قراءات نقدية

الفلورا في قصيدة (الجمهرات) لسليم بركات

saleh alrazukبالاشتراك مع: د. أحمد الجدوع

في حياة الشاعر سليم بركات مجموعة من الظواهر الملفتة للنظر. وظاهرة هنا تعني تكرار علامة أو إشارة أو سلوك على امتداد فترة طويلة بحيث تصبح سمة بنيوية من سمات شعريته. هذا بالإضافة إلى سلسلة من المتعاكسات التي يصعب تبريرها بالمنطق العادي.

فهو شاعر حداثي بامتياز لكنه في كل إشاراته المرجعية يعود إلى بلدايات الخليقة ولا سيما الكتب المقدسة. ويمكن أن تقول إن كل مفرداته من التوراة. أو من العهد القديم. باللفظ والمعنى.  وربما حمولته من نشيد الإنشاد، تحتل نصف استعمالاته. وأية دراسة إحصائية لقاموسه المفضل سيثبت أن مفردات التوراة تتكرر بنسبة 70-80 بالمائة من الجمل.

وهو أيضا كردي ويكتب باللغة العربية حصرا. وهذا مصدر ألم ينغص على الأكراد حياتهم. وبالأخص أن اللغة بنظر كل الفلاسفة والمؤرخين هي هوية الإنسان وأداته للتعبير عن حقيقته أو ماهيته. دون وساطة من منابع أجنبية.

وتبقى أخيرا الأهمية االتي يمنحها للطبيعة مع أن الحداثة هي بالأصل رثاء للفطرة وللعواطف الرخيصة مع إشادة بدور المجتمع الصناعي ومعطياته. وأعتقد أن اهتماماته بالغطاء النباتي (الفلورا) والحمولة الحيوانية (الفونا) للبادية السورية تشكل أول همومه. وهذا في الواقع هوالشكل الظاهري لواحدة من أهم العلامات على الحداثة في الشعر العربي وهي قصيدته الطويلة (الجمهرات). ويمكن القول إن اهتمامه بالفلورا في (الجمهرات) ينقسم لثلاث دوائر أو مستويات أساسية كالتالي: نباتات الزينة، والنباتات التي تستعمل لغذاء الإنسان، والتي تفيد في صناعة الكساء.

وهذا لا يعني أنه لا يوجد تداخل بين هذه الدوائر. فلغة سليم بركات استعارية. ولا تخلو من الكنايات والمجاز. مع عدد محدود جدا من الرموز. ولذلك إن التحويل والانزياح تكنيك لا تخلو منه أية صفحة من أشعاره. فالكلمات التي تدل على شيء ملموس سرعان ما تحمل بالإسقاط والتداخل معنى شيء غير ملموس أو معنوي. ومن خلال هذا التكامل نتوصل في النتيجة لمعنى لا وجود له إلا في ذهن الشاعر. بتعبير آخر الكلمة تتحول إلى معنى والمعنى يحيلنا إلى دلالة والدلالة تساهم مع السياق في إنتاج معرفة ذهنية قابلة للتأويل والتكهن. ويبدو أن القيمة الذهنية تزيد من شحنة الإشارات الحضارية والسوسيولوجية التي تعيد بناء فكرة الشاعر عن أسطورته الخاصة.

ولتوضيح حدود وأبعاد هذه الأسطورة (هل هي إثنية- عرقية أم أنها تحيلنا إلى اهتمام شخصي بمذهب أو دين. هل هي إيديولوجية من منشأ حزبي أم لها إسقاط اجتماعي) لا بد لنا من تعريف مفردات وإدخالات الغطاء النباتي كما ورد في القصيدة.

