قراءات نقدية

قراءة في (مراثي غيلان) لسعد الصالحي

goma abdulahيبقى الشوق والحنين الى ذكريات زمن الطفولة وما بعدها، من رصد احداثها، وتدوينها في ابداع ادبي، يعرف بأدب السيرة الذاتية، وهو يستمد مكوناته، من تدوين وذكر هذه السيرة الحياتية، التي لها علاقة وثيقة مع حياة الكاتب والاديب، ويريد ان يظهر تفاعلات مراحله الاولى في الحياة وما بعدها من مراحل شريط العمر، في معايشة الواقع الاجتماعي والمحيط المرتبط به، هذا الرصد يشكل احد اشكال واجناس هذا الادب. انه ادب مشوق يفيض بالمتعة والتشويق المتلهف، ويكتنز عمق التصوير والوصف، في اقتناص الاحداث وتسجيلها، بالصيغة الملائمة، التي تستهوي الكاتب. وان هذا الصنف الادبي يملك خصوصية ورغبة الاشتهى، في اقتناص بما في جعبة خزين الذاكرة، من اشرطة تسجيلية، ظلت حية ونابضة في عمق الذاكرة، ان هذا الادب مفتوح على كل الصيغ الادبية التدوينية، او مايسمى قصص من حياتي، او مذكرات ادبية من مفكرة العمر، او اعترافات او مذكرات حياتية في اسلوب نثري، او حكايات من حياتي بالسرد الحكائي الفني ........ ألخ . ولكن يكون التعاطي في الاسلوب الادبي المدون، يختلف من كاتب الى كاتب اخر . فمثلاً الاسلوب الادبي النثري في كتاب (اعترافات جان جاك روسو)، يختلف عن الاسلوب الروائي الرائع للرواية (الخبز الحافي) للكاتب الروائي محمد شكري . وكذلك الاسلوب الادبي لكتاب (الايام) تصوير رائع لحياة الاديب الكبير (طه حسين) يختلف عن اسلوب كتاب (ذكرياتي 3 اجزاء) للشاعر الكبير الجواهري، وهو يرصد الحالة الاجتماعية والسياسية العراقية، وكذلك يرسم حركة نشؤ الحركة الثقافية والادبية العراقية وصراعاتها آنذاك . ولكن رغم الاساليب الادبية، في ادب المذكرات الحياتية، فأنها لاتشذ عن الزمن والمكان الاصل، والارتباط مع المحيط والواقع الاجتماعي، الذي نشأ فيه الكاتب او الاديب،وترعرع في احضانه . قد تكون الصيغ التعبيرية وادواتها، في اسلوب نثري، او اسلوب روائي يلتزم في بنية المتن الروائي والحبكة الفنية، او اختيار صيغة عينات محددة ويسطرها في اسلوب السرد الحكائي المبسطة، او في اسلوب المتن الر وائي  . لكن تبقى تجربة غنية وواسعة، في الاحداث والصور الادبية والفنية، وقد استلهمت الكثير من الكتاب الكبار العرب ذات الاسماء اللامعة والمشهورة، ومنهم توفيق الحكيم في (عودة الروح) و وجبرا ابراهيم جبرا في (شارع الاميرات) و محمد ديب في (الدارة الكبيرة) وغيرهم الكثير، اما الكتاب العالميين المعروفين، قلما نجد منهم، لم يخوض هذا الغمارهذه التجربة الادبية . انها محاولة مشوقة في اكتشاف الذات من خلال هذا التدوين الاعترافي والتسجيلي بالكشف  . . و(مراثي غيلان) للاديب سعد الصالحي، تفتح صدرها، وقلبها بكل شفافية مشوقة وممتعة . في اختيار عينات حكائية، في اسلوب السرد المتع والرشيق، يحمل البساطة والتواضع، والاهم انها، تحمل الصدق الوجدان في التدوين، دون تمجيد الذات و (الاناء) بل تركها على سجيتها دون زيف وتمويه، بل يجعلها تنطق نفسها بنفسها، وهي تقدم شهادة حياتية ممتعة،تجعل القارئ، في حالة اثارة وانفعال وعاطفة، مشوقة يتعاطف معها، وتجعله في حالة مقارنة، الحياة والظروف في ذلك الزمن . بالمقارنة مع الزمن والظروف الحالية، المسمومة بالقهر والعذاب والاستلاب المحطم، ومسخ انسانية الانسان . لمقارنة ايضاً، بين اخلاق ذلك الزمن، الذي عرف بالبساطة والتواضع، واخلاق هذا الزمن الحالي المزيف والمنحرف في كل شيء، حتى داخل دخيلة الانسان نفسه ......... هذه القراءة ترصد النسق الزمن في (مراثي غيلان) وتقسيمه الى قسمين: مرحلة الطفولة والبدايات الاولى، ومرحلة الشباب وما بعدها .

