قراءات نقدية

النبوغ الأدبي والفني في إشبيلية إبان القرن الخامس الهجري.. قراءة في السياق التاريخي والحركة الأدبية

alwarth alhasanمن المتعارف عليه لدى المهتمين بالفكر الأندلسي، أن القرن الخامس الهجري، يمثل الذروة على مستوى النشاط الثقافي، حيث نهضت العلوم والآداب، نهضة بلغت أقصى درجات الازدهار في تاريخ الأندلس الإسلامي، على الرغم مما شهدته بلاد الأندلس في هذا القرن، من تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل، وإلى ذلك أشار صاحب المعجب بقوله: «إن عامة الفضلاء من أهل كل شأن منسوبون إليها معدودن منها، فهي مطلع شموس العلوم، وأقمارها، ومركز الفضائل وقطب مدارها»(1).

وقد استطاع بنو عباد أن يجمعوا في دولتهم بين الزعامة السياسية والزعامة الأدبية . ذلك أن إشبيلية أصبحت في عهدهم، قطب الحركة الأدبية ومركز إشعاع شعري، ومستودع تراث الأندلس القومي والسياسي، وملجأ معظم الأسر الأندلسية العريقة، الذين نبغ منهم عدد كبير من الشعراء والأدباء.

ومن تم، تعددت مظاهر نشاط الحركة الأدبية في إشبيلية واتسعت رقعة الإبداع الشعري، بانتشار المجالس الأدبية من جهة، وإقبال أهل إشبيلية على قرض الشعر بمختلف طبقاتهم الاجتماعية من جهة ثانية، وكذا دخول كثير من الدواوين الشعرية المشرقية إلى الأندلس فضلا عن ظهور العديد من المؤلفات والكتب التي بدأت تتخصص في جمع الأدب الأندلسي، شعره ونثره من جهة ثالثة، بالإضافة طبعا إلى تشجيع أمراء بني عباد للشعر والشعراء.

و المتتبع لسير هؤلاء الملوك يلمس ولاشك هذا الاهتمام واضحا، حيث روي أن ظهور بني عباد في إشبيلية لم يكن حدا فاصلا لرواج الأدب وازدهاره . بل على العكس من ذلك تماما، إذ لاقى الأدباء والشعراء في عهدهم كل رعاية وعطف . ويبدو أن بني عباد هم أولى ملوك الطوائف الذين اشتهروا بذلك، حيث كانوا هم أنفسهم شعراء وكان بلاطهم منتدى الأدب في عصرهم (2).

هكذا، كان القاضي ابن عباد، محبا للعلم مؤثرا للأدب، مفرطا في إكرام من ينتسب إليهما . فقد جاء في البيان المغرب على لسان الحميدي، قوله: «كان أبو عمرو صاحب إشبيلية من أهل الأدب البارع والشعر الرائع، وقد رأيت له سفرا صغيرا، في نحو ستين ورقة من شعر نفسه، ومنه قوله:

كأنما ياسميننا الغض*** كواكب في السماء تبيض

و الطرق الحمر في جوانبه*** كخد عذراء مسه عض....»(3).

و هذا المعتضد، «يجعل يوما من أيام الأسبوع –الإثنين – للشعراء، يفدون به عليه، فيطارحهم الشعر ويستمع إليهم ويجيز السابق بينهم ويشحذ همهم للنظم »(4).ويحدثنا ابن بسام من جهته، عن صورته وأدبه، فيقول: «كان عباد أوتي من جمال الصورة، وتمام الخلقة وفخامة الهيئة وبساطة البنان وثقوب الذهن ...و صدق الحس ما فاق به على نظرائه، ونظر مع ذلك في الآداب قبل ميل الهوى به إلى السلطان، أدنى نظر بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علتها من غير تعهدها، ولا إمعان في غمارها ولاإكثار من مطالعتها ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته نتيجتها على ذلك ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة، في معان أمدته بها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة والباطنة إلى وجود كف بارى بها السحاب »(5). ورغم قساوة المعتضد بالله في الأخذ بزمام الأمور، فقد كان لأهل الأدب الذين وفدوا عليه، وقربوا إليه العناية الكبيرة، وله في ذلك الوقائع المشهورة، منها ما ورد في البيان المغرب، إذ قيل: « وكان لأهل الأدب عنده سوق نافعة وله في ذلك همة عالية، ألف له الأعلم الشنتمري،أديب عصره ولغوي زمانه، شرح الأشعار الستة الجاهليين، وشرح الحماسة، وألف له غيره دواوين وتصانيف لم تخرج إلى الناس »(6).

