قراءات نقدية

التشكيل السردي والدرامي في رسائل الحب للشاعر إسماعيل هموني

ridowan alrokbi(بما ان اللغة عمل فني للحقيقة، فليس هناك الا فن واحد يكون من صميم ماهيتها، هذا الفن هو الشعر: اللغة بهذا المعنى قصيد أولى سابق عن الشعر نفسه كشكل متحقق في القصيدة ذلك أن "الكلام في مادته الخام قصيد") هيدغر.

1- تقديم

الشعر غوص في أعماق الذات الإنسانية، واستنطاق لمكنوناتها الباطنية، فهو الحقيقة في أسمى تجلياتها وأبهى صورها، يأسرك ليسافر بك إلى عوالم خفية، بحثا عن المجهول الذي يسكننا. فالشعر بهذا المعنى هو القوة الأصلية بما هي ذات الحقيقة التي تصدر عن العمل الفني، وهي في نفس الوقت الهاجس الذي يسعى إلى التعبير عنه كطبيعة روحية. فهو بهذا المعنى لا يتحقق إلا بوصفه عملا شعريا، ما دامت القوة التي يصدر عنها هي روح الحقيقة ذاتها بما هي طبيعة شعرية، وما دامت غايته التعبيرية كحقيقة فنية، هي أن يصل إلى الإمساك بما يجعل من كل ممارسة فنية قولا شعريا. لا يهم عند هذا الحد أن تختلف الأساليب والممارسات الفنية وتتعدد، وإنما الذي يهم أن ما يشكل قوام الحقيقة لا يقال إلا على نحو شعر خالص.

تميز النص الشعري المعاصر بمشروعه الخاص به شكلا ومضمونا، وحملت بنيته جملة من الظواهر والخصائص، جعلته يتميز عما سبقه من المنجز الشعري القديم بالتفرد والاستقلالية، بيد أنه لم ينسلخ عن أصالته، فقد اقترض من الأنواع الخطابية الأخرى بعض سماتها، واستغلها لتكون معينا له في حركته التجديدية، وهنا نلحظ بعض الأعمال الشعرية المعاصر التي جنحت إلى تطعيم أعمالها ببعض التقنيات والبنيات السردية، في محاولة لتوسيع الأفق الدلالي للنص، وتجاوز عقدة الجنس الأدبي الصافي بقواعده والياته الصارمة، والتوجه نحو تحطيم النسق المنزه عن تداخل الأنماط الخطابية.

ورسائل الحب للشاعر إسماعيل هموني هي من هذا القبيل الشعري الذي استمد بعض أدواته التعبيرية من البناء السردي، فهو سنفونية شعرية تتراقص على إيقاعات التشكيل السردي واللغوي الدرامي والتصويري الذي يعكس حب الشاعر لللانساية في أبعادها المختلفة والمتعددة، وفي الوقت ذاته يتطلع إلى تقديم إشراقات تخرج هذا الكائن الإنساني من دوابيته وتوحشه، فالعشق هو البلسم الذي يضمد به الشاعر كل الجراحات التي تنزف، والمؤلف هو عبارة عن بنية حوارية تواصلية بين المرسل/ الشاعر والمخاطب/ اليك بصيغة المؤنث.. يوثت لفضاء تشكيلي يقوم على محددات البناء السردي والدرامي باعتبارهما تشكيلات فنية وتعبيرية تكشف عمق التجربة عند عبد السلام هموني، وتمده في الوقت ذاته بنفس جديد ينظاف الى اللغة الشعرية الرمزية المفعمة بالكثافة الانزياحية التصويرية.

يضع الشاعر اسماعيل هموني قارئه امام جدلية منفتحة على التأويلات والتساؤلات يثير فيه رغبة الاجتهاد والافتراض، والنبش في مقاصده، لذلك يكون اشتغاله الأبرز على ثنائية الحضور والغياب التي تلقي بتداعياتها على مختلف مكونات العمل الفني/ رسائل الحب. والتي تشكل مركزها ومنطلقها واشاراتها الضمنية. وهذا العمل سيحاول ان يكشف عن بعض معالم البناء السردي والدرامي وتشكلاتهما في رسائل الحب. فكيف وظفهما الشاعر عبد السلام هموني لرسم خصوصية كتابته الشعرية؟

2- عتبة العنوان

أول ما يثير قارئ أي كتاب هو عنوانه، لأنه يستجمع مختلف مكوناته، ويسعى ليكون دالا على مختلف عوالمه، ونجاح عنوان الكتاب لا يبرز فقط من خلال كونه يثير فضول القارئ إلى الحد الذي يجعله يقدم على الحصول عليه والشروع في قراءته، ولكن أيضا في دلالته العامة على ما يتضمنه من أبواب وفصول، وما تحمله من قضايا وأفكار تتطابق مع ما يوحي به أو يومئ إليه. ويعرف ليو هويك leo Hoekالعنوان على النحو التالي:" مجموعة من الأدلة ... التي يمكن أن تثبت في مقدمة نص لتعينه، وبيان محتواه الشامل، وإغراء الجمهور المستهدف."