1 - الطفولة والبدايات الاولى:

- اول شيء، هي البداية، الصرخ ليثبت وجوده مخلوق كائن حي، وفي تفهم الاشياء التي حوله (كنت احبو، وكان اول الاشياء صراخي ساعة رأيت وجه ابن عمتي (رياض) مبتسماً وهو يهدهدني) ص3 .

- حالة تذكر بطعم الشوق اللذيذ، في مذاق الطفولة في السفرات والجولات العائلية، التي تنعش حياة الطفولة ومرحها (كلما سافرنا الى بغداد، وانصرفت أمي لرص لفات الخبز بالبيض المسلوق و (العروك) والخضرة، كان هناك كرنفال وجبة بفرحة ذهبية لحلم لهن بالاكل والحديث عن متاعب الطريق والسفر) ص10 .

- وعن مشاغباته وخصوماته وعراكه مع شقيقته (هناء)، فعندما يشاكسها تصيح به (ابو بولة) (وكنت الاكبر منها ..... بيد أني ابو بولة) ص13

- وعن زعرنة الاطفال ومخاطرها . في احراق اثياب جدته (اخرجت علبة الكبريت من جيبي، بيد ان الثوب المشجر بالوردات الصغيرة، ما كان لينتقد من عود واحداً واخر، جمعت عودين معاً فانقد الثوب بلهيب، يأخذ كل الاثواب في مهرجان احمر، يتسامق صوب الاعالي، بالدخان الاسود)ص20، وتصرخ به جدته :

(- لم حرقت الثياب ياولدي ؟

(الله . قال لي) ص21 .

- وعن بهلوانياته التخريبية . يأخذ الحليب المجفف المخصص لشقيقته الصغيرة ويخلطه بالماء، كأنه يقلد أمه في صنع العجين، ويصرخ بالفرح (ها قد جهزت العجين) ويصب اباه الغضب، لكن جدته تحميه من عقاب الاب (كافي . اتريدون قتل الولد من اجل الحليب) ص22 .

- الانتقال من اربيل الى بغداد . ها (هي بغداد بأصوات نسائها بين الازقة والاغاني . مدينة الاحزاب والملاهي وابي نؤاس . نترك خلف ذاكرتنا، اشكال الجبال وهفهفة السراويل الكردية، ونخطو الى حي من احيائها يخلو من البعوض . حتى ان جدي يرتد لعصملية الافندية، يرتدي سدارته السوداء وبدلته الرمادية بقطعها الثلاث . يؤكد أبي، أن (راغبة خاتون) نسيمها اطيب من بقية الاحياء، لقربها من دجلة) ص25 .

- حول انقلاب شباط عام 1963، واعلان مقتل الزعيم (عبدالكريم قاسم)، ويرى في التلفزيون الاسود والابيض جثته في بركة من الدماء يسحلها جندي ويصرخ (لا تكولون مات عبدالكريم ......... لا تكولون مات عبدالكريم ...... لا تكولون ....) صرخت أمي بلوعة على صراخي، ثم تهدج صوت جدي العصملي، الشيخ بتؤدة القادرين كرها على الاحتمال . وصمت ابي مذ حينها) ص48 .