و مما يروى عن محبة المعتمد للشعر والشعراء، قصة رويت حين فشل ابنه المعتمد في احتلال مالقة، مفادها: عندما خاب ضن المعتمد في ضم مالقة لإمارة بني عباد،أمر المعتضد « باعتقاله في رندة فأخذ يرسل إليه القصائد بمدح فيها كرهه ويلتمس عفوه ويستميل قلبه ويطلب رضاه، ويهون عليه الخسارة بالإشارة بسابق انتصاراته وباهر فتوحاته . وحاول أن يبرىء نفسه ويلقي عبء اللوم على البربر الخونة . ووصف ما انتابه من الحزن لإخفاق الحملة وما ألم به من الكرب وأنه قد أصبح زاهدا في كل متع الدنيا، ولا يرجو شيئا سوى عفو والده . وقال في أولى هذه القصائد التي استعطف بها أباه:

سكن فؤادك لاتذهب بك الفكر*** ماذا يعيد عليك البث والحذر

وازجر جوفك لا ترض البكاء لها***واصبر فقذ كنت عند الخطب تصطبر

و إن يكن قدر قد عاق عن وطر*** فلا مرد لما يأتي به القدر

و إن تكن خيبة في الدهر واحدة*** فكم غزوت ومن أشياعك الظفر

إن كنت في حيرة من جرم مجترم*** فإن عذرك في ظلمائها قمر

كم زفر في شغاف القلب صاعدة*** وعبرة من شؤون الدهر تنحدر

فوض إلى الله فيما أنت خائفه*** وثق بمعتضد لله يغتفر

واصبر فإنك من قوم ذوي جلد*** إذا أصابتهم مكروهة صبروا

من مثل قومك من مثل الهمام أبى*** عمرو أبيك له مجد ومفتخر

إلى أن يقول:

لم يأت عبدك ذنبا يستحق به***عتبا وها هو ناداك يعتذر

ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل***وفي لهم عهدك المعهود إذ غدروا

رضاك راحة نفسي لافجعت به*** فهو العتاد الذي للدهر يدخر

وعندما وصلت المعتضد هذه الأبيات، عفا عنه وأطلق سراحه، لأنه كان ممن يهزهم الضعر ويؤثر في نفوسهم »(7).

وحين ولي المعتمد عرش بني عباد، بز أباه في مضمار الشعر، حتى أصبح بلاطه مركز الحركة الأدبية في إشبيلية، فتسابق الأدباء إليه وتهافت الشعراء عليه (8) . وفي هذا الصدد، كتب صاحب المعجب: « واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان مقتصرا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به، وينضم إليه »(9).و غير عجيب أن يكثر وفود الشعراء على قصر المعتمد فهو، « ملك كريم وشاعر مطبوع »(10)، جمع صفات العطاء والجود والشجاعة إلى صفات الأدب والعلم بفنونه . ومن تم، كتب ابن بسام: « ... وكان مع اشتغاله بالحرب وسعة مجاله بين الطعن والضرب ... متمسكا من الأدب بسبب، وضاربا في العلم بسهم وله شعر، كما انشق الكمام عن الزهر لو صدر مثله عمن جعل الشعر صناعة واتخذ بضاعة، لكان رائعا معجبا، ونادرا مستغربا، فما ظنك برجل لا يجد إلا راثيا ولا يجيد إلا عاتبا . وهو مع ذلك يرمي فيصيب ويهمي فيصوب »(11).

و مما يروى عن المعتمد: « أنه أول ما تعرف إلى امرأته " اعتماد " الشهيرة بالرميكية، كان عن طريق الأدب . فقد زعموا أن المعتمد ركب في النهر ومعه ابن عمار وزيره، وقد زردت الريح بالنهر . فقال ابن عباد لابن عمار أجز: صنع الريح من النهر زرد

فأطال ابن عمار الفكرة، فقالت امرأة من الغسالات: أي درع لقتال لو جمد

فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به، مع عجز ابن عمار، ونظر إليها، فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته، فسألها: أذات زوج هي ؟، فقالت: لا . فتزوجها، وولدت له أولاده الملوك النجباء »(12).