أولا: نباتات الديكور والزينة: منها ورود حدائق وأشجار غابات وأعشاب. ومعظمها يتدخل الإنسان في انتشارها ونموها، ولو أنه يمكن أن تتوفر بالحالة البرية، وهي:

1- الأقحوان: ويظهر في القصيدة مرارا وتكرارا. ولكن يوجد منه في الطبيعة جنسان Chrysanthemum وGlebionis coronaria المعروف باسم زهرة اللبن الذي يؤخذ على وجه الشبهة أنه زهرة أدونيس المذكور في الأسطورة السورية. وكلا الجنسين يتبع العائلة Asteraceae. وعلى الأرجح الشاعر يقصد الكريسانثيموم لأن بتلاته حمر ومطلع القصيدة يغلب عليها لون الدم والخراب والتشرد.

2- الزنبق Lilium: يأتي بالمرتبة الثانية من ناحية التكرارفي القصيدة. وهو نبات عشبي مزهر  يتم تكاثره بالأبصال ويزرع في نهاية الشتاء وبواكير الربيع تحت سطح التربة بعمق 15 سم.  ويتبع العائلة Liliaceae. ولهذه الزهرة معنى يدل على النقاء والعذرية عند الرومان وتجدها في جداريات الكنائس والقصور. وانتقل هذا الرمز إلى الأدب الحديث وأبرز مثال عليه رواية السير رايدر هجارد (ندى الزنبقة).

3- النيلوفر Nymphaea أو زنبق الماء: وهو اللوتس. ويواجه مطلع الشمس وينمو في المياه الراكدة تلقائيا. ويتبع العائلة Nymphaeaceae. ومصدره مستنقعات السويد الموطن الحالي للشاعر حيث يقيم منذ عام 1999 بصفة لاجئ.

4- الخزامى Hyacinthus وهو نبات صغير بصيلي أيضا. يتبع العائلة Asparagaceae  ومنشأه حضارات شرق المتوسط. وللخزامى اسم آخر هو خيري البر وأوراقه رفيعة ضيقة ويرتبط في الأسطورة بالانبعاث وفصل الربيع. وهو رمز كرنفالي له قيمة وجدانية عند شعوب المشرق ويستعمل في احتفالات النوورز.

5- القرنفل: وله جنسان Dianthus وهو نبات زينة ويتبع عائلة Caryophyllaceae. وSyzygium   aromaticum وهو شجرة دائمة الخضرة ويعتبر من التوابل ويتبع العائلة Myrtaceae . والشاعر يقصد حتما نبات الزينة لأن شجرة التوابل لاوجود لها في سوريا وليست متوفرة في منفاه لا المؤقت ولا الدائم.

6- الدلبوث Gladiolus: زهور معمرة تدعى سيف الزنبق. ويتبع عائلة Iridaceae

7- البنفسج Viola زهور تتبع العائلة Violaceae.

8- المران Fraxinus: ومنه الدردار السوري ويتبع العائلة Oleaceae.

9- الحور Populus: وخشبه مرن. يتبع العائلة Salicaceae.

10- السرخس fern: نبات وعائي بلا زهور ولا بذور. ويتبع ثلاث عوائل مختلفة. ولها خلفيات أسطورية في الثقافة السلافية التي تتكلم عن زهور تظهر لمرة في العام ويصعب رؤيتها.

11- اللبلاب: وله جنسان، بري ويدعى Convolvulus وهو نبات زهري يتبع العائلة Convolvulaceae. ومنزلي  Hedera ويتبع العائلة ginseng. وينتج منه خلال طور التسلق شكلان من اشكال الأوراق المفصصة. ولا نعرف بالضبط أي جنس يقصده الشاعر.

12- البردي Cyperus papyrus: نبات مزهر مائي بلا أوراق. يتبع العائلة Cyperaceae.

13- الجوري: Rosa damascene. الوردة الدمشقية. ودخلت إلى سوريا من أوروبا. وتتبع عائلة Rosaceae.

ثانيا: نباتات الغذاء:

وكلها نباتات حقول وزراعة ومدخلة أو أنها مستأنسة، وهي:

1-   السمسم Sesame: وهو حولي مزهر. من عائلة Pedaliaceae.