- شقندحيات الطفولة الماكرة : مع خاله (قحطان) حيث طرح سؤال:

(- منو رئيس وزراء العراق ؟

(- اجبنا بصوت عالٍ:

(- ابو فرهود

(ضحك خالنا قحطان بهستيرية وكرر سؤاله

(- أريد أسمه ؟

(- طاهر يحيى) ص65

- طعم العنبة الهندية ومذاقها الشهي وولع صبيان المدارس بالسينما وافلام هرقل، لكنه وقع في محاولة التحرش الجنسي . من قبل صاحب الحانوت (ابو العنبة) حانوته ملاصق لشباك التذاكر السينما، وكان مستعجلاً لدخول صالة السينما لمشاهدة الفيلم، فقال له صاحب الحانوت بأن يأخذ (صمونة العنبة) في داخل الحانوت، وحين دلف داخل الحانوت، بوغت بصاحب الحانوت يتحرش به من الخلف، فما كان منه إلا ان يصرخ باعلى صوته :

(- ابن الكلب ...... ابن الكلب

(وساعتها كانت يدي قد امتدت بلا ارادتي الى مغرفة في برميل العنبة، لاشج بها صفحة وجهه، وبسرعة لا اعرف حتى اليوم، كيف اتقنتها وتركته مترنحاً، وانا اهرع الى باحة السينما الصيفية، لاستمتع بعدها بفلم (هرقل الجبار)) ص76

- وتحرش آخر .

حين احتضنته (سعدية) ذات العشرين ربيعاً، وهو ابن عشرة اعوام .

(- تتزوجني لو .... لا ؟

(لبأتي بعدها عالياً صراخ امها العجوز المتلصصة علينا

(ولج عوفيه بعد زغير ما يفتهم) ص78

مرحلة الشباب وما بعدها:

- في جبهات الحرب المجنونة مع ايران . كان امرأ في احى الوحدات الطبية، عام 1985 . توثقت علاقته الحميمة في جبهات الحرب، مع عازف الكمان الاول في الاذاعة والتلفزيون، ليخدم جندي في الخنادق الامامية لجبهات القتال . لكنه بعد انتهى الحرب، حياته تدمرت بفعل المشاهد الدموية ونزيف الدماء، فصار اسير الادمان والكحول وطلق زوجته، وبعد عشرون عاماً (قيل انهم وجدوه في عام 2002، في صبيحة صيف، مرمياً على الرصيف، جثة شديدة الهزال، غارقة ببحر القيء والكحول، لم تكن تلك الجثة، سوى جثة الفنان الكبير، واستاذ آلة الكمان الاول في العراق، الموسيقار العظيم، الذي ألف اللحن الخالد (بالسلامة يا وطن .......... ما هزتك ريح)ص43 .

- بعد التخرج من كلية طب الاسنان في بغداد . مر عليه طيف الحنان والشوق الى مرابع الطفولة الاولى، فأخذ سيارته متوجها بحنينه الطافح (مررت مرتبكاً ونحن في الطريق الى (سومار) وبكل محطات طفولتي . بعقوبة . كنعان . بلدروز . الروابي ومناقع المياه، وحقول التمن العنبر، في الاتجاه نحو افق تلال وقمم جبال، تلوح خلف اطراف مدينة الرمان، مندلي) 56 .

 - مشاهد مأساوية مريرة من جحيم الحصار

يتلف على حوات شوارع بغداد المصابة بالجحيم والجوع والحصار، في الحالة مأساوية عنيفة، لكن تنتصب جداريات وصور صدام حسين، وتحتها ينوئ صراخات الجوع والجحيم والحصار المدمر، وبعد عودته الى عائلته في اجازة دورية من جبهات القتال، وزجته تعالج الجرحى في المستشفى، يتذكر اهوال الحرب المدمرة، والحالة المعيشية البائسة، وتأخذه حالة نفسية قاهرة باللوعة والحزن، على صوت (فيروز) وهي تغني اغنية (بكره لما يبرجعوا الخيالة) (فبكيت وانا احتسي كأس بيرة فريدة، للحظة وئام وسلام وشوق لطفلتي الحبيبة، وابني البكر، بيوم انتهى الحرب) ص80 .

- من مفارقات الزمن الارعن :

كان في وحدته العسكرية في خنادق القتال، جندياً استشهد في الحرب المجنونة (بيد أن راتبه بوصفه شهيداً، حجب بعد عشرين عاماً، لان مثل هذا الموت، لم يعد كافياً، ليتذكر في قاموس وطنه) ص86 .

ان (مراثي غيلان) للاديب سعد الصالحي، متعة مشوقة في رحلتها، وهي تتوقف في محطات كثيرة تستدعي القراءة والاهتمام

×× مرثي غيلان - 113 صفحة

 

جمعة عبد الله

 

في المثقف اليوم