وكان المعتمد مع فرط حبه لاعتماد، ما يزال يخصها بأروع القصائد وأعذب الألحان .وقد أرسل إليها مرة، هذه الأبيات التي يتضمن الحرف الأول في كل بيت منها حرف من حروف اسمها، ومنها:

أغائبة الشخص عن ناظري*** وحاضرة في صميم الفؤاد

عليك سلام بقدر الشجو*** ن ودمع الشؤون وقدر السهاد

تملكت مني صعب المرا*** م وصادفت ودي سهل القياد

مرادي لقياك في كل حين*** فياليت أني أعطي مرادي

أقيمي على العهد ما بيننا*** ولا تستحيلي لطول البعاد

دسست إسمك الحلو في طيه*** وألفت فيه حروف اعتماد(13).

هكذا، كان شعر المعتمد صورة صادقة للشاعر الأندلسي، وأن حب هذا الأخير للشعر والأدب، كان حبا خالصا وذوقا شعريا بعيدا عن أي مظهر من مظاهر التباهي والتفاخر . ولهذا لا نعجب، أن نرى بلاطه قد أصبح ملتقى الشعراء، وناديا يتباهى فيه كل شاعر بما جادت به قريحته من قصائد .

نعم، لقد كان المعتمد من الحكام القلائل الذين وضعوا للشعراء ديوانا يرزقون منه، وكان له مجلس أسبوعي في فترات تواجده في القصر، يجتمع فيه بالشعراء والأدباء، أمثال: ابن زيدون وابن وهبون وابن حمديس وابن عمار ز غيرهم كثير . وكانت المناظرات تجري بينهم في إطار المنافسة الشعرية والصراع على اللقب . وكان المعتمد في بعض الأوقات يتولى بنفسه إجازة ما يسمع من الشعر.

ذلك أننا لا نتصور أن تكون حياته كلها عمل واهتمام بتسيير شؤون الإمارة، « لكنه كسائر البشر هو وحاشيته من الوزراء وكبار رجالات الدولة يحتاجون إلى ساعات للترفيه وإمتاع النفس »(14). و الأخبار على ذلك كثيرة ومتعددة . ودليل قولنا هذا، هو ما أوردته بعض كتب التراجم، في مقدمتها: نفح الطيب، والبيان المغرب وغيرهما من أنباء تخص مجالس اللهو التي كانت تعقد في حضرة المعتمد بن عباد . ففي إحدى المرات جلس المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار بعض الطرائف الملوكية فيه . وكان في جملة تلك الطرائف تمثال جمل من البلور، وله عينان ياقوتيتان، وقد حلي بنفائس الدر، وكان حاضر هذا المجلس، الشاعر أبو العرب الصقلي، وأنشد المعتمد قصيدة، فأمر له المعتمد بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة، وطمعت عين أبي العرب إلى تمثال الجمل، فقال معرضا بذلك: ما يحمل هذه الصلة إلا جمل . فقال به المعتمد: خذ هذا الجمل فإنه حمال أثقال (15). فارتجل أبو العرب شعرا، يقول فيه:

أهديتني جملا جونا شفعت به*** حملا من الفضة البيضاء لو حملا

نتاج جودك في أعطاف مكرمة*** لاقد تصرف من منع ولا عقلا

فأعجب لشأني فشأني كل عجب***رفهتني فحملت الحمل والجملا(16).

 أزورهم وسواء الليل يشفع لي***وأنثتتني وبياض الصبح يغرى بي

وروي أيضا، أن تلك المجالس لم تكن تخلو من مباحثات أدبية ونقدية، وتناولت تلك الأحاديث مرة قول المتنبي الذي كان يعجب النقاد القدامى إلى حد أن قالوا عنه، إنه أمير شعره، وهو قوله:

فقال المعتمد: ما قصر المتنبي في مقابلة كل لفظة بضدها، إلا أن فيه نقدا خفيا ففكروا فيه. فأخذ الحاضرون وهم من علية الشعراء والأدباء يفكرون في البيت ويجيلون فيه بصيرتهم الناقدة وأطالوا الفكر، ولكنهم لم يفطنوا إلى ما لاحظه المعتمد، فقالوا له مقرين بعجزهم: ما وقفنا على شيئ. فقال المعتمد: الليل لا يطابق إلا بالنهار، ولا يطابق بالصبح لأن الليل كلي والصبح جزئي . فتعجب الحاضرون وأثنوا على تدقيق انتقاده (17).