بناء عليه يعد العنوان واحدا من اهم الوسائل الجمالية والدلالية في بناء النص من جهة، فهو يؤدي دورا فعالا في العملية الادبية ابداعا، اذ يحرص المبدع على الدقة في اختياره لادراكه حساسية ارتباطه بالنص، والاهمية التفاعلية بينهما، وبيانه لهوية النص، فهو: رسالة لغوية تعرف بتلك الهوية وتحدد مضمونها.. هو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه.[1] وبالعنوان تبدأ عملية التواصل مع متن العمل الأدبي، إذ يشكل مفتاح النص الدلالي الذي يستخدمه القارئ /الناقد مصباحا يضيء به المناطق المعتمة في القصيدة[2]

في مؤلف رسائل الحب لإسماعيل هموني، يشكل العنوان مفتاح الدلالة، وجسر التواصل مع مضامين المؤلف، ولا شك أن أهمية العنوان الاستثنائية تهيئ للباحث المزيد من كشف الدلالات المستترة في فهم جوهر العمل الأدبي. اسماعيل هموني يشير منذ البداية إلى طبيعة الموضوع المتناول في المؤلف و المرتبط بتيمة الحب والعشق بمفهومهما الواسع والمنفتح على كل التأويلات والانزياحات الدلالية، وهي رسائل مشفرة موجهة إلى مخاطبة (إليك انتِ).. قد يبدو من الوهلة الاولى انه يخاطب امرأة أو محبوبة محددة عنده، لكن كلما ربطنا العنوان بمضامين العناوين الفرعية للقصائد المشكلة للعمل الادبي، يتبين ان المخاطب يتجاوز كونه امرأة عادية الى أبعادها الرمزية التي تسكن الذات الشاعر، وتجعلها توجه هذه الرسائل في قالب صوفي تتحد فيه الذوات المتحاورة وتتواشج لرسم معالم التجربة الشعرية عند اسماعيل هموني.

وهذا العنوان ينطوي على ابعاد روحية بمفهومها الصوفي تعرج بك دلالتها الى معاني سامية، تكشف عمق التجربة عند الشاعر اسماعيل هموني. وشاعرنا في عنوان مؤلفه يمارس لعبة الايهام على المتلقي، وهي لعبة ومراوغة يبتغي من ورائها الشاعر تضليل المتلقي وجره الى الولوج الى اعماق النص وسبر لاغواره، لاكتشاف منطوقه الخفي الذي لا تتضح معالمه الا من خلال القراءة الكلية للمؤلف. وعلى الرغم من ان العنوان يؤسس لنص سردي، ليست الغاية منه سرد حكاية رسائل الشاعر، وانما تقديم رؤية شعرية ضمن نسق جمالي معقد، يوظف السردي والشعري، وينفتح على كل الخطابات الخرى، لان المبدع – ربما - يؤمن بعدم وجود جنس ادبي خالص مستقل.

معمارية النص في رسائل الحب:

 ان المتتبع لمسار تطور بنية القصيدة العربية يلمس جنوحا مستمرا نحو التنويع في تقديم انماطها وتطويرها حسب تجربة الشاعر وموقفه من الحياة والكون.. وحسب طبيعة القلق المعرفي والاسئلة الوجودية التي تقض مضجع الذات، فمعماريتها وشكلها الهندسي مرتبط بطبيعة الرؤيا الشعرية التي يسعى من خلالها الشاعر الى رسم معالم تجربته. والى تحقيق مشروعه الابداعي.. وبديهي كما يقول عز الدين اسماعيل ان يتعامل الشاعر الحديث مع القصيد تعاملا جديدا، يختلف عن الاطار التقليدي المالوف. فاذا كانت " وسائل التعبير الشعرية الاساسية ضرورة فرضها التطور العام في معنى الشعر ومهمة الشاعر، فكذلك كان اختلاف اطار القصيدة الجديدة عن الاطار القديم ضرورة يفرضها ذلك التطور"[3].

اذا كانت معمارية القصيدة التقليدية قد قامت على اسس واعتبارات فنية خاصة، بعضها يرجع الى مؤثرات طبيعية واجتماعية، وبعضها جاء نتيجة للوراثات والتقبلات والاستعدادات، وبعضها تضمنته طبيعة اللغة ذاتها. وقد تحالفت هذه المؤثرات جميعها لتخرج لنا الشعر العربي وفق نمط موحد وبناء خاص مخصوص، فان القصيدة الحداثية قد ارتبطت بمؤثرات فكرية واجتماعية ولغوية جديدة، افرزت نمطا شعريا جديدا لم يستطع بعد ان يقف- في نظرنا - على شكل واحد موحد، بل ربما وجدنا عند شعراء العصر الواحد تلوينات معمارية شعرية مختلفة، املتها طبيعة الرؤيا الشعرية عند كل واحد.

ومنذ الصفحات الاولى من رسائل الحب يتبين لك بان اسماعيل هموني قد اختار نمطا معماريا يختلف عن السائد والمالوف في التشكيل الشعري الجديد، وهو اختيار ليس اعتباطي، وانما نابع من قناعة فكرية وفنيه، قادت الشاعر الى تفريغ حمولاته وشحناته العاطفية ودفقاته الشعورية، في هذا القالب الفني الذي ارتضاه.. وهو قالب فني يجمع بين النفس الشعري و النفس النثري، اي بين البناء السردي ذو النفس الطويل والمنفتح، وبين الكثافة الشعرية التصويرية والرمزية. وكأن شاعرنا تجاذبته قوتان، قوة الشعر وجمالية اللغة، وقوة النثر وخصوصياته السردية والدرامية، فتمخض ذلك الكل وتشكل، ليلد لنا هذا المعمار الفني بخصوصياته الهمونية.

فالشاعر اسماعيل في معماريته الفنية لا يتم دورته الشعورية حتى يعود الى حيث بدأ، وانما هو ينتهي في القصيدة الى نهاية غير نهائية، انها نهاية ترتبط بالبداية عضويا، باعتبارها نهاية منفتحة على التاويلات كما في البناء القصصي المعاصر. وربما كان السر وراء هذا الاطار الجمالي المفتوح هو احساس شاعرنا بلا نهائية التجربة.

