك اليوم خافتة وسط سحاب أبيض متقطع .. ونحن نخطو الخطوات الأولى لجمع المعلومات الشفهية والوثائق والتقاط الصور الفوتوغرافية للحي الذي كان يقطنه الفيلسوف في الستينات .. / الرواية) . لعل هذه الجولة في جمع المعلومات وجمع أخبار مواطن الأمكنة التي كانت يسكنها الفيلسوف هي ما كنت أعنيه بـ (السارد المنظور) إذ إن السارد فيها يشكل تلك الشخصية الحضورية الفاعلة والمتفاعلة في الصوت والصورة والمروي والمكتوب عبر مهمة تنامي علاقات نواة السرد المفصلي العام ــ أي بمعنى ما ــ أن علاقة السارد هنا مع شخصية كاتب السيرة وبجانب محورية الوثائق باتت تشكل ذلك المحفز المنظوري والمرئي والذي يتلخص بالجري خلف متواليات شبكة الوثائق والشخصيات والصور والأستعدادات في ملاحقة نبض الأشياء المتعلقة بمحورية ذلك الفيلسوف الغثياني: (كان علي أولا أن أرسم خريطة جغرافية صغيرة للمكان وهو مخطط محلة صغيرة يؤشر إلى المواقع التي كان الفيلسوف يرتادها .. وكنت أسجل المعلومات التي تصف منزله الرفيع الذي يقع في رأس جادة الطبيب سيمون بهلوان .. ثم بعض المعلومات عن الإصطبل القريب من جامع سراج الدين وهو اصطبل تظلله تعريشة خشبية صلبة / وبعد ذلك عينت محل اليهودي شاؤول في سوق الصدرية .. وكان علي أن أرسم خطوط المواصلات بدقة وهي الخطوط التي تربط المنزل بالمواقع التي كان يرتادها الفيلسوف بعد ذيوع شهرته أي بعد عودته من باريس / ومن المواقع التي صاغت حياته ../ الرواية) . أن القارىء لمخططات رواية السارد المنظور / كاتب السيرة لربما تبهره حرفيات الروائي المتعددة في مروية المكتوب الوثائقي المفبرك .. فالروائي راح يستدرج مخططات الأمكنة والأزمنة وعلاقات الشخوص وصولا إلى ورقة المحور المركزي في المشهد الدرامي . حتى أنه بات يهندس واجهات المباني والطرقات صعودا منه إلى ذروة التمهيد المدخلية إلى شخصية عبد الرحمن وإسماعيل حدوب واليهودي شاؤول والراقصة دلال مصابني وكيفية علاقته الجنسية بهذه الشخصية ومع غيرها من شخصيات الرواية . فكان الروائي يعلل سلوكيات ذلك الفيلسوف بمجموعة أخرى من الشخصيات المكملة كشخصية التابع له إسماعيل حدوب وجاسب الأعور وروجينا الخدامة وحسنية الغسالة وسعدون السايس وعطية البستاني . هكذا أختار كاتب السيرة مجموع هذه الشخصيات مع ذكر الأمكنة والأزمنة والمواقع والرؤية والمثاقفة وبطريقة التوثيق والوصف السيرذاتي الروائي والذي كان بدوره محفوفا بروح الذات السردية غير المنغلقة .

حرفيات صعود صنعة الخلق الروائي

في رواية (بابا سارتر) هنالك العديد من الأساليب السردية والأصوات الروائية المندرجة في لغة السارد العليم / المنظور وبكيفيات تتغاير تبعا لموقع الرؤية المراوية للشخصية الروائية في النص . لهذا فالرواية تبدو لنا قرائيا عبارة عن: شخصيات متعددة / فاعل مؤول / مثاقفات / شكلانية القصد / مروية الوثيقة / خطاطة المؤلف / فضاء لغة المقاطعات التمهيدية / عروج المؤلف نحو دال الشخوص . وعلى الرغم من أن الصوت السردي (الأنا / المؤلف) هو المهيمن على ذوات استقلالية مواطن مسارية الشخوص بنغمة وبشكل وهيئة وملامح وهوية إذ إن القارئ لها لربما يجدها شبه متوحدة ومن خلال المسار الحدثي في الرواية رغم انفصالاتها الوظيفية الظاهرة في الرواية .