هكذا، نرى أن المعتمد، قد ساهم برعايته في إثراء العمل الشعري والفني، حتى ارتقى به إلى المرتبة اللائقة به . ومن تم، تهيأت لأهل إشبيلية، « أسباب الشعر، وتوافرت لديهم دواعيه، فطبعوا على الشغف به، وانبسطت ألسنتهم بقوله، حتى قل أن تجد منهم من ألم بطرف من الآداب ولم يقل شعرا »(18).

وقد كانت لطبيعة إشبيلية الفاتنة، أثر ولاشك، في طبعهم على هذه الشيمة، حتى لم تحل مدينة أو قرية من مدن أو قرى الإمارة من شاعر مجيد أو كاتب حاذق . ويمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

*- ابن زيدون (394 ه- 463ه): هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون، ولد بالرصافة، وسكن إشبيلية وتوفي بها . كان وزيرا وشاعرا، اشتهر شعره بولادة بنت المستكفي التي كان لها أثر عظيم في فنه وحياته الشعرية . وكان له بين الأمراء منزلة عالية لمواهبه الأدبية ومعرفته بأحوال المسلمين في الأندلس(19).

*- عبد الجليل بن وهبون: هو أبو محمد الملقب بالدمعة المرسي، وهو من فحول شعراء إشبيلية، الذين وفدوا على المعتمد وغشوا ساحته (20).

*- ابن اللبانة ( ت507 ه): هو أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة . كان المعتمد يميزه بالتقريب ويستحسن شعره . وقد عد من شعراء إشبيلية الكبار (21) .

*- ابن حمديس (447 ه- 527ه):وهو من الشعراء الذين رحلوا إلى إشبيلية ولزموا ديوان قصر المعتمد (22) .

*- ابن مرزقان الإشبيلي: وهو أحد الشعراء الذين استظلوا برعاية المعتمد بن عباد، وأثروا مجالسه الأدبية (23) .

*- أبو الوليد البطليوسي: والمشهور بالنحلي، وهو من علية الشعراء الذين وفدوا على المعتمد، وكان من أبرز شعراء زمانه (24) .

*- أبو العرب الصقلي: وهو من جلساء المعتمد في بلاطه، ومن الشعراء الذين اشتهروا بإخلاصهم التام للأسرة العبادية (25) .

*- ابن مسلمة: (ت 441 ه): وهو من الشعراء الأرستقراطيين الذين ظلوا بعيدين عن الحكم ومشاغله، حيث اعتزل الحياة العامة وانطوى على رسم عالمه الخاص، وهو عالم مليء بالجمال والنساء والحسان والغلمان والحدائق والزهور والكأس والخمر (26) .

*- ابن عمار : (ت 478 ه): والملقب بشاعر البلاط المتكسب . وقد كان دون شك، أسطع وجوه الأدب الأندلسي وأطولهم باعا، في نظم القريض وأكثر الشعراء الإشبيليين شهرة في المشرق والمغرب(27).

*- ابن الأبار: (كان حيا سنة 430 ه): وهو من أبرز شعراء هذه الفترة . وقد ازدهر نشاطه الشعري في عهد المعتضد بن عباد (28) .

*- ابن عامر الحميري: (ت 440 ه): وهو من الشعراء الذين نجحوا في تثبيت أقدامهم في بلاط القاضي ابن قاسم بن عباد . وتتمثل في قصائده الجدة والحداثة وتظهر فيها بيئة إشبيلية وطبيعتها الخلابة وتتجلى في أباياتها الصفة الأندلسية (29) .

و منهم أيضا، ابن باجة السرقسطي (ت 533 ه)، ابن عبد الصمد وابن القصيرة والمعري ومحمد بن عبد العزيز المعلم وعلي بن حصن الإشبيلي وغيرهم .

و إلى جانب هؤلاء الشعراء، فقد نبغ في إشبيلية إبان بني عباد عدة شاعرات، كان منهن طبقة من المحسنات البارعات، كالعبادية جارية المعتضد واعتماد زوج المعتمد الشهيرة بالرميكية وبثينة بنت المعتمد وغيرهن ... وكن جميعا موصوفات بجمال القد وحسن القول (30) .