2-  الخرشوف: cardoon وهو الأرضي شوكي. يظهر بشكل طبيعي ويمكن زراعته. ويتبع العائلة Asteraceae

3-  القثاء Cucumis: يتبع العائلة Cucurbitaceae. ثماره أسطوانية بطول 30 سم تقريبا. ويدعى البطيخ الأفعواني.

4-  الذرة Zea mays: نبات حولي أزهاره منفصلة. ويحتاج لشمس وحرارة عالية. يتبع العائلة Gramineae.

5-   الكرنب Crambe: حولي أو معمر ويتبع العائلة Brassicaceae.

6-   البقولlegume: وله عدة أجناس وأنواع. يتبع العائلة Fabaceae.

7-   اليقطين pumpkin: وهي ثمار عيد الشكر.

8-   الزعفران Crocus: وهو نبات بلون ذهبي أصفر.

9- الخردل وله جنسان  Brassica وهو الشرقي وSinapis أو الأبيض المعروف باسم القذى. يتبع العائلة Brassicaceae.

10- الكافور Camphor: شجرة دائمة الخضرة. وللأوراق شكل شمعي أبيض. من عائلة Lauraceae

11-الكمأ: Terfeziaceae: يتبع الفصيلة Terfeziaceae. وهو من الفطريات وينمو بريا.

12-الخشخاش Papaver: نبات ثنائي الحول. ومعمر. ويتبع العائلة Papaveraceae

13- الكرفس Celery: نبات مستنقعات. يتبع العائلة Apiaceae. وله ساق طويلة ليفية.

14- الجرجير Eruca sativa: نبات حولي. يتبع العائلة Brassicaceae.

ثالثا: نباتات الكساء:

1- القنب cannabis: ويتبع الفصيلة Cannabaceae. وهو نبات بري وينمو تلقائيا.

2- القطنGossypium:  يتبع عائلة Malvaceae. وهو شجيري معمر.

3- الكتان Linum: يتبع العائلة Linaceae. أليافه لحائية.

من أول نظرة يمكن تسجيل الملاحظات التالية.

أن الشاعر لم يتوقف إلا عند اسم الجنس وأغفل اسم النوع ولم يميز بين الأصناف. وهذا مفهوم من ناحية جمالية واجتماعية. فهو ليس عالم نبات. ولا يهمه التفريق الدقيق بين أشكال هذه الأجناس إلا إذا كان هناك فروق شكلية واضحة أو استعمالات تهمه. ولذلك لا تعرف ماذا يقصد حين يتكلم عن الأقحوان لأنه يتوافر منه في منطقة القامشلي جنسان منفصلان لهما اسم لغوي واحد. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن القرنفل. فهو يوجد بشكلين كبهارات للأطعمة وكورود زينة. ولكل منهما بيئته وشكله. وينطبق هذا الكلام على القطن (الذي ورد في القصيدة باسم شجيرات القطن). فالشاعر لا يحدد هل يتكلم عن النوع الناعم والطويل وعالي التكلفة أم عن القطن الشائع. فقد انتشر النوعان في بيئة الجزيرة السورية ولكن انقرض النوع الطويل لاحقا بسبب الحرب المائية وزيادة المخاطر العسكرية وتدهور البيئة (بمعنى المناخ وليس المجتمع).

ثم إن عدد نباتات الغذاء والديكور يفوق بأضعاف المرات عدد نباتات الكساء. ولكن بفحص السياق تميل كفة الميزان لنبات الزينة. فمعظم هذه الأسماء تسبقها كلمات تخصيص مثل زهرة القثاء وزهور اليقطين أو أجراس الكتان (زهرة الكتان التي لها شكل ناقوس ناعم). لذلك أعتقد أن الهدف ليس مرتبطا بالواقع الاجتماعي للشاعر ولا بمعاناة الإنسان مع الجوع والعري (أو ما يدل على الفقر). فالقصيدة من غير خلفيات اجتماعية. ويغلب عليها الانهمام بالذات (بالمعنى النفسي والجنسي والذي تكلم عنه فوكو في آخر مشروع له)  وهو (تاريخ الجنسانية).