" فليس في وسع الانسان ان يتقطع من وجوده جزءا له صفة التفرد والاستقلال عن بقية اجزاء هذا الوجود، والنبش عما ولد في النفس شعوريا بعينه يغري بمزيد من النبش، وتكشف المجهول يغري باستكشاف ما وراءه"[4]

اكتب اليك؛

لان حصتي من الضوء تفاوضني عليها الفراشات؛

فامضي؛ عاريا،

الا من

مطر دافئ في مدائنك الساحرة.

وحدها؛

انفاسك تكفيني لاكون نبوءتك

القادمة...[5]

هنا تنفتح القسيدة بشكلها ونهايتها على تاويلات متعددة واللانهاية، تخلق نصا جديدا يرتبط في بنائه برمزية الضوء الذي تفاوض الفراشات الشاعر عليه، وهو يوجه رسالته الى المحبوبة/ اليك.. في معمارية وشكل هندسي هرمي يتجه في اتجاه شعوري ممتد في خط مستقيم، وقد يتعرج هذا الخط في شكل موجات متلاحقة، لياخذ طابع الامتداد اللانهائي. في هذا الشكل يظل الهيكل البنائي للقصيدة شعورا او مجموعة من المشاعر المتجانسة المتكاملة، انه يمثل وحدة شعورية تتكشف ابعادها في العمل الفني برمته عند عبد السلام هموني.

القصيدة عند الشاعر اسماعيل تسير في بنائها المعماري، نحو الاتجاه الدرامي الذي يستمد عناصره من القصة والرواية، وهذا ما يؤكد تداخل الاجناس الادبية وتكاملها، ويظهر جليا ان شاعرنا قد استفاد من تقنيات الكتابة السردية القديمة والمعاصرة، لرسم معالم تجربته الخاصة.

ومن نافلة القول ان نؤكد على ان العمل الادبي قد صار عملا شاقا، يحتشد له الشاعر بكل كيانه، حتى صارت القصيدة تشكيلا جديدا للوجود الانساني، ومزيجا مركبا ومعقدا من افاق هذا الوجود المختلفة، حتى صارت القصيدة بنية درامية بامتياز.

مفهوم البنية السردية في رسائل الحب:

ربط جيرار جنيت الشعر مع فن القص في معرض حديثه عن الاجناس الادبية، فتعين عنده ان يكون الشعر الغنائي هو ذات الشاعر، وفي الشعر الملحمي يتكلم الشاعر باسمه الخاص بوصفه راويا، ولكنه يجعل شخصياته تتكلم كذلك[6]..ان موضوع النص الشعري حسب جنيت هو ما يلحق الشاعر من وضع خاص او ما يلحق بالمجموعة البشرية التي يعيش معها من وضع عام، فيكون راويا منفردا كما يكون معه من يؤدي هذا الدور من الشخصيات..

نقل عن افلاطون قوله بأن الفخر أوفى أنموذج للقصيدة المصروفة الى السرد [7] كما نقل عن ارسطو ان الدرامي السامي يحدد الماساة، والسردي السامي يحدد الملحمة، اما الدرامي الوضيع فيناسب الملهاة[8].كما تحدث ارسطو كذلك عن الشعر الحامل للفعل السردي، مما ينفي ولو بصفة مؤقتة الزعم القاطع لاواصر التواشج بينهما، والامر قائم على اساس الحكي الذي يقوم على اساس الصراع بين شخصيات في زمان ومكان محددين، لتصانع الاحداث المشكلة لبنية الملهاة او الماساة، فيكون الاختلاف في الطريقة التي يعبر بها المتكلم عن موضوع ما بين الشعر الخالص او النثر الخالص. ان العلاقة بين الشعر والسرد في حال عدم تعيينها على هذا الوجه تكون محمولة على وجه اخر مفاده ان يكون الشعر اصلا لكل اشكال الكتابة الادبية، التي لا تعدوا ان تكون اساليب اقل بلاغة منه ويكون الناتج استقلال الشعر عن النثر، او يكون الثاني اقل رتبة من الاول، ويكون السرد عاملا مشتركا بينهما ومادة لهما معا.

في التجربة العربية يؤكد محمد مفتاح على ان كل نص شعري هو حكاية، اي رسالة تحكي صيرورة ذات، وربط هذه الفكرة بعوامل كريماس نظرا لدورها المهم في تشكيل بنية النص الشعري. كما ذهب كما ابو ديب الى ان بنية الشعر الجاهلي تحمل معاني السردية بمفهومها المعاصر، وراى بان القصيدة العربية القديمة تحمل زمنين احدهما للفعل والاخر للسرد.. كما بين ذلك في تحليله لقصيدة عنترة بن شداد. في حين ترى بشرى البستاني في تتبعها للبنى السردية في شعر نازك الملائكة، على ان حضور العناصر الحكائية ليس جديدا على الشعر، وانما هو متجدر في بنائه. وعلى كل حال ليس موضوعنا هو الخوض في وجود البناء السردي او عدمه في النص الشعري القديم، وانما اكتفينا بهذه الاشارات من بعض النقاد العرب والغربين التي سلطت الضوء على البنية السردية وما بدا منها مشكلا للخطاب الشعري.

ينطلق اسماعيل هموني من منطلق الاستفادة من بعض تقنيات السرد، على اعتبار أن السرد ليس سمة في القصة والرواية فقط، إنما هو سمة في الخطاب اللغوي بشكل عام، ونظام في الاداء اللغوي الذي يمكن أن نلمحه في أكثر من جنس ادبي، بيد ان استثماره في القصيدة ياتي عبر اشكال تختلف عن السرد الحكائي، وهذه التقنيات تميل بالنص الشعري الى النزعة الدرامية، اذ تتعدد الاصوات والشخصيات، ويظهر المتن الحكائي قاعدة اساسية يبني عليها الشاعر نصه، ويستمد منها افكاره ورؤاه، في سبيل كتابة ابداعية تنتج نصا شعريا نوعيا يكثف السرد الحكائي في بنية تناسب ضرورات الشعرية، من هنا تسهم البنى السردية في انجاز النص الشعري، لكنها لا تطغى عليه ولا تلغيه. وفي تتبعي لرسائل الحب وجدت بان عبد السلام هموني يوظف تقنيات السرد من خلال بعض اسسه: كالاسلوب الحواري، والاسلوب القصصي. (نكتفي هنا بهذه المكوانات السردية فقط، نظرا لضيق الوقت، والا فالديوان ينبني على مكونات اخرى كالتناص، والتجسيد...)

1- الاسلوب الحواري:

 يعتبر من اهم الاساليب الفنية التي وظفت في القول الشعري المعاصر[9]، الحوار، بما هو تواصل بين اصوات متخاطبة في النص الشعري، وقداحتفى به الشعر العربي الحديث باعتباره اداة تعبيرية درامية تسهم في نقل التجربة والموقف الشعريين. ولذلك فالحوار بمفهومه الدرامي ينتي بكليته الى عالم الفن، ولذلك لا يجوز الحكم عليه بمقاييس الحديث العادي، وهو لا يكسب صفة الدرامية اذا كان يفتقر الى الهدف، او الاثر الكلي، بمعنى انه ليس فيه وحدة عاطفية او فكرية تحكم الصراع الذي يصوره ذلك الحوار. والبنية الحوارية في رسائل الحب لم تكن عملا مستقلا عن باقي المكونات والتقنيات السردية والدرامية، وانما متفاعلة معها في علائق، باعتباره انحراف تعبيري يتيح للشاعر ان يعبر عن افكاره الداخلية وعواطفه بطريقة غير مباشرة، تعتمد التكثيف والتركيب والمجابهة الصوتية مع المتلقي/ المخاطب، فالحوار- خصوصا الداخلي- يتيح للمتلقي ان يسمع الصوت الخفي الذي يدور في اعماق الشاعر وهذا نوع من التجسيد او التجريد، فكاننا امام ذات اخرى غير ذات الشاعر، تحاةرنا من خلال الصوت الحواري، وكأن الافكار قد تلبست ثوب شخصية مفتعلة لتعلن عن نفسها في بوح مقصود.

يقول اسماعيل هموني، في نصه المفتاح/ قصيدة بياض الكلام. موجها اول رسالة من رسائل حبه الى مخاطبته، في حوار داخلي مع هذه الانا/ الاخر الذي يسكنه، وفي بوح شعري قوامه الحوار الداخلي الذي يعكس اعماق الذات الشاعرة:

وانت هناك في الطرف الاخر القصي من كفي. كاني اعدد خطوك من

غرفتك الى نافذتك؛ ترقبين حبات المطر. ترين بأم العين كيف تسقط

على أديم الارض، وانت ترين وقوفنا تحته في الشارع الكبير حتى تبللت اطراف وجعنا.[10]

ان هذا الوجع الذي يسكن الشاعر ومخاطبته، جعله يراها في طرف كفه القصي، يعدد خطوها وحركاتها في غرفتها وهي ترقب حبات المطر تتساقط على اديم الارض، وهنا نستحضر فكرة التطهير الارسطية او التطهير بمفهومه الصوفي، الذي ينقلك من عالم الدناسة الى عالم القداسة. هذه اللوحة الفنية التي رسمها الشاعر لمخاطبته، لا تعدو ان تكون حوارا داخليا يترجم طبيعة القلق المعرفي والاسئلة المؤجلة التي اختمرت في باطن الذات الشاعرة. لذلك سيبني قصيدته بياض الكلام على هذا البناء الحواري، باعتباره اداة تعبيرية قادرة على الكشف عن عمق الرؤية الشعرية والموقف الفكري والروحي والنفسي لاسماعيل هموني، الذي سيتلقى جواب المخاطبة في لحظة استرجاع لمسار الحكاية الشعرية:

حينها قلت لي: كم اراني طفلة تجري بين المطر واهداب عيونك.

لم اجبك سوى ببسمة عرفت سرها مباشرة في اعماقي.

 كنت تقولين لي:

كل بلاغتك في كفي، وكل تلافيف نبضك في وريدي اعرف منك

وعنك كل سكون او ثبوت في لحظة بياض الكلام.[11]

ان هذا البناء الحواري يكشف بعمق صوتان لذات الشاعر، احدهما هو صوته الخارجي العام، اي صوته الذي يخاطب به الاخرين، والاخر صوته الداخلي الخاص الذي لا يسمعه احد غيره، ولكنه يبزغ على سطح القريض من ان لاخر، وهذا الصوت الداخلي يبرز لنا كل الهواجس والخواطر والافكار المقابلة لما يدور في ظاهر الشعور او التفكير، وهذا ما يسعى اليه الشاعر ليغرينا بما يقول صوته الداخلي، ويقنعنا بفكرته الظاهرة، وبهذا تتحقق الغاية الدرامية من التعبير.

ان هذا التماهي من الشاعر الى حد الحلول في ذات مخاطبته، يذكرنا سرديا بطبيعة الرؤيا من فوق التي يكون فيها السارد عالما بكل جزئيات شخصياته، وتكون معرفته اكبر، اسماعيل الشاعر يغوص بك في عوالم البناء الحواري ليجعل صوته يختفي وراء شخصية محاوره. وقد ادى هذا اللون الحواري الواضح الى ميلاد اساليب جديدة في التعبير الدرامي او التعبير الشعري، لكشف حالات النفس وتدعيات الافكار والعواطف، والدخول الى عوالم التصوير الفني المتلبس بصدق العواطف وتجليات الروح، لينكشف عالم اللاوعي الخفي امام المتلقي المتشوق الى معرفة الباطن الخفي مما يكشف عن حالة سيكولوجية خفية، تستدعي قراءة من نوع جديد، تستحضر معها ذلك العمق الوجداني والصوت الخفي والدرامية المتلفعة بايقاعية رومانسية خفية، تتمظهر في تجليات المناجاة والتداعي.

علمتني فقه السهر؛ ووشوشة الليل وقلت لي:

الليل وان اتسع يضيق بالضجيج؛ لكنه مفتوح للعالمين على متن اذن

تسمع رهيف المطر..[12]

ان البعد الحواري عند اسماعيل هموني يتجاوز قواه الفاعلة/ الشخصيات الى مستوى محاورة اللغة، في ابعادها الجمالية والرمزية التي تكتنف عمق الابعاد التاويلية التي تاسر القارئ لرسائل الحب، وقصيدة المجاز درس في الانتباه، من القصائد التي تجاوزت المستوى الخطابي العادي الى مستوى اخر اكثر تعقيدا وجمالية، لانها/القصيدة؛ لا تمنحك نفسها بكل سهولة، وانما ترغمك على التودد والتوسل اليها. فالشاعر اسماعيل هموني لا يخفي عشقه للغة العربية، باعتبارها لغة الاجداد، ولغة تكشف عمق الامتداد في الزمان والمكان، وهي لغة تصله في حب صوفي بينه وبين محبوبه/الله ومنها يعرج على صهوة مجازها من مكان سجوده الى العالم العلوي، ليقتبس انواره وجماله وجلاله، وهو الذي ولد في لغة طيعة ترفل بالاطمئنان:

ولدت في لغة طيعة ترفل في الاطمئنان؛ ولا ترفع نسبها الى اقتلاع جذور

المعنى من يبس في الشك او السؤال.

فيها وجدتني اصلي لربي؛ اصنع ارادتي من يقين لا ينكسر.

ومنها فتقت المكان الذي يحلو لي ان اطيل فيه السجود.[13]

هذا الشغف للغة العربية ولمجازها، جعل الشاعر يسائل المجاز، فيتفاجا الشاعر بان المجاز يجيبه بنفس سؤاله، هو حوار يحمل هذا التوحد الصوفي بين الشاعر واللغة باعتبار بنائها الرمزي.

اسال: من المجاز؟ وهو يسال: من انت؟

ان هذا الحوار يجسد - كما اسلفنا بحق - طبيعة القلق الفلسفي والهم اللغوي الذي ينتاب الذات الشاعرة، انه امتداد لعمق القلق المعرفي الذي شغل الشاعر، ولا غرابة في ذلك وهو العاشق للغة ولمجازاتها، يبحر كالسندباد فوق امواج المجاز متسلحا بمجذاف التكوين العريق والعشق الصوفي بينه وبين العربية، حتى كانه صار مجازا يخيط اللغة، وهي التي تعاني ما تعانيه من تخلف اهلها.. يرفع عنها ما لحقها من لحن واعوجاج وضيم، يقول:

كاني صرت مجازا يخيط اللغة بماء الحلول، ويرفع الكلمات مسافات من

التاويل. اذ كلما احسست اني امشي رايت في النهر ينبوعك يفيض..

من داخل الكلام.[14]

ينبوع الحبيبة العاشقة، لا يظهر للشاعر الا من داخل الكلام، اي من دواخل اللغة في بناءاته التاويلية والانزياحية، لذلك يومن بان المجاز سيغير يوما على خيام القبيلة، ويدعو عاشقته للنظر في حاله، كيف فعل بهما المجاز وهما صغيرين:

اكتب اليك؛

ما فعل بي المجاز؛

في غروب الشمس؛

ونحن صغيرين في حقول المطر...[15]

واذا نحن وقفنا نتامل النسيج الفكري لرسائل الحب ألفينا امامنا الطبيعة الحوارية الداخلية التي تتحرك خلال الصورة في مجملها، فمنذ البداية تطالعنا الطبيعة الدرامية للحوارية التي تكسب الموقف ابعادا درامية تنجح في اثارة فضول المتلقي.

ان هذا الاسلوب الحواري الذي وظفه اسماعيل هموني، قد اضاف للموقف المراد التعبير عنه ابعادا لم تكن لتظهر لو اكتفى الشاعر بالحركة في اتجاه واحد، واكتفى من الواقعة بالاخبار عنها بشكل مباشر تقريري، ولكن تجسيم الموقف وتصوير المشاعر من خلال التوظيف الحواري، قد جعله بلا شك اكثر تاثيرا واقناعا وجمالية، انك لا تقرأ قصائد رسائل الحب حتى تجد نفسك تبحر مع الشاعر في مجازاته وحواراته، وتتعاطف معه حينا اخر وتتشوق للاستمتاع بحواراته مع العاشقة /اليك تارة احرى.

واذا تاملنا في العوامل الخفية التي تجعلنا مشدودين الى الكثير من القصائد الشعرية الحديثة، فسوف نجد اسلوب الحوار من اهم هذه العوامل. " والواقع ان شغف الشاعر بالتفكير والنظر الدرامي ، ثم رغبته في الاخلاص للتجربة، وحرصه على تجسيمها ربما كانت اهم العوامل التي دفعت الشاعر المعاصر الى استخدام هذا الاسلوب[16]. فمن خلال التجاذب والتلاقي والتنافر بين الاصوات المتحاورة، تتضح لنا ابعاد الموقف، وتنطبع في نفوسنا صورته، وهذا هو سر التاثير المتزايد لهذا الاسلوب الحواري في البناء الشعري المعاصر.

 2- الاسلوب القصصي

من الاساليب السردية الدرامية التي شاع استخدامها في التجربة الشعرية المعاصرة، الاسلوب القصصي، وهو اسلوب مالوف كذلك في الموروث الشعري العربي القديم كما عند امرؤ القيس او لبيد او غيرهما من شعراء العصر الجاهلي.. ونقصد بالاسلوب القصصي في الشعر هو استخادم الشاعر لبعض ادوات التعبير التي يستعيرها من السرديات، دون ان يكون هذفه هو كتابة قصة شعرية. والاسلوب القصصي المستخدم في الشعر العربي المعاصر لا يعدو ان يكون تطويرا عصريا لما كان يسمى في الدرس البلاغي القديم بالتمثيل، فقد جاءت القصة في الشعر لتؤدي نفس الدور البلاغي الذي كان يقوم به التمثيل في الشعر القديم.

فالقصة في الاستخدام الشعري، انما تقوم على اعتبارها وسيلة تعبيرية درامية، لا على انها قصة لها طرافتها واهيميتها في ذاتها، ومن اجل ذلك نجد اسماعيل هموني يوظفها من حيت كونها لمسة فنية دالة تاسرك وانت تبحر في عوالم الديوان الشعري، وتشدك بجمالية سبكها وحسن توظيفها، لا سيما وان شاعرنا اضفى عليها لمسته الشعرية. لنتامل مثلا القصائد : كأن العطش رائحة"، في نبوءة القرنفل، كأنه غبطتنا الفادحة.ان نام الصمت في كف الحياة.. وغيرها من قصائد الديوان، كلها توحي بهذا البعد القصصي، والنفس السردي، حتى اني لن اكون مغاليا اذا ادعيت بان هذا النفس القصصي قد هيمن على جل قصائد رسائل الحب، بشكل يجعل القارئ يحتار في شان تجنيس هذا العمل الماتع. هل هو من جنس الشعر، ام من جنس القصة؟.

واود ان اسجل ان البناء الشعري عند الشاعر اسماعيل هموني، الذي يستخدم القصة باعتبارها اداة تعبيرية موحية ومؤثرة، قد اكسبت الاطار الشعري مزيدا من الخصب والثراء، ارتفعت به من الناحية التعبيرية الى مستوى رفيع.

اكتب اليك

كأن رائحتك تمسك بيد الصباح، وتشده من نسائمه، وتهبه لي كما تريده حواسي.

اغبط رائحتك لانها تضحك لي؛

وتعلمني كيف انظر الى المراة

لاراني اوسع من خيالي.

في الرائحة تحضر الحيثيات كلها؛ الغرفة

والورد

ومائدة الافطار

وساعتي اليدوية

وقميصي الابيض

وربطة العنق السوداء

المخللة بخيط رفيع من لون الشكولا.[17]

 والقصيدة بهذه المثابة تجربة وجدانية نابعة عن موقف فكري خاص بالشاعر، ملونة بمشاعره وعواطفه الجياشة، وهذا البناء يخرج القصيدة من باب الشعر القصصي ليضعها في اطارها الطبيعي، وهذا ما يجعل وضع القصة يكون هو الوضع التصويري الدرامي، باعتبارها اداة فنية، وبوصفها بلاغة جديدة. صحيح ان الشاعر قد جسد لنا تجربة وجدانية رسم فيها للعطش رائحة، وان هذه الرائحة تمسك بيد الصباح بما يحمله من اشراقة وانعتاق، وتشده من من نسائمه، هذه الرائحة التي امتزجت بعبق الوجد ادرك من خلالها الشاعر اتساع خياله، كيف لا وهو الذي اثتت فضاء رائحته بكل الحيثيات المصاحبة لطقوس الغرفة( الورد، مائدة الافطار، ساعتي اليدوية، قميصي الابيض...). وهذه الرائحة وما تحمله من دلالات ورمزية انما تكبر في اعماقنا وتتغلغل لتكون نشيد السفر الابدي عبر عبق الرائحة.

هي الاشياء تكبر فينا؛ ونحن ننسى ان الرائحة تنفذ الى الاعماق لتكون

نشيد السفر الابدي.

في الرائحة.

اتلذذ عطش الكلمات وهي فارغة؛

نداء الحبق وان امتلات

حياض الحواس بما يفيض من موسيقى الغياب.[18]

وتاسيسا على كل ما سبق يتبين لنا ان الاسلوب القصصي قد استخدم في البناء الشعري المعاصر ليؤدي نفس الوظيفة الجمالية التعبيرية التي يؤديها الحوار، وهي تجسيم الرؤى والمشاهد من اجل احداث التاثير الدرامي. ومن تم يمكننا ان نؤكد على ان تجربة الشاعر الحديث قد اتاحت له الفرصة لاستخدام ادوات تعبيرية مقترضة من اجناس ادبية اخرى، لتعزيز تجربته والانفتاح على تقنيات التخاطب في كل تجلياته التعبيرية، مع الحفاظ على جوهر الشعرية.

البناء الرمزي الدرامي للغة الشعرية.

يرى بالي بان الاسلوب دراسة الحدث التعبيري في اللغة، من حيث كونه وعاء للعاطفة، اي هي دراسة التعبير باللغة عن مظاهر الاحساس ودراسة مفعول الظاهرة اللغوية على الاحساس. فبالي يهتم من خلال تعريفه اعلاه بالمتكلم في كيفية تاثيره وكيفية تاثيره في المخاطب، اما محور التعبير تاثيرا وتاثرا فهو عالم العاطفة والاحساس.

اذا كانت الدراما تعني في ابسط تعاريفها الصراع، فانها في الوقت نفسه تعني الحركة، الحركة من موقف الى اخر مقابل، من عاطفة او شعور الى عاطفة او شعور مقابلين، واذا كانت طبيعة الحياة قائمة في جوهرها على هذا الاساس الدرامي، فلا غرو ان تتاسس هذه الخاصية في بنية اللغة باعتبارها مسكن الوجود كما يؤكد هيدجير. فكل كلمة او مفردة هي بنية درامية مهما ضؤل حجمها، وسواء التفتنا الى هذا الخاصية او لم نلتفت.

ففي اطار التفكير الدرامي للشعر، يدرك الانسان ان ذاته لا تقف وحدها معزولة عن بقية الذوات الاخرى وعن العالم الموضوعي بعامة، وانما هي دائما ومهما كان لها من استقلال، ليست الا ذاتا مستمدة اولا من ذوات، تعيش في عالم موضوعي تتفاعل فيه مع ذوات اخرى.

لا شك ان قارئ رسائل الحب يدرك تلك النزعة الدرامية للغة الشعرية للشاعر اسماعيل هموني، فالعمل الذي بين ايدينا هو تجربة خاصة يمر منها الشاعر، لم تتات له عن طريق الاقتباس او التقليد، وانما عن طريق الذوق والمناجاة في اعماق الذات والغوص في رمزية اللغة. فالعنصر الذاتي في المؤلف طاغ متسلط، لا يقبل الخضوع لمنطق العقل ولا يخضع لسلطانه، ولا حتى لمقاييس الشعر العاطفي العادي، اذ انه وصف لتجربة باطنية فريدة يمر بها الشاعر لوحده. وهو وجداني لانه في مجمله يمثل نفثت وجدانية للشاعر اسماعيل هموني، فالتجربة التي يعبر عنها الاستاذ الشاعر هموني هي في عمقها تجربة وجدانية خاصة خلاقة تنبع تجلياتها من عوالم الروح والمثالية والرمزية، حيث الاستمداد لعناصر فنه من قلبه؛ منبع الحب، ومنارة عالمه الذاتي، فهو يدين بدين الحب والعشق كما الصوفي، وينشد الجمال والجلال المطلق في اسمى حلله ومعانيه.

المتامل لرسائل الحب يدرك ان الشاعر اسماعيل مهوس بالبناء الرمزي للغة، وبمجازاتها، فهو عندما يختار لعناوين قصائده عبارات: دولاب الكون، جيوب الليل، نام الصمت، كأن العطش رائحة، نبوءة القرنفل، السفر الى درب الملائكة، المجاز درس الانتباه... فانه يختار عندئذ كلمات وعبارات ذات دلالة رمزية، تختزل تجربته وموقف الشعريين، فاللغة الرمزية في رسائل الحب لها قوة التاثير الشعري، لاسيما وان الشاعر موفق من حسن التوظيف لهذه الدلالات الرمزية، والتي اضفى عليه ابعاد جديدة من كشفه الخاص، فالرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يمر منها الشاعر، والتي تمنحه بعدا جديدا وحيا، ذلك ان التجربة هي التي تمنح الاشياء اهميتها الخاصة ودلالتها ومغزاها الخاص، وعند استخدام اللغة في الشعر استخداما رمزيا، لا تكون هناك كلمة اصلح من غيرها لكي تكون رمزا، اذ المعول في ذلك على استكشاف الشاعر للعلاقات الحية التي تربط الشيئ بغيره من الاشياء.

وفي تدبرنا للبناء الرمزي لرسائل الحب، يبنغي ان نستحضر في تقديرنا بعدان اساسيان، هما التجربة الشعرية الخاصة، والسياق الخاص، فالتجربة الشعورية بما لها من خصوصية هي التي تستدعي الرموز لتختزل موقفها وتصورها الابداعي، وتفرغ فيه حمولتها العاطفية وهي التي تضفي على اللفظة طابعا رمزيا خاصا، يرتبط في عمقه بالسياق الخاص الذي يكسب الرمز دلالة جديدة مفعمة برؤية شعرية متجددة منفتحة.

ان لجوء الشاعر اسماعيل هموني الى البناء الرمزي للغة الشعرية، باعتباره اداة تعبيرية قادرة على اختزال تجربته وموقفه الشعريين، نابع من قناعة فنية مردها ضرورة تجاوز المالوف والسائد، الى تفجير الطاقة الابداعية عن طريق اللغة والتمرد على الثابت والجامد، ولذلك اعتمد في بنائه التصويري الدرامي غلى البناء الرمزي، ينطلق منه ليؤسس لموقفه الشعري. والمتامل لديوان رسائل الحب يدرك منذ اللحظة الاولى هذا التوظيف الرمزي للغة الدرامية. واسماعيل هموني حينما يوظف الرموز انما يعيد احياء دلالتها ويتجاوز بناءها المباشر العادي الى الغوص في اثرها العميق وما تحمله من ايحائية وكثافة اسلوبية.

نلحظ بان اسماعيل هموني يجنح الى توظيف ابعاد رمزية متعددة، تنهل من مختلف المشارب الثقافية والفكرية لاختزال رؤيته وموقفه الشعري، ويمكن تقسيمها من حيث الهيمنة والاكثر توظيفا الى ثلاث مكونات اساسة:

- مكون طبيعي: يستمد مكوناته من الطبيعة كالمطر والنور والغيم و الليل و النخيل.. كما في جل القصائد تقريبا.

- مكون ديني: اي تلك المكونات والرموز المستقاة من القران والسنة مثل: الصلاة، الملكوت، النمل، جند سليمان، الطير سنابله.. كما في قصيدة: السفر الى درب الملائكة، وهي رموز يستدعيها الشاعر ويقيم معها تواصلا خاصا، ليخرجها من حمولتها العادية، لتصطبغ بتجربته الشعرية.

- مكون لغوي: يرتبط ببعض الكلمات المرتبطة اساسا ببنية اللغة كالمجاز، اللغة، الغموض، الكلام، التاويل، القصيدة... فالرمز حسب الشاعر مصدر القوة في البناء الشعري، عندما يراد به اثارة شيئ من الغموض في الفاظ القصيدة. وعبد السلام في قصيدة: هل الغموض شجرة. يذهب الى اعتباره – اي الغموض - جوهر الاشياء وكمون في غلائل الكلمات، كانه المعنى الذي يقيم متحررا من التصنيف .. او هو التباس الشيئ في اللاشيئ وانتهاك لحدود الوهم على حاشية العقل[19]. فالبناء الرمزي في الديوان يشحنه بطاقة تعبيرية ايحائية تتعدد دلالتها وتختلف من قصيدة الى اخرى.

ان هذا التداخل بين المكونات: الطبيعي والديني واللغوي في البناء الاسلوبي للشاعر اسماعيل هموني، يبين قدرته على توليف هذه المكونات لخدمة تجربته الشعرية، عبر اثراء القصيدة بالدلالات وشحنها بالمعاني. ولن اكون مغاليا اذا ادعيت ان ديوان رسائل الحب مشبع كثيرا بالرمز، مما قد يجعل قرءاته من قبل المتلقين تتعدد، بتعدد مشاربهم وقدراتهم التاويلية، وبالتالي فهو نص تاويلي يحتاج الى جهد فكري وتاويلي من طرف المتلقي لفك رموزه، وربما هو ما سيجعل العمل الفني يتجه نحو الغموض اكثر.

اذا كان ادونيس قد تحدث على ان الرمز هو اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة، او هي القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة، او البرق الذي يتيح للوعي ان يستشف عالما بلا حدود، فان الرمز قد اصبح سمة تميز الشعر الحديث بكل تلويناته، اتخذ رؤية فلسفية جديدة من شانها ان توجه بناء النص الى افق غامض يبلور ألم الذات، واسئلتها وقلقها، انه اللغة الخاصة التي تسافر بك الى عوالم خفية لا تتيح لك نفسها الا اذا امتلكت القدرة على المعراج، والغوص في كنه الشيء.

على سبيل الختم

الشعر هو ذاك الخيط الناظم اللامع الذي ينضدد اجزاء التجربة وينسق بينها مشكلا بذلك رباطها المقدس – كما يؤكد ذلك نوفاليس- وهو بذلك كل ما تضج به الاعماق الى حد السكون والخرس،هو الصمت المطبق على الكلام نفسه وما يبقى دائما هناك في انتظار ان يقال، هو العمق في ابعد ابعاده، بما هو قدر ولغز وصدفة ورهبة[20]. وهذا ما جعل الشعر ينفتح على كل الاساليب الخطابية الخرى، باعتبارها اجناسا ادبية تتواشج فيما بينها، بعيدا عن التصادم والخلاف، وفي ارتباط وطيد بعمق التجربة الانسانية. فالقصيدة الشعرية عند اسماعيل هموني متعددة الاشعاعات وبناؤها المعماري الهيكلي قائم على تعدد التقنيات الفنية الموظفة في الكتابة الشعرية، ذلك ان ثقافة الشاعر وعمق تجربته الشعرية جعلته يوظف جملة من التقنيات الفنية كالرمز والحوار والتناص، اضافة الى البديع والبيان لتشكيل صورة فنية تشابكية ذات علائق متعددة تبين حقيقة مفهوم الشعر عند عبد السلام هموني.

و اسماعيل هموني الشاعر الشغوف بالمعنى الى حد التوحد والحلول الصوفي، استثمر مختلف المكونات السردية، لنقل تجربته الشعرية وترجمة رؤيته وموقفه. وذلك في بناء متناسق على اعتبار ان اصل العمل الفني يمتلك القوة التي تمكنه من الانتقال عبر كل الاشكال، دون التنصل من الماهية او التنكر للهوية الفنية.

  والحمد لله رب العالمين

 

رضوان الرقبي - اكادير/ المغرب

.......................

[1] رشيد يحياوي: الشعر العربي الحديث.دراسة في المنجز النصي. ص: 116 افريقيا الشرق. الدار البيضاء1998

[2] نفسه ص: 110.

[3] الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. عز الدين اسماعيل. ص: 238.دار الثقافة بيروت لبنان

[4] نفسه:285

[5] رسائل الحب.: ص: 132

[6] جيرار جنيت مدخل الى النص الجامع . ص 8 ترجمة عبد العزيز شبيل المجلس الاعلى للثقافة القاهرة.

[7] نفسه . ص 11

[8] نفسه.ص: 12

[9] هذا البعد الحواري كذلك نجده حاضرا في بناء القول الشعري القديم، والمتامل لبنية القصيدة الجاهلية او بناء المعلقات، يلاحظ جنوح الشعراء الى هذا الاسلوب لما يعكسه من مشاعر مرتبطة بالمواقف واللاحاسيس المعبر عنها كما في معلقة امرئ القيس مع الليل او الذيباو مع المحبوبة. او عند عنترة بن شداد و غيرهما من فحول الشعر العربي القديم.

[10] رسائل الحب: ص: 8 (سنكتفي ببعض النصوص الشعرية فقط لاستجلاء معالم الحوارية في الديوان عند الشاعر، على اعتبار ان البناء الحواري نكاد نجده تقريبا في جل النصوص، اما بشكل مباشر او غير مباشر)

[11] رسائل الحب: ص: 8

[12] رسائل الحب: ص: 10

[13] رسائل الحب .ص: 106

[14] نفسه. ص: 106

[15] نفسه. ص: 106

[16] الشعر العربي المعاصر: عز الدين اسماعيل.ص: 299.

[17] رسائل الحب. ص: 142.

[18] نفسه.ص: 143.

[19] رسائل الحب: ص: 100

[20] الفلسفة والشعر.( بتصرف) عبد الهادي مفتاح.ص: 190 منشورات عالم التربية الطبعة الاولى 2008

 

 

في المثقف اليوم