وقد برع هؤلاء الشعراء، رجالا ونساء في الأغراض الشعرية المعروفة، من مدح ووصف وغزل وهجاء وما إلى ذلك ... وإذا ألقينا نظرة ولو موجزة على ما قيل من قصائد في هذا الشأن، فإننا نجد بأن الشاعر الأندلسي عموما،، « لم يشذوا بوجه عام، عن القواعد والأساليب التي اتبعها المشارقة في أشعارهم »(31)، رغم محاولاتهم الابتكار والتجديد .

ولقد كان لهم مع ذلك، الفضل في التخلص من الأوزان التقليدية باختيارهم الموشحات(32) واستعمالهم اللهجتين في لون جديد من ألوان الشعر المعروف بالزجل (33) .

و مما لاشك فيه، أن لحياة اللهو والمجون ولانتشار الشمر والبغاء في الأندلس خلال هذه الحقبة الزمنية، أثرا في اختراع هذا الفن وظهوره في هذه الأرض ذات الطبيعة الوارفة الظلال والبساتين المترامية الأطراف والحدائق الخلابة (34) .

و مما لاشك فيه، أن لحياة اللهو والمجون ولانتشار الشمر والبغاء في الأندلس خلال هذه الحقبة الزمنية، أثرا في اختراع هذا الفن وظهوره في هذه الأرض ذات الطبيعة الوارفة الظلال والبساتين المترامية الأطراف والحدائق الخلابة (35) .

من جانب آخر، فقد أخذت الحياة الأدبية والثقافية بصفة عامة إبان مملكة بني عباد، شكلا تنظيميا في جميع المحافظات التابعة لإمارة إشبيلية، فاعتني بالكتب وبذل فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائن الدولة العبادية . وقد كانت هذه الكتب تحوي جميع التخصصات في العلوم القديمة والحديثة على السواء، منها كتب الشروح الشعرية . وفي هذا الإطار، شجع بنو عباد حركة شرح الأشعار المشرقية، فعكف الأدباء على شرحها وتبسيطها، والتعليق عليها، لتكون سهلة بين أيدي المتعلمين، وكان النصيب الأكبر من هذه الشروح للشعر القديم .فعرف عن المعتضد، أنه كان من المعجبين به فاستهواه الشعر الجاهلي، ولهذا كلف الأعلم الشنتمري بجمع وشرح أشعار الستة الجاهليين وشعر الحماسة . في المقابل، أعجب المعتمد بشعر أبي تمام وأمر الأعلم أيضا بشرحه واستنساخه .

و مما ساعد على ازدهار حركة التأليف في إشبيلية وقرطبة في هذه الحقبة أيضا، هو استمرار التشجيع على التأليف من العباديين، فاتسعت حركة جمع أشعار الأندلسيين التي بدأت في الفترة السابقة، ومن تلك المؤلفات نذكر:كتاب التشبيهات للكتاني (ت 420 ه) وكتاب أخبار شعراء الأندلس لعبادة بن ماء السماء (ت 421 ه) وكتاب الفرائد في التشبيه لعلي بن محمد بن أبي الحسين (ت 420ه) وكتاب حانوت عطار لأبي عامر بن شهيد (ت 426 ه)و كتاب شعر الغزل للشطريجين(ت 430ه) وكتاب الارتياح في وصف الراح لمحمد بن مسلمة، وكتاب البديع للحميري (ت 440ه) .

و كان للأحداث والتقلبات السياسية والاجتماعية التي شهدتها الأندلس في هذه الحقبة التاريخية أثرها ولاشك، على الأدب والأدباء ن حيث ظهر ما سمي بأدب النكبات وهو « أدب يرثي الأمة الإسلامية في الأندلس ومدنها التي تتساقط الواحدة تلو الأخرى، ويدعو إلى استثارة الهمم لتوحيد الصفوف ومواجهة الخطر المحدق بالبلاد »(36) .

و ممن نبغ في هذا الفن الأدبي، أبو حفص الهوزي (37)، الذي كتب رسالة إلى المعتضد بن عباد بعد نكبة بربشتر، يحثه فيها على الجهاد . ومنهم أيضا: ابن عسال الذي رثى بربشتر بعد سقوطها بيد المسيحيين، سنة 456 ه (38) .

هكذا، يتضح لنا من كل ما سبق، أن الأدب العربي في إشبيلية، قد بلغ أوج ذروته في عهد بني عباد، خاصة أيام المعتمد . ورغم أنه لم يستطع أن يتخلى عن أثر المشرق، فقد كانت الموشحات والزجل أظهر طابع امتاز به شعر الأندلس خلال هذه الحقبة، والذي نتج عن خصائص الحياة الجديدة في المجتمع الأندلسي.

 

د. الوارث الحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية والتربوية

.........................

الهوامش:

1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب،(المراكشي) عبد الواحد بن علي، ص: 242. تح: محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، ط: 7، 1978م.

2- في الأدب الأندلسي، جودت الركابي، ص:92، دار المعارف بمصر، (د. ط)، (د. ت).

3- االمعجب في تلخيص أخبار المغرب،(المراكشي) عبد الواحد بن علي، ص: 242.

4 –في الأدب الأندلسي، ص: 92.

5- المعجب في تلخيص أخبار المغرب،(المراكشي) عبد الواحد بن علي، ص: 79

6- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، (ابن عذارى المراكشي) محمد بن محمد، 1/ 284، تح: ج. س. كولان وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط: 2، 1980م.

7- المعتمد بن عباد، علي أدهم، ص: 80- 84، وزارة الثاقفة والإرشاد الأردني، (د. ط)، (د. ت).

8- في الأدب الأندلسي، ص: 92.

9- المعجب، ص: 189- 190

10- المعتمد بن عباد، علي أدهم، ص: 113 .

11- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام،1/ 41- 42 (ت: 542ه)، تح: إحسان عباس، الدار العربية للكتاب، ليبيا، (د. ط)، (د. ت).

12- في الأدب الأندلسي، ص: 92

13 - المعتمد بن عباد، علي أدهم، ص: 104- 105

14 – الشعر في قرطبة، محمد سعيد محمد، 1/80، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، جامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب(مرقونة). 15 – راجع: نفح الطيب، 5/393 . المعتمد،ص: 126.

16 – راجع: المعتمد بن عباد، علي أدهم، ص: 126.

17 – راجع: المرجع نفسه،ص 127.

18 – في الأدب الأندلسي، ص: 63

19 – راجع: الذخيرة، 1/369، المعتمد، ص: 113.

20 – راجع: المرجع نفسه، ص: 118

21 – راجع: المرجع نفسه، ص: 121

22 – راجع: المرجع نفسه، ص:122- 123

23 – راجع: نفح الطيب، 5/393

24 – راجع: المصدر نفسه

25 – راجع: المرجع نفسه، ص: 126

26 – راجع: إشبيلية في القرن الخامس الهجري، دراسة أدبية تاريخية، لنشوء دولة بني عباد في إشبيلية وتطور الحياة الأدبية فيها، صلاح خالص، ص: 153، دار الثقافة بيروت، لبنان، (د. ط)، 1965م

27 – راجع: المعتمد، ص: 151، 178 . الذخيرة 2/74 .

28 – راجع: إشبيلية في القرن الخامس الهجري، ص: 164

29 – راجع: الذخيرة 2/74 .

30 – راجع أخبار هؤلاء الشاعرات في نفح الطيب، فصل الأديبات من نساء.

31 – في الأدب الأندلسي، ص: 114

32 – راجع: المرجع نفسه، ص: 293

33 – راجع:، ملك إشبيلية، الشاعر المعتمد بن عباد، رضا السوسي، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس، ص: 42 .

34 – راجع: في الأدب الأندلسي، ص: 85- 86 . ملك إشبيلية،، ص: 42

35 – وردت أسماء هذه المؤلفات في: تاريخ علماء الأندلس لابن الفرض وجذوة المقتبس للحميدي والصلة لابن بشكوال .

36 – ابن زيدون وابن عمار والمعتمد بن عباد، شعراء منكوبون بالأندلس في القرن الهجري الخامس، دراسة تاريخية وأدبية، لي جونغ هوا ص: 124، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمد الخامس، الرباط، (مرقونة).

37 – راجع: الذخيرة، 1/ 81- 94.

38 – راجع: ابن زيدون وابن عمار والمعتمد بن عباد، ص: 124 .

 

في المثقف اليوم