كيفية بناء الواقع وهدمه بالوهم

أن عملية التعالق النصي بين الواقع والوهم وبين المؤلف وروايته والسارد والأحداث الشخوصية نجدها قد حلت في حدود زمن (المفارقة الفنية) التي قام علي بدر بإستخلاصها كوسيلة إجرائية خاصة في زمن بناء أحداث الفيلسوف عبد الرحمن وصحبته ناهيك عن اخفاقاته الفلسفية القاهرة والواهمة بجانب حكاية غثيانه الوجودي الماحق . وهذا المنهج للفيلسوف الوهمي راح ينسحب بالأحداث نحو أحلك المواقف له في حياته الشخصية ولاسيما بوجود صحبته إسماعيل حدوب وزوجته الفرنسية وعشيقته النادلة ونادية خدوري وشخصيات أخرى في الرواية حيث تجمعها الغثيانات الواهمة لذلك الفيلسوف وتفرقها حالات الخيانة والفرار من فضائحية الواقع الأليم: (لقد هرب إسماعيل حدوب من شاؤول والتحق بعبد الرحمن / الحقيقة هي الحقيقة .. والوقائع هي الوقائع والأسلوب الذي أختاره إسماعيل لتصميم حياته القادمة هو أسلوب القنص الذي يريد أن يصطاد الحياة بواسطة الفلسفة .. لا أن يصطاد الفلسفة بواسطة الحياة .. فركض خلف عبد الرحمن لأن هذا الأخير وعلى خلاف شاؤول كان يتحدث عن الحياة بشكل عملي .. كان يتحدث عنها وبأناقة وبشيء من الدعابة .. بكثير من النكتة .. كان يتحدث بشيء من المزاح وبخفة الدم .. وكل هذه الأشياء كانت تنقص شاؤول وتنقص ثقافته .. وكانت فلسفة عبد الرحمن أكثر جاذبية من فلسفة شاؤول .. ذلك لأن الوجودية واضحة في هذا الأمر أكثر من ماركسية شاؤول .. مثلا: حينما يقول عبد الرحمن: عدمية هذا يعني أنه سيسكر . وحين يقول: حرية . فهذا يعني أنه سينام مع امرأة . وحين يقول التزام: فهذا يعني موعدا في البار أو في الملهى .. هكذا قال إسماعيل حدوب يوما لأحد أصدقائه في مكتبة كورونيت .. / الرواية) . هكذا وجدنا حياة الفيلسوف وسيرته العابثة مع أصدقائه الصعاليك وغجرياته في الملاهي البغدادية الستينية .. يا لها من مرحلة عظيمة من الفلسفة الوجودية الشفاهية التي يحلو لبعضهم التحدث بها في المراقص الليلية وفوق أجساد لحوم البغايا .. أنها رواية الغثيانات الشبقية للسكارى وحثالات الطبقات المجتمعية المسحوقة في شارع الرشيد آنذاك: (وقد أكد لي غير واحد من محلة الصدرية أن إسماعيل كان يتردد على منزل فيلسوف الوجودية بغياب الزوج .. كان يتردد على زوجة الفيلسوف على السيدة الفرنسية التي يزعم عبد الرحمن أنها أبنة خال سارتر .. وهذا الأمر بالنسبة إلى إسماعيل كان عاريا من الشك فهي أبنة خال سارتر حقيقة لا خيالا .. وطالما هو يستطيع أن يركب أبنة خال أكبر فيلسوف فرنسية فكأنما ركب فرنسا كلها ../ الرواية) . ويتسع الإنفتاح السردي في الرواية محفوفا بتنويعات الفضاءات الشبقية وتناقض الأصوات الموقفية من جهة الشخوص في الرواية . كما أن السخرية المريرة للمؤلف في تدوين مشاهد روايته أصبحت بمثابة الوسيلة العظمى للتعبير عن الرغبات والأحلام والإخفاقات والخيانات الشخوصية مع بعضهم البعض  . إذ لا يحاول المؤلف في نمو علاقات أجواء موضوعة شخوصه أن يفرض أي حالة من حالات الإصلاح والتوظيف الإصلاحي فهو من جهة ما يشيع الإصلاح المعنوي على لسان سارده ولكنه لا يبدي في الوقت ذاته أية حلول موضوعية وواقعية حية ومقنعة في جو روايته الأيروسية . أنا شخصيا لا أدين صناعة رواية علي بدر في شكلها الأدواتي والبنائي بقدر ما أدين منهجها في طرح الأشياء بصورها العارية والفاضحة وبلا أدنى غطاء رمزي أو إيحائي أو إيحالي حتى .

تعليق القراءة

أن ما يشعر القارئ بإكتمالية أدوات ولغة رواية (بابا سارتر) من حيث إنها عملا إبداعيا لا غبار عليه . إما مسألة مشروعها التهكمي الساخر وهو يصف أجواء المراقص وتلك العاهرات المتفلسفات وتلك الشخوص التي ما تنفك تنبعث منهم رائحة الخزي والسقوط والأحلام الهابطة والخيانات . أنما يستشعره القارئ من وراء هذه الرواية وذلك بعد موت فيلسوف الوجودية الغثيانية الماحقة وتقلب كفة الأدوار والأقنعة متمثلة بشخصية المفكر (ميشيل فوكو) وبعد أن افتضح أمر الشخصية صادق زاده بأنه إسماعيل حدوب نفسه العشيق والمضاجع النشط لزوجة فيلسوف الصدرية وصولا إلى إحساسات كاتب السيرة المسكين الذي لم يتقاضى أي ثمن مقابل كتابته لسيرة عبد الرحمن فيما كانوا يطالبوه كل من إسماعيل حدوب ونونوبهار إلى كتابة سيرة فوكو حتى يتسنى لإسماعيل حدوب مجددا تجسيد سيرة رجل البنيوية وذلك بعد سقوط زمن عبد الرحمن والوجودية بثلاث احتمالات لموته . ومن سمات المفارقة الفنية التي أجاد المبدع علي بدر هو إحساس كاتب السيرة المسكين وهو يسير في الشارع هروبا من فضاءات المأزق البنيوي: (كان يسير أمامي رجل يعتمر عمامة بيضاء ويمسك بيده مسبحة سوداء طويلة وتسير وراءه امرأة وقد تحولت إلى قطعة سوداء من الأعلى إلي الأسفل .. الفوطة السوداء كانت تلف يديها .. صرخ شخص آخر عبر الشارع .. يا شيخ جمال .. يا شيخ جمال ؟ .. لا أدري لماذا فكرت لحظتها بجمال الدين الأفغاني .. فكرت بإسماعيل حدوب وقد تأثر بجمال الدين الأفغاني فارتدى عمامة بيضاء ومسك بيده مسبحة وكانت نونو وراءه بالحجاب الأسود الذي غطى وجهها ويديها .. / الرواية / الخاتمة) . هكذا تنتهي حلقات وفصول وشخوص رواية (بابا سارتر) وفي موضوعتها الروائية الأخآذة نلمس مغامرة الحكي السردي المتوحد بلغة الراوي / المؤلف / الشخصية في الرواية والتي يقع مصيرها في زاوية من زوايا أعماقه الشاردة من مدينة الوجودية والبنيوية والأفغانية .. تلك المدينة الغارقة بجنون مثاقفاتها وفلسفتها وغثياناتها وخياناتها وبغاياها ومراقصها ومزاجها المأزوم بين اليقظة والمفاجئة وتلك  الرواية الغاطسة في أعماق شرايين المفارقة الفنية الصادمة لتشخيصها رسومية الواقع الساخر وتكثيف بشاعته الأدهاشية المحفوفة بدلالات الرواية المتفوقة أبداعيا .

في المثقف اليوم