ولو أمعنت النظر بهذه الزهور والنباتات الريفية ستلاحظ أن اللون الأخضر قليل جدا. وحتى في هذا المضمار (و لنضرب السرخس مثالا عليه) ترتبط دورة حياة النبات بالمياه الراكدة وغير العميقة.

إنه حتى لو توفرت معظم هذه النباتات في الحالة البرية، غير المنزرعة، فقد استأنسها الإنسان وانتخب منها صفات شكلية ولونية تضفي بهجة على حياته. وإذا كان بينها نباتات حقول أو محاصيل فالسياق لا يشير لجهود العناية بها. إنه سياق يخلو من الكد والعمل ويميل لبهجة الروح ولاستسلام النفس والعقل لحالة استرخاء وتعبد في أحضان الطبيعة. ومع أنه ترد بعض المفردات الزراعية التي تشير للاعتداء على الأرض وعلى العمل بالزراعة وعلى انجراح التربة فهي فقط تأتي لتنفي الشيء بعكسه. ولو كان لها معنى فهو لا يزيد على أن يكون طاردا لسياق المجتمع ما بعد الصناعي.

إنه يندر أن تسجل أية مفردة تدل على مجتمع مؤتمت. والعمل والحياة الإنسانية يتكاملان مع الفونا والفلورا وهما بحالة امتداد وفوران.

ويغلب على هذه النباتات ألوان الصحراء والبادية ( أصفر وأحمر وقرمزي). وإذا وضعت إلى جانبها كلمة الدم التي تكررت عشرات المرات ومفردة لحية المحراث التي تكررت بنطاق محدود كأسلوب من أساليب الاعتداء على عذرية الأرض والتراب يمكن أن نستنتج أن  الطبيعة مستأنسة. وبالأخص أن الورود هي ورود حدائق. إنها نباتات أوركسترالية يتحكم بطرازها وترتيبها الإنسان وذوقه. وأعتقد أن وراء هذه الذاكرة الدموية والمتألمة والتي ترتبط بجرح ينزف وبألوان متفجرة تحيلنا إلى النار واللهب والاحتراق معاناة مع المجتمع. فمع أن الشاعر ينتمي للغابات والبوادي والسهول تكبل ذاكرته الأسرة والبيت والعائلة. وعلى الأرجح هو ينظر لكل ذلك كقيود . ويبدو أن أمنيته هي الانفلات من تلك القيود والاحتفاظ بنقاء وفطرية الطبيعة. ويترتب على ذلك سيل من مشاعر الحنين لغير العاقل مع تحفظ تجاه كل شيء عاقل.

وهنا موطن المفارقة.. نفي الإنسان من عالم ذات الشاعر والاحتفاظ بكل ما عدا ذلك.

وأعتقد أن هذا التفسير الفابي للعالم له قرائن في سيرة الشاعر. فقد اعتاد على الغربة. وهاجر من موطنه القامشلي (قامشلو بلغة السكان المحلية) في وقت مبكر. ولجأ لعدة أوطان.

السؤال الآن: ما هي نسبة توفر هذه النباتات والأشجار في بيئة الشاعر المحلية؟.

معظمها غير متوفر. وبعضها لا يمكن أن يعيش في بيئة القامشلي القريبة من البادية مثل الكتان الذي يحتاج لبيئة عالية الرطوبة كي تكتمل دورة حياته ويصل لطور الإزهار. فجدول الهطول السنوي في القامشلي يسجل للأشهر الصالحة لزراعة الكتان أمطارا تتراوح بين 0.8 مم في أيلول وحتى 68 مم في آذار. وواضح أن الرقم دون الاحتياجات المرجوة.

وعليه أغلب الظن أن الشاعر  يتكلم من ذاكرة ثقافية وغير عملية. فحنينه على ما يبدو لعالم متخيل وليس لعالم واقعي معاش. وهذا موطن ألم إضافي.

أن يرفض الشاعر واقعه الماضي وواقعه الحالي وأن يضع كل آماله في يوتوبيا لا يزال يبحث عنها. ولم يجدها في محطات أسفاره المتعددة: دمشق وبيروت وقبرص واستوكهولم.

وللمقارنة يمكن أن تجد اهتماما بالنبات والأحجار في أعمال من الأدب العالمي. فرواية (الغبار) ليائيل دايان تهتم بجيولوجيا الكيبوتز الذي تنشئه جماعة من المهاجرين في الصحراء. ولذلك تتغزل كثيرا بأحجار المنطقة بنفس الأسلوب الذي يتبعه نيرودا في (أحجار تشيلي أحجار السماء).  وقصص (تلال بلدية إيفل The Hill of Evil Council) لعاموس عوز تذكر بعض المحاصيل والنباتات المأكولة. وهي قصص عائلة من المهاجرين التي تبحث عن موطء قدم لها في فلسطين والجهود المبذولة لتنظيم المجتمع المحلي وإقامة دولة بعد التخلص من العثمانيين والإنكليز.

ولكن مشروع سليم بركات هروبي.إنه مفارق لواقع مؤلم ومجهول ويحتاج لاستعادة بشروط عادلة وكريمة. بينما مشروع دايان وعوز استعماري. يقوم على فكرة احتلال الأرض وليس الطبيعة. فإنشاء دولة ليس مثل البحث عن فكرة للذات الضائعة. وهذا يعطي سليم بركات معنى فلسفيا وذهنيا. إنه يريد أن يحقق ذاته لكن لا يعلم كيف. ما هي الطريقة. وعموما يحاول وضع خطة لاستعادة عناصر من الماضي مع عناصر ليس لها وجود في بيئته الواقعية. لذلك إن اسطورته لا تكون باحتلال أرض لها واقع مكتمل ومادي وملموس، وإنما بتركيب واقع غير موجود ولا عياني.

وما يؤكد على هذه الفكرة أن مجموعته (هكذا أبعثر موسيسانا)، وهي عن مسقط رأسه، قرية موسيسانا الواقعة في ريف القامشلي السورية، لا تحفل بأسماء الحيوانات المحلية ونباتات المنطقة. يعني هي بلا علامات فارقة. وإذا ذكر النباتات فهو يذكرها باسمها العام كأن يقول الورود والأعشاب وهلم جرا. إنه لا يحفل كثيرا بالسمات والخصائص النوعية ويكتفي بما يمكن أن نسميه تحت المملكة. وهذه إشارة واضحة أنه يتعامل مع ذاكرة من أوهامه. من واقع رغباته النفسية. وبلغة أوضح إنه يصبو لتركيب عالم لا وجود له. يتخيله ويتمناه. ولا يعمل على احتلاله ولا بناء ثقافة من لون واحد فوق ثقافة حية. وحتى أنه لا يفكر بالتعايش السلمي بين أطوار من ثقافات مختلفة.

بكل إيجاز إنه يكون أسطورته الخاصة ويخترعها بالطريقة التي اخترع بها الاستشراق الغربي صورة متخيلة وموهومة عن الشرق (بتعبير الناقد حمزة عليوي). ولذلك (الجمهرات) قصيدة عن مجتمع لا تفسره إلا أساطير الخلق.

ولا أستطيع أن أمنع نفسي من تسجيل ملاحظتين إضافيتين.

مع أن هذه النباتات لها أنواع برية وأخرى منزرعة، ومع أن الشاعر لم يحدد عن ماذا يتكلم، هل هو مولع بالفلورا أم بالحقول والزراعة ذات المردود النفعي والكسب للإنسان، لا يمكن أن تتجاور في منطقة محدودة المساحة كل هذه المزروعات والورود والