قراءات نقدية

الواقع وعكسه في قصة (ربيكا) لقصي الشيخ عسكر

saleh alrazukتفتح قصة (ريبيكا: بطاقة نعي) لقصي الشيخ عسكر، المنشورة على حلقات في صحيفة المثقف،  نافذة في جدار الذاكرة ومنها نلقي نظرة على حاضر وماضي الدكتور محمود الداوودي، وهو مهاجر يهرب من الموت. ولكن سرعان ما يعلن الأقارب والأصدقاء نبأ وفاته. ويحدوه ذلك للعودة وطلب إلغاء الخبر.

ومن خلال الفلاش باك وتيار الوعي ( ربط الأمكنة المتباعدة والأزمنة غير المتسلسلة) تتابع القصة الأرشيف السري لشخصية الدكتور الداوودي.

وتعمل على توضيح الزوايا المعتمة من الذاكرة. وبأسلوب يشبه ما فعله هنري باربوس في الجحيم.

لكن مع الاحتفاظ بفارق جوهري.

فباربوس ينظر من فتحة في جدار الغرفة على مشاهد قصيرة الأجل من حياة أفراد من المجتمع.

بمعنى أنه يتلصص عليهم. ليكتشف قوانين وجودنا الطارئ وقصير الأجل.

بينما الشيخ عسكر ينقب في ذاكرته عن انعكاس الأحداث والتصورات على شخصيته.

وتصبح العلاقة بينه وبين الواقع مثل مرآة أمام مرآة مماثلة. كل ما فيهما صور وانطباعات. ولكن أي منهما لا تشبه مرآة بياجيه. فنحن لسنا في طور التعرف على الذات. وإنما في طور بنائها وترميم الأجزاء المفقودة والضائعة.

ويمكن أن نقرأ أكثر من نصف القصة على هذا الأساس.

لقد كانت أحداث لبنان تهمه مثل حروب الخليج عام 1980 و1991 .

ورأى أنها تمهيد لا بد منه.

وكان الداوودي منذ البداية متورطا في اللعبة. وعمل مع رجال الأمن لفحص المعتقلين وإسعافهم.

وإذا استغل هذه الفرصة لتدوين مشاهداته وما يرافقها من انفعالات فقد اتخذ في نفس الوقتا موقفا إنكاريا.

وإن صحت التسمية كان وعيه يتحرك بالتوازي مع وجدانه.

فهو لم يبرر الإفراط بالعنف وتحرك بدافع من الخوف والترهيب.

وبضوء هذا الصراع غير التقليدي بين العاطفة والعاطفة المضادة (الذي يذكرنا بصراع الواجب والعاطفة عند الرومنسيين) كانت الأولوية لغريزة البقاء.

ويمكن أن تفهم من مواقفه وأفكاره أنه يدعونا لاحترام سلطة القوة.

ولعدم التهور وأيضا عدم الثقة بالقوة الخفية التي تعمل من فوق الواقع. فالطاقة النفسية برأيه لا يمكنها أن تتحول إلى فعل إلغاء.

وعلى ما أرى إن سياسة بناء الذاكرة في القصة تؤكد أن الكاتب لم يكن يفاضل بين خيارات متاحة أمامه.

لقد حزم أمره على واحد من إثنين.

التضحية بالمضمون الروحي للإنسان والتمسك بالممانعة بمعناها السلبي.

فالهجرة لديه كانت بمثابة تعطيل لعاطفته..

لقد عطل الجانب الرومنسي من معنى الهوية أو الانتماء .

ولذلك كانت حياته افتراضية.

وللتوضيح.

كانت حياته في المنفى بلا ارتباطات.

 فقد عاش بلا ذاكرته وأيضا خارج المجتمع المضيف. وهذا دمر في وقت واحد العلاقة التكافلية (symbiotic relations ) التي يمكن أن تتحكم بتبادل المنافع بين كل الطراف المعنية.

ويمكننا القول (بتحوير طفيف لثنائية سارتر عن الوجود والعدم) إنه كان حاضرا لكنه غير موجود.

ويرمز الشيخ عسكر لذلك بمجموعة من الصيغ والتعابير المباشرة: منها قوله عن بطل قصته: إنه الميت الحي.

أو قوله عن مدينته:  مكان أعرفه ولا أعرفه.

أو قوله أيضا: الشيء المألوف الغريب.

ويختم هذه السلسلة من المتعاكسات بكلام مفيد ومختصر عن النواح على الميت، فهو برأيه يوقظ فينا ذكريات النعيب والصراخ الذي ينطلق من المولود وهو يرى النور لأول مرة.

فهل أراد أن يقول إننا نعول على انفسنا فغي كل الحالات؟.

يبدو أنه توجد قصدية لهذا الكلام.

فخلال معراجه من المطار إلى داره وإلى سرادق العزاء كان يتأمل مشاهد الدمار على أطراف الطريق. والعلامات التي تركها الجيش الأمريكي خلفه.

فقد أصبحت البصرة مثل فتاة رائعة هاجم وجهها الجدري. كما قال بالحرف الواحد ساعة دخوله المدينة.

لقد كان حدسه منذ البداية فجائعيا.

وكان لا يرى من حوله غير آيات تدل على الهدم والحصار وليس إطلاق الحريات والبناء.

وهو ما يتوقف عنده مطولا.

باعتبار أنه مخاض إن دل على شيء يدل على المعاناة. البشلاية بالمعنى الملحمي للكلمة.

لو بهذا السياق لا يمكننا أن ننكر أن إلغاء الوفاة في المشهد الختامي هو بمثابة تنفيذ لنصيحة "أبو الخيزران" المهرب الذي قاد الشباب الفلسطينيين الثلاثة في (رجال تحت الشمس) لغسان كنفاني.

فقد سألهم بعد أن قضوا نحبهم في الصحراء داخل الشاحنة: لماذا لم تدقوا على جدران الخزان؟؟.

وعلى ألأغلب احتفظ الدكتور الداوودي في لاوعيه بهذه النصيحة

وحتى لو أنها جاءت متأخرة. فقد استعمل قبضته في النهاية وضرب على الجدار.  لقد أنكر موته.

وفي نفس الوقت وضع قيد البحث جملة من الإشكالات.

الانتماء .. هل هو صدفة أم أنه اختيار؟.

والهوية. هل هي مكتسبة أم أنها وعي وإرادة؟.

وكيف تكون علاقة المسؤولية بالحرية؟.

وقد حاولت القصة أن لا تسقط في فخ الجدل البيزنطي، وأن لا تلعب على وتر الوطنيات الفارغة، وحرصت على توجيه وعينا وإدراكنا باتجاه الخلاص.

وهو ما يعبر عنه الدكتور الداوودي بقوله: إذا قرعت الحرب الأبواب، يجب أن أبتعد إلى مستقبل آخر.

وقوله لاحقا: يجب المبادرة لإلغاء هذه المهازل قبل فوات الأوان.   

تبقى نقطتان.

الأولى "ريبيكا". وهو اسم زهور تنمو في حديقة بيت الدكتور الداوودي في البصرة وفي إنكلترا. وربما أراد أن يرمز بها لإمكانية الحياة في المنفى دون أي تأثير على موطن الصبا والطفولة. لكن أن يأتي بعدها "بطاقة نعي" هو دليل على ضرورة الاختيار.

ومع أن القصة تخلو من الخلفيات الاستشراقية كانت تعمل وفق آلية إدراك المعرفة. بمعنى أن ما يصلح لظرف ينتهي بزوال الظرف الموجب حتما.

النقطة الثانية أنها قصة طويلة.

وأهم من تخصص بهذا النوع هو عبدالسلام العجيلي. لكنه استشراقي وكاتب في أدب السياحة والسفر. وينظر للنفس البشرية وللحياة على أنهما من مادة وروح. وما تعجز المادة عن التفاهم معه تحله الظواهر الإحيائية التي تستند لديه على ميتافيزيقا لها علاقة بالتخلف والبداوة. و يمكنني أن اقول إن رحلاته لا تخرج من قيود وضعه البشري، وكأنه واحد من البدو ويتجول في تيه هو العالم. وسوء التفاهم بين العجيلي والواقع ملحوظ في كل جملة وكل سطر.

بالعكس من الشيخ عسكر. فعلاقته بنفسه تتطور من خلال مؤثرات خارجية. وإذا كان لا بد من تصنيفات. أعتقد أن (ربيكا) أقرب لقصص صدقي إسماعيل الطويلة، ومنها (الله والفقر) التي تتابع أيضا مسيرة أسعد الوراق وإمكانيات اكتشاف الذات في عالم يؤثر بنا. وعلينا أن نفهمه حتى لا نكون من ضحاياه.

 

صالح الرزوق

حلب / نيسان 2017.

 

في المثقف اليوم