قراءات نقدية

الرائي الحكيم في رواية أمجد توفيق: الظلال الطويلة

amjad mohamadsaeedإشارة: أعرف الروائي والقاص العراقي أمجد توفيق منذ ما يقرب من خمسين عاما، في مدينة الموصل ثم في بغداد، ربما قبل أن ندخل، هو، وأنا، فعليا إلى دائرة الكتابة الأبداعية، وربما دخلنا عالم الكتابة في وقت متقارب، منذ ما بعد منتصف نهايات الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي بشكل خاص، هو في القصة القصيرة، وأنا في الشعر، مع كتابات صحفية مختلفة في مجالات الثقافة والفنون . كان قد بدأ أولى كتاباته السردية في مجال القصة القصيرة مثل أغلب كتاب السرد الروائي والقصصي من جيله خاصة، ونشر العديد منها في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وظل مقلا ودقيقا فيما يكتب وينشر حتى الأن .

ورغم علاقتي الحميمة والعميقة بالكاتب أمجد توفيق، واطلاعي على أغلب ما كتب من قصص وروايات، بل ربما اطلعت على بعضها قبل أن تنشر، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أتناول فيها عملا أو جانبا من أحد أعماله نقديا . ولقربي الشديد منه، وقربه الشديد مني، يبدو أننا لم نكن نحس أن هناك ضرورة ما لكي نقول ما نتداوله بيننا للآخرين حول نتاجاتنا، ربما كان ذلك أيضا نوعا من القناعة والزهد بما نكتب، والمتعة الخاصة التي تحققها الكتابة لنا، حتى أنني استغربت أكثر حين اكتشفت ذلك . أقول هذا لأنني أحس أن لما سأتناوله وأركز عليه في دراستي هذه، علاقة بمجمل شخصية الكاتب العامة، المعروفة للآخر، والخاصة التي لا يعرفها إلا أصدقاؤه القريبون منه، فالزوايا التي سأتناولها من روايته (الظلال الطويلة) هي تلك الأفكار والأستنتاجات والومضات التي تعْبُرُ الدورَ السردي الذي يؤديه عادة ما يُطلقُ عليه (الراوي العليم) أو السارد العليم إلى ما أسميتُهُ (الرائي الحكيم)، حيث يقدمها خارج السياق السردي العادي لأحداث الرواية، ولعلني أزعم أن هذا الإجراء الروائي، هو أحد سمات الكتابة السردية القصصية والروائية عند الروائي أمجد توفيق، فطالما كان الكاتب يتجرد بوعي مدروس، وخصوصية أسلوبية من علاقته بالسياق السردي العام، وينتقل حين يجد مبررا إلى تلك الومضات والإضاءات التي تكشف وتضيئ الطبيعة الشاملة لعناصر الرواية الأخرى . وذلك انعكاس طبيعي لكلية نظرته للكتابة الإبداعية من جهة، ومن جهة أخرى لسمات عميقة في شخصية الكاتب التي تتسم عموما بالجدية والأهتمام بالتفاصيل، وملاحقة الأمور إلى نهاياتها، والإيمان بواقعية الأحداث والأشياء التي تتشكل في مسيرة الحياة اليومية، كل ذلك جعل الكاتب يضيف إلى سرده للأحداث الروائية والقصصية بعدا تأمليا واضحا، تطور إلى ما يشبه الكولاج في اللوحة التشكيلية .

وأشير هنا إلى أنه ربما لا يوافق البعض من الدارسين الأكاديميين والباحثين والنقاد على هذا التواجد التأملي من لدن الكاتب، ولكن هناك في المقابل الكثيرين أيضا ممن يتطلعون إلى إعطاء الكاتب حرية أكبر فيما يعتقد أنه الصواب، أو أنه يتوافق مع طبيعة أسلوبه وشخصيته الروائية، خاصة بعد ما أبدعه الكتاب والروائيون في السنوات الأخيرة، في كافة أنحاء العالم من روايات تتداخل فيها عناصر السرد الروائي إلى مديات وتوجهات إبداعية غير مسبوقة . وصلت إلى حدود أن تتداخل أنماط من الفنون الكتابية في بعضها خدمة لهدف الرواية الإبداعي السردي الرئيسي، لا حدود إذن للإبداع، وهذا ما استندت عليه في دراستي هذه، التي تصدر عن قراءة حرة تتناسب مع تحسسي الخاص لمكامن الجمال والأبداع في الرواية، وفيما أتناوله عادة من نصوص تقع تحت دائرة إعجابي .

مدخل:

في ثقة وموضوعية ووضوح، يدخل الروائي والقاص أمجد توفيق، ليس عالما واحدا، إنما عوالم عديدة وخطيرة ومتباينة، تعج بالأحداث والمشاهد والصور والشخوص والكتل البشرية والجماعات المتحاربة مع بعضها البعض، بسبب الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي انفتحت على مصاريعها الجهنمية، والتي تقع في مساحات من الواقع الملموس، وأنها ما تزال قيد التشكل الذي أعقب انهيارات ما كان سائدا في مجتمع ظهر أنه هش متخلف، وأنه ظل طويلا يعيش محن ومشكلات الصراع الإنساني العام الغالب على الكثير من أفراده وتجمعاته، واتساع دائرة الكذب الشامل والزيف والنفاق الثقافي والعلاقات النفعية الأنانية المعتمدة على الأسس الميكافيلية الشيطانية، وفقدان الأمن الخاص والعام، ناهيك عن عوالم أخرى، ما تزال ذيول أحداث انهيارات بنيتها العمودية والأفقية واضحة المعالم، وحرائقها ما تزال عميقة التأثير في مجريات الواقع الراهن بعد ضياع القيم القديمة التي عاش عليها الناس طيلة قرن من الزمن .

في يقينية كاشفة، وحيادية واضحة، يتناول الكاتب في روايته (الظلال الطويلة) هذه العوالم التي ما تزال ملتهبة بنيران الأحداث والوقائع، والتي ما تزال هي الأخرى في طور النمو والصيرورة، ونحت المتغيرات صعوادا وانحسارا، لمن يمثل هذه العوالم القاسية الشديدةِ الفعل، الحادةِ الجارحة ردودِ الفعل . ذلك أنها وجدت نفسها في طرق مسدودة، وذات خيارات محدودة، نماذج بشرية وجدت أن مصائرها وأقدارها محشورة ضمن رهانات دموية جارحة لا بديل لها، بتأثيرات خارجية مجتمعية أحيانا، أو بتأثيرات داخلية نفسية مصروعة بالمتغيرات الدراماتيكية التي توشك أن تكون غير معقولة، حتى انكشفت النفوس البشرية على أدنى وأسوإ ما فيها من صور سقوط القيم، وانفلات العقل عن الموضوعية والعقلانية والتحضر .

 عوالم الرواية:

عوالم الرواية الإفتراضية هي بكل تأكيد صدى من العالم الحقيقي الذي انزاح بعضه من الواقع المادي إلى منطقة الخيال، عوالم الرواية ممسوكة بيد الكاتب، ومطوقة بانتباهاته الحيوية، ومرصودة بمراقبة دقيقة لا ينبغي لها أن تفتر أو تغمض عينا، أو تهمش زاوية أو مشهدا، إنها بكل بساطة تلك المقاصة الضرورية التي تتجنب الزوائد والاستطرادات، كما تحرص على تلافي أي نقص في إيراد مكونات وتفاصيل العوالم الروائية الضرورية . هذا ليس انتقاء، بل هو اكتشاف الحدود وتعيين المسارات، خاصة بين عالمين رئيسين، أحدهما مفتوح متدفق على ما لا نهاية، والآخر محكوم بطبيعة موضوعية فنية جزئية، يعمل الكاتب أو الروائي على أن يقدمهما لتكون شهادته لا ذاتية، عن أحداث تجري، وشخصيات تحيا، وأزمنة تمر، وأمكنة تؤثث بمجريات تخيلية لها جذور في واقع قريب، أو في واقع بعيد، وكما هو معروف جدا فإن الرواية ليست أي شيء، إلا رواية، ليست تاريخا، ولا علم اجتماع، ولا رحلة سياحية، أو منبرا فكريا، أو نشاطا سياسيا، إنها غير ذلك كله، ولكنها كل ذلك في آن واحد، ولكن بقياساتها الخاصة المتفردة . إنها تتشكل من عوالم عديدة لكل عالم خصوصياته وشخوصه ومفردات لغته وطبيعة تكوينه . وهذه العوالم تتناسل إلى عوالم أخرى أكثر خصوصية، وأكثف حضورا، وأدق حركة لشخصياتها ولأحداثها المختلفة . وهذه العوالم تتناقض أو تتواشج فيما بينها نسبة إلى حركية الدراما الداخلية للأحداث وصيرورة السرد الروائي العام والخاص لكل عالم وحدوده.

وحين يتتبع القارئ كل عالم من عوالم الرواية، سيجد أن الواقع يوشك أن يتحول إلى كابوس، (إن لم يكن قد تحول فعلا)، والناس من بشر إلى نماذج خارج المواصفات الطبيعية للبشر السوي، وتسرد الرواية تفاصيل مجتمعات قضمت تاريخها، وألقته في سلة المهملات، وحاولت نسيانه بقوة نكوص الذاكرة وقصديتها العجيبة، وأيضا بما توفر من ميكانيكا السلاح الغاشم الذي أصبح هوية جارحة، ولغة مدرعة بالدم والطلقات، وحيث الحوادث العجيبة الغريبة لا تخطر ببال أحد، إلا بعد أن ساد اللا معقول هذه العوالم، و بدلها من حال إلى ألف حال وحال .

ظلال طويلة:

أطلق الكاتب عنوان (الظلال الطويلة) على روايته، و لأنه لابد أن يقصد معنى له مقاربة رمزية ما مع جو وأحداث الرواية، وشخصياتها، فإننا نعتقد أنه نجح في إعطاء صورة بلاغية، تشي بتصوراته العامة لمجريات روايته ودلالاتها الرئيسية، والعنوان يتكون من كلمتين (الظلال) و(طويلة) أما الظل فإنه (عتَمَةٌ تَغْشَى مكانًا حَجَبَ عنه أَشِعَّةً ضوئيّةً حاجزٌ غيرُ شفَّاف)، والظِّلُ من كل شيءٍ: شخصُه، والظل من الشيءِ: أُوّلُه، ويصاحبه كظلِّه: لا يفارقه، وظِلُّ اللَّيل: سوادُه، وهو في ظل فلان: أي في كنفه، وإنّه ليخاف حتى ظلّه: يخاف من كلّ شيء، إلخ من المعاني الكثيرة للظل، وواضح أن الظل شيء ملازم للموجودات التي تقع تحت ضوء ما، وتتغير أشكالها وأحجامها بتغير موقعها من هذا المصدر، ولذلك فإنها لا تبقى على صورة واحدة، إنما تتبدل بتبدل الواقع الضوئي الكائن حولها أو وراءها، وبقدر حقيقية وجود الظل فإنه غير موجود ماديا، او ملموس واقعا، سوى أننا اعتدنا على ملاحظة وجوده في الطبيعة في أشكال مختلفة، والظل قد يطول وقد يقصر نسبة لموقع مصدر الضوء تجاه الموجودات، فإذا ما كان مساويا له فهو أقرب لطبيعة الشيء المادي الأصلي، وإن قصر كان أقل من حقيقته المفترضة، وإذا ما طال فهو يأخذ مساحة ودورا أكبر، ويأخذ حجما أكثر اتساعا، إذن فالعنوان مثلا يشير إلى أن الشخصيات والاحداث في الرواية تأخذ دورا في الوقائع أكبر من حجمها الطبيعي، ومن دورها المفترض، وهذا ينطبق على أغلب عوالم الرواية وشخوصها، إذ أن كلا منهم يتجاوز حجمه إلى ظلال أخرى، أو يقوم يأعمال ليست من صلاحياته، وليس له فيها حقوق واضحة . وبهذا التفسير يكون العنوان قد أشار إلى التجاوز على حياة وحقوق الآخرين، وأن هذه الظلال الطويلة نصبت نفسها على الواقع الذي ملأته بظلال صغيرة قامت بتسخيرها لخدمة أهدافها الخاصة . أما الإحتمال الآخر الوارد ربما على ذهن المؤلف، هو أن الظلال بطبيعتها تطول في حالتي شروق الشمس او غروبها، وأن كل أحداث الرواية تشير بكل تأكيد إلى غروب مجتمع واضمحلاله، وسقوط دولة بكل مؤسساتها، وانهيار قيم بكل ما فيها من إرث وحضور أخلاقي وسلم مجتمعي، وانشطار شعب إلى كتل وطوائف وإثنيات وآيديوجيات إختلط فيها الحابل بالنابل، وتمزق القاعدة الإقتصادية الإنتاجية في البلد وتراجع مخيف في الإبداع الثقافي والفني والتربوي العام .

الرائي الحكيم:

ولابد من الإشارة هنا إلى أنه مع احترامنا للنظريات العديدة التي عالجت عالم الرواية، فإننا نعتقد أنه لم يعد ممكنا الإكتفاء بدراسة الروايات دراسات نقدية أكاديمية شديدة التخصص، تكتفي بمعالجات فنية، وتحليلات نظرية وحسب، دون الأخذ بنظر الإعتبار الخلفيات الإجتماعية والثقافية والسياسية والإقتصادية وغيرها، مما يشكل العمود الفقري لكل رواية، ولم يعد مقنعا ذلك التناول الذي يعتمد موت المؤلف كما يقال، وتعقب خطوط طول وعرض لفحص الهيكل العظمي للرواية، دون تعقب حياة الكائن الذي كانه هذا الهيكل العظمي، والذي قضى، أزمانا وأوقاتا ذات حضور مادي ما، وعايش بشرا ومجتمعات وأحداثا، و وعاش في مناطق ومدن وأقطار، وأثر فيما حوله سلبا وإيجابا، يشير الدكتور حمدي السكوت في كتابه (فصول نقدية وأدبية) الصادر حديثا إلى عودة المعنى إلى النص الأدبي ويقصد بالمعنى، هو كافة المضامين والأبعاد الفكرية والإجتماعية والثقافية والإنسانية وغيرها، ويضيف أنها لا تعرض بشكل مباشر وإنما تعرض متضمنة ومستترة في ثنايا النص الأدبي، وكل هذه أمور كان يهتم بتحليلها وتقييمها الناقد الأدبي جنبا إلى جنب مع إبراز الجوانب الفنية للنص، ص41 .

أما الناقد الدكتور خالد علي مصطفى فهو يشير في مقدمته للرواية، بأن العمل الأدبي ليس حيادياً ؛ فهو مثقل بالعواطف والإنفعالات والأفكار التي تدل على صاحبها، أو على ما يريده منها صاحبها، وفي هذه الحال يجد القارئ نفسه مجبراً على أن يتخذ، هو الآخر، موقفاً منها، رفضاً، أو قبولاً، نقاشاً، أو تأملاً . أما ـ القارئ الحيادي ـ فليس إلاّ خرافةً أدبية، ككثير من الخرافات الأدبية التي يجب أن تحال إلى ـ علم الأساطير ـ .

الروائي أمجد توفيق قرر أن لا يكتفي بدور السارد العليم أو الراوي العليم في روايته الظلال الطويلة، إلى جانب رواة آخرين في تضاعيف السرد، إنما استطاع أن يقنعني أنا كقارئ ومتابع للرواية الحديثة عربيا واجنبيا، أن يكون إن صح التعبير (الرائي الحكيم) حيث يستنبط من الأحداث أمثولتها، ومن منحنيات الشخصيات إنزياحاتها، ومن مجريات الأزمنة والأمكنة أصداءها وترجيعاتها . ذلك فإن الذي حدث لا يسرد لمتعة القراءة فقط، على أهميتها، إنما لابد أن نستخلص منه جملة من تأثيرات عملية السرد الحديثة، وتتجاوزها، دون الإخلال بفنية الرواية وشروطها السردية العميقة .

 وربما يكون الروائي أمجد توفيق من أولئك الروائيين والكتاب العراقيين الذين لديهم بانوراما شديدة الإتساع والوضوح لمجريات الإحداث، وقراءة الشخصيات، وملاحظة التغيرات المجتمعية الشاملة وتغطية مساحاتها من النقيض إلى النقيض، ولديهم الأفق الذي يحفل بالكثير من ما يشكل قاعدة رئيسية، لأحداث ما تزال فصولها جارية على أرض الواقع وما تزال شخصياتها ذات نفوذ وتأثير في صياغة الحاضر والمستقبل، وذات علاقة بما يجمع بين المشاهد الماضية والحاضرة، ولذلك فإن روايته تنطلق من أرضية ملآى بالحقائق، قريبة من زمكان الأحداث، وغير بعيدة عن تأمل تجمعات بشرية بمختلف الصور والأشكال والتصرفات والسلوك، وبسبب ذلك ايضا، لم يستطع الروائي أن يكون مجرد راو ينقل الأحداث عبر سردية وظيفية متجردة، بل كان شاهدا ومحللا وراويا عليما، وإضافة إلى كل ذلك كان (كما أقترحُ أنا إن، كان لي ذلك الحق كقارئ غير محايد على قول خالد علي مصطفى) (رائيا حكيما)، لما جرى ويجرى على أرض الواقع، لم يستطع الكاتب أن يتقبل فكرة أن يكون راويا عليما وحسب، إنما كان رائيا يستنبط في سياق سرده الروائي، حكمة صعود وهبوط البشر إلى قمم الصدق والشرف والتضحية والحب، أو على الإنهيار والسقوط إلى مهاوي مستنقعات الرذيلة والجريمة والكراهية والكذب والقتل والتدمير و الأنتقام، إنه قرر أن يمتلك زمام السرد وتطويعه مكانيا وزمانيا وتفاصيل، وما بعد ذلك من وقفات تأمل في عمق ما جرى ودوافع أسبابه وخفاياه، ذلك أن أحداث الرواية ليست مجرد حكاية مصنوعة خيالية من حكايات ألف ليلة وليلة، إنما هي أحداث ذات جذور شديدة الواقعية، شرخت جدران التاريخ والجغرافيا، وسلخت مجتمعات أصيلة من واقع إلى واقع، وغيرت شخصيات من ضفة إلى ضفاف أخرى، وبدلت قيما من نمط إلى نمط، بل أشاعت تفسيرات جديدة لبديهيات ماضية منذ مئات السنين .

لذلك سوف تركز هذه القراءة على وقفات التأمل الحكيمة، وسوف تشير إلى بعض ما نطق به (الرائي الحكيم) من خلاصات معرفية استنبطت مما وراء أحداث الرواية، ومن نظرات تأـملية في الحياة والمجتمع، أضاءتها تشابكات الأهداف والمصالح الذاتية، وكشفها سلوك شخصيات عامة ورمزية، كان، لها الواقع والرواية، وسيظل لها الواقع، تأثيرات في توصيف نزوع الإنسان إلى الإستئثار، بما وهبته الطبيعة للكائنات الحية من مفردات الحرية والعدالة والإنصاف، ولعل أول ما سيواجهنا، تلك النظرات العميقة والإشارات الدالة التي ابتدأ بها الرائي الحكيم، قبل أن يبدأ السارد أو الراوي العليم الدخول إلى عالم الرواية الأول، الذي هو مدينة بغداد ما بعد الإحتلال الأمريكي لها، وهو (المدخل)، المدخل الذي لا يبدو أن له علاقة واضحة لمجريات الأحداث، وها هو يقول:

 (تموت الأشجار إذا نقلت من أرض لأرض ..

 وتموت الطيور إذا غادرت بيئتها ..

 وتموت الحيوانات ..

إنها تدفع ثمن صدقها، والصدق عندما يكون نقيا أصيلا، فإنه يصبح وجها آخر للمـوت، فالمـوت يحفظ للصـــدق نقاءه .. إنه يقتله ..

 وبرغم القسوة والجمر الذي ينشف مآقي العيون، يكون الموت في حالات كثيرة محورا تتوازن الحياة على محيطه، فهو سرها، وفكرتها العميقة، ورعبها الذي يبتـدع آلاف الوسائل للنسيان أو الكذب ..

ليست الأشجار بحاجة إلى الكذب ..

ولا الطيور أو الحيوانات ..

لسبب سهل هو أنها لا تتذكر .. هكذا يقولون!!)

إلى ماذا يلمح الرائي الحكيم هنا، وإلى ماذا يشير ؟ الصدق حين يصبح موتا، أو حين يكون الموت نتيجة صدق الكائن، بشرا، أو حيوانا، أو حتى جمادا؟ بمفهوم فيزيائي أو كيميائي ما، ويكون من ملامح هذا الصدق، الإرتباط بالجذور وبالأصول، فإذا ما أرغم الكائن على مغادرة موطنه الأصلي أصبح بحكم الميت، وسيكون الموت هو الوجه الآخر للصدق، وسيكون الموت الوسيلة الأخيرة لإنقاذ الصدق من الإنحراف عن الجادة، أو التحول إلى كذب، وهكذا يكون الموت حالة خلاص للكائنات النقية التي تفضل الرحيل عن العالم إلى موت أكثر نقاء من حياة كاذبة، أو أنها تعيش كذبها يوميا، ثم تحاول أن تنسى أنها تكذب لتبرر لكذبها أن يسود ويسوَّق ولتخادع به قبل كل أحد، نفسها الكاذبة .

وإذا استعرضنا مجريات الرواية منذ احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف سنجد أن سقوط بغداد يمثل ذلك الإنهيار الكامل لبلد عريق له من أوجه التاريخ والحضارة والقيم الشيء الكثير، هذا السقوط الذي جلب فيما بعد كل تلك التحولات الدراماتيكية الخطيرة، هل يشير الرائي الحكيم إلى أن ما حدث هو بالضبط قتل للبلد، وليس تحريرا، كما ادعت القوات الغازية، بدليل أن ما جرى، وما يجري الان مكشوف على الطاولة، ولا أحد يستطيع أن يصفه إلا بالإنهيار الكامل رغم ما يدعيه البعض الذي يسوغ لأمريكا وحلفائها وأعوانها في الداخل العمل على إسقاط الدولة واحتلال البلد . لا بل إن أساطين الإحتلال انفسهم إعترفوا أخيرا على رءوس الأشهاد، بأنهم كانوا على خطأ في احتلال دولة العراق، هم قالوا إنه خطأ، ولكن الحقيقة تقول إنهم أجرموا في حق البلد وحق أبنائه إلى يوم الدين .

هل (الحكمة أن نتأمل، ونصمت، فلا مسوغ لإطلاق أحكام لا تتوافر لدينا القدرة على الإحاطة بتشابكات علاقاتها وسعتها ..) كما يقول الرائي الحكيم في مدخل الرواية ؟ ولكنه هو نفسه لم يصمت، فقد حاول أن يؤشر ولو من بعيد ملامح وأبعاد الواقع الجديد، وما هو متوقع من ملامح قادمة، بعد أن غادرت غرناطة (الرمز) (بغداد) الواقع (مجدها في اليوم الذي بكى فيه آخر ملوك الطوائف على أرض الأندلس بدل أن يدافع عنها)، ولكنه يؤكد من جديد أن:

(المدن لا تموت ..

 إنها تتنكر .. تغير جلدها، وصوتها، وعطرها، وتسريحة شعرها، لتوفر إمكانيةً للقول إنها تتجمل بدل طعنها بالكذب ..

 أتتجمل المدن أم تكذب؟

ليس ثمة تناقض بين الفعلين إلا بالقدر الذي يحدثانه من أثر، فاللغة تحمي الفعل الأول، وتمده بمسوغات الدفاع، أما الفعل الثاني فلا يجد مسوغاته إلا في نفوس جامحة تعيد ترتيب المعنى عبر الأثر ..

أما المدينة نفسها، فلأنها بلا ذاكرة أو أن ذاكرتها مطعونة بالتشابه مع الذاكرة الضعيفة للجمهور، فإنها تنصب شراك الغواية، ولا فرق عندها بين راهب وغانية ..

 هذا ما اعترفت به المدينة في لحظة صحو تأتي كنقطة في مسلسل من دوار عميق ..

وإذن (المدينة في دوار، أما الكلمة فإنها تبحث عن النقطة في لحظة الصحو.. ولحظة الصحو هذه تجرح الشجرة والطير والحيوان عندما تبحث لهم عن صفات إنسانية ..). هل غرناطة الرمز هي بغداد الواقع – الرواية، بكل تأكيد، ولكن بترتيب مختلف، ولكن إذا كانت غرناطة قد ذهبت ولم، ولن تعود ثانية، فهل مصير بغداد أن تذهب هي الأخرى ولن تعود ثانية؟. ربما .

إشكالية الهروب:

في الفصل الثاني من الرواية، يعود الراوي أو السارد العليم إلى عالم ما قبل الإحتلال الأمريكي للعراق، ليروي لنا جانبا آخر من الأحداث، من العاصمة الفرنسية باريس هذه المرة حيث معاناة الموظف السياسي العراقي العامل في سفارة بلاده والخائف من العودة إلى العاصمة (بغداد) إثر شكوك ذاتية وموضوعية مدمرة، في أنه سيتعرض إلى حساب وعقاب من دولته، وهو الرجل السياسي الدبلوماسي الذي وقع في دائرة الشك والإتهام، وها هو يحتار في تلبية استدعاء من حكومته والرضوخ لمطالب زوجته التي ترغب برؤية بلدها ومن ثم تشجعه على الموافقة على السفر إلى بغداد، أو يرفض تلبية الطلب وعدم السفر خاصة بعد ما ترده تحذيرات من عواقب عودته من جهات أجنبية، أمريكية بالذات، أخيرا يقرر قطع علاقته بالعمل وعدم العودة والبقاء خارج الوطن وطلب اللجوء السياسي في فرنسا، وهنا يتقدم (الرائي الحكيم) ليحتل الصفحات الأولى من الفصل الثاني، وفي روية وهدوء، وحوار داخلي، يقدم الرائي الحكيم درسا عميقا في إشكالية الهروب والخوف، ويعطي تنويعات على أسباب ونتائج الهروب، وطرق الهروب وما إلى ذلك من تفصيلات:

(مِمَ يهرب الإنسان؟

ثمة اقتراحات عديدة لإجابة تتوافر على إحاطة ..

يمكن القول إن الإنسان:

 يهرب تخلصا من أمر ما ..

 يهرب من جدران سجن أو أسلاك معتقل ..

 يهرب من جوع أو عطش ..

 يهرب من خوف أو ألم ..

 يهرب من عري أو فضيحة ..

 يهرب من عقاب أو ملاحقة ..

 يهرب من وشاية أو تهمة ..

 يهرب من خطر أو رعب ..

 يهرب من عوز أو إفلاس ..

 يهرب من جدب وقلة حيلة ..

 يهرب من فشل أو إخفاق ..

 هذه الاقتراحات جميعها تركز على الأسباب في المكان الذي ينوي الإنسان الهرب منه، وأية قراءة منصفة لهذه الأسباب لا تقود إلى إعطاء تميز إيجابي للهارب، ذلك أن الفعل مطعون بدلالات كونتها الاستخدامات اللغوية للفعل منذ اليوم الذي بدأ أول عربي الحديث بلغته، ومن الممكن جدا أن يكون للفعل ـ هرب ـ استخدامات مشابهة أيضا في اللغات الأخرى ..

 وإذا ما تم تغيير صيغة الجملة من:

 يهرب الإنسان من ..

 إلى

 يهرب الإنسان إلى ..

نجد أن مساحة إضافية أو رؤية متسعة الزاوية قد تنتج من هذا التغيير، فيمكن القول:

إن الإنسان:

 يهرب إلى الحرية ..

 يهرب إلى الاستقرار ..

 يهرب إلى عيشة متوازنة ..

 يهرب إلى الأمل ..

 يهرب إلى فرص اقتصادية أو سياسية أو ثقافية ..

 يهرب إلى دور جديد ..

 يهرب إلى أمن ..

 يهرب إلى واقع جديد ..

 يهرب إلى ظروف جديدة ..

من الواضح أن الانتقال إلى المكان الذي ينوي الإنسان الهرب إليه، يعطي دلالات جديدة ومغايرة للدلالات الأولى ..

فعلى الرغم من استخدام الفعل المطعون ذاته، فإن ما يترشح من دلالات جديدة جديرة بقراءة عميقة ..

ماذا إذا قرر إنسان ما التمادي في اللــعب أو التفكيـــر أو التأمل ليسأل:

 كيف يهرب الإنسان؟

 متى يهرب؟

 من يهرب؟

من المؤكد أن مساحات غير محـدودة ستنفتح وتقود إلى أحد أمرين:

الأول: إغراق الأصل بالتفاصيل ..

الثاني: تكوين رؤية متسعة الزاوية تتوفـر لها الإحاطة والعمق، وتنفتح على أفكار واتجاهات ومدارس ..

 أفكار .. اتجاهات .. مدارس) ص49

يعود الرائي الحكيم هنا لكي يقدم لنا مدخلا آخر شديد الخصوصية والعمق عن قضية إنسانية كبيرة زاولها الإنسان، وما يزال حتى ساعة كتابة هذه الدراسة، حيث آلاف البشر (مثلا) يعبرون البحر الأبيض المتوسط بغية الوصول إلى أوربا هربا من واقع قديم، وصولا إلى واقع جديد . ولكنه مجهول، ورغم احتمالات الموت والضياع والاعتقال، فأن اللاجئين من الدول التي تفتقد شروط الحياة الحرة الكريمة، يقدمون على المخاطرة بأنفسهم وبأرواح عوائلهم للوصول إلى شاطئ الطمأنينة والسلام، ولكن الرائي الحكيم هذه المرة يقترب أكثر من الراوي العليم، سيكون عبوره من دور إلى دور أكثر سلاسة وطبيعية، بحيث يشكلان شخصية تتماهى مع الدَوْريْن وتشدهما ببعضهما . وقضية الهروب أو الهرب ليست إشكالية بسيطة، أو قرارا سهلا يتخذه الإنسان متى شاء، يحاول الرائي الحكيم أن يتوسع في معاني الهروب، وأسبابه ودوافعه ونتائجه، وردود الفعل إزاءه، وكيفية تحقيقه والعبور به من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ، وانعكاس كل ذلك على مصير الهارب ومستقبله، وما يحيط هذا المستقبل من غموض وتساؤلات كثيرة . تحيلنا هذه الإشكالية إلى مئات من قصص الهروب الناجحة والفاشلة، ليس في بلد بحد ذاته، إنما إلى مختلف البلدان وعبر آلاف السنين، مرجعا الذاكرة إلى مئات الشخصيات التي وردت في أدبيات التاريخ والجغرافيا والرحلات، وما قامت به من محاولات، وما مر بها من تجارب، وما رافق ذلك من نتائج كان لبعضها أثر كبير في تبديل مصائر، وإقامة دول وانتشار أفكار وفلسفات وأديان، إن قضية الهرب من مكان إلى مكان ومن بيئة إلى أخرى تجربة لا يكاد يخلو منها تراث وفولكلور وتاريخ كل الشعوب في العالم .

يقول الشاعر العربي الشنفرى:

وفي الأرض مَنْأىً، للكريم، عن الأذى

وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ

سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولذلك فإننا نستقبل التحليل الذي قدمه الرائي الحكيم بكثير من الاهتمام وبكثير من التمعن والتمحيص . وسنجد أن معاناة السياسي أحد أبطال الرواية الرئيسيين، وقراره البقاء في فرنسا وعدم العودة إلى بغداد قرارا صائبا وفق السياقات التي وردت عبر أحداث الرواية، وما حفلت به من ممكنات إيجابية وسلبية، ومن توقعات يمكن لأي منها أن تكون واقعا حقيقيا مباشرا . ولذلك سينتظر السياسي في باريس ويستقر فيها مع عائلته لاجئا سياسيا حتى انهيار النظام بعد الإحتلال الأمريكي وانفتاح البلد على مصراعية دون رقيب او حسيب . وبذلك يكون الهروب قد حقق على الأقل سلامة السياسي التي ربما كانت معرضة للخطر، ولكنها ربما تكون أيضا وهما من أوهام الخيال .

إشكالية القوة:

في الفصل الثامن يعود الرائي البصير ليطل علينا مرة أخرى ولكن هذه المرة في منتصف الفصل ليطلق جملة من الإضاءات الحكيمة، ولكنه هذه المرة يتناول قضية (القوة) سواء أكانت القوة التي تفرضها الدول الكبيرة القوية المتطورة على الشعوب والدول الضعيفة العاجزة عن الدفاع عن نفسها، أم قوة الجماعات البشرية غير المنظبطة الأكبر ضد الجماعات الأصغر، أم أي قوة أخرى حتى تلك القوة التي تستخدم للدفاع عن الشرف او الوطن او المبادئ الأنسانية، ويفند خصوصا إدعاءات القوة الغاشمة التي تمنح لنفسها صفات القوة المبصرة أو القوة الخيرة، ويؤكد أن كل تلك المجاميع من أصحاب القوة إنما يدافعون في النهاية عن مصالحهم، وأن القوة في النهاية لا تقذف الحلوى إنما تقذف الرصاص الذي يجلب الموت وأن شرط القوة هو العمى، يقول الراوي الحكيم:

(هل ثمة قوة مبصرة وأخـرى عميـاء؟

شرط القوة العمى

ويخطئ من يظن أن ثمة قوة خيرة تنقاد إلى المبادئ والقيم ..

القوة الساكنة شيء

والقوة المتحركة أو المنطلقة شيء آخر تماما ..

فلا وجود لدبابة تقذف الحلوى ..

كل دبابات العالم وطائراته إذا ما انطلقت فإنها لا تستهدف سوى الموت، أما محاولات التجميل والبحث عن الذرائع فإنها مطعونة بالجهل إذا ما افترضنا حسن النية ..

قد يقاتل الإنسان دفاعا عن شرف أو كرامة أو وطن أو قضية، لكن رصاص هذا الإنسان أعمى أيضا، فالطلقة لا تجيد التفكير، إنها تجيد الاختراق لا غير ..

فإذا ما تمت الموافقة على اعتبار الدفاع عن القيم السابقة ذا مشروعية يثلمها عمى الرصاص، فكيف يمكن تصنيف رصاص السراق ورجال العصابات والعدوانيين والمحتلين؟

إنه أعمى ينطلق من قاعدة عمياء ..

وتكرار العمى يؤكد ولا ينقض ..

طريقة واحدة يمكن أن تخفف درجة العمى أو تلغيها، هي أن تتوافر إمكانية صنع رصاصة تميز بين جسد الطفل والمرأة .. جسد البريء والمذنب.. الشريف والمحتال .. المناضـل والدجال ..

ولأن المحاكم تفشل أحيانا في إصدار أحكامها برغم كل ما تمتلك من وسائل التدقيق والزمن المطلوب، فإن من المستحيل الوصول يوما إلى طلقة حكيمة تجيد التفكير، وتنجح في إطلاق الأحكام وتسدد في الاتجاه الصحيح ..)... وهذه دعوة حقيقية كبيرة غير مباشرة إلى السلام في العالم يطلقها الكاتب في ثنايا التأمل، دعوة لتحقيق ما بعد السلام أيضا من عدل وحرية سيكون شرف للرواية أن تكون من حاملي رايتها .

خاتمة:

في عالم تسوده الحماقة والغباء واللاإنسانية، وتسيطر عليه قوى الجهل والعتمة والضياع، تقوم دوائر البغي والعدوان والهمجية والعشوائية، باستغلال الظروف والأحداث، وتهيئ لنفسها المجالات الحيوية التي تلبي طموحاتها، ومصالحها الذاتية، وهي بذلك تعلي من شأن الفوضى والعبث والقتل المجاني والسيطرة على مقدرات الأمور، وأمام مثل هذا الوضع المأساوي الخطير لابد من وجود أصوات عاقلة حكيمة تؤشر مكامن الإنهيارات والتصدعات وتكشف ما خفي من حلقات التخطيط والتنفيذ، وتستنتج من كل ذلك مقترحات إشارية لا مباشرة، تقترب كثرا من حالات التأمل الفلسفي والفكري الذي يجد صداه في النفوس البشرية النظيفة، ولكي تتعامل مع مراكز التلقي الإنساني والإستجابات الواعية لدى الآخر، ثم تودعه في أكثر القوالب الفنية قدرة على الوصول به إلى الإبداع الأدبي، ذلك ما فعله الروائي أمجد توفيق في روايته (الظلال الطويلة) التي لم تكشف فقط عن الأحساس الكبير والواقع المأساوي بالفقد العظيم لوطن هو أصل التاريخ المدني كله، إنما ايضا الفقد العظيم لكل القيم الثقافية والحضارية التي سطرت على طين شواطئه بقصب أهواره وأنهاره .

الرواية تستخلص الحكمة من الحدث، وتحلل القوة الغاشمة إلى نوازعها البشرية الأولى، وتفكك رغبة الإنسان بالهروب من واقعه إلى واقع آخر حفاظا فطريا على حياته وأمنه وحنان أبنائه وأطفاله . كما تؤسطر (الموت المفهوم)، المؤسطر أصلا ب (الموت الواقع)، ليقوم الموت بتشييد الحياة، ولينسجم مع أكبر حالات وقصص التضحية في التاريخ، بما يؤمن به الأنسان، وافتدائه القيم والمثل إبتداء من قصة هابيل وقابيل وحتى الان . وها هو أخيرا يؤنسن المدينة ويمنحها حياة دافقة عبر حياة أبنائها وعبر الحيوات المعبر عنها بمسيرة التاريخ والفن والثقافة، الذي يجدد أشجارها وماءها ويصقل سماءها من جديد، المدن لا تموت إذن ولكنها تبقى حية في ضمير نفسها، وضمير صيرورتها المتواصلة، وفي ضمير ترابها الذي يتشكل كل مرة أيقونات وأهلة ومدادا .

 

 أمجد محمد سعيد - القاهرة

في المثقف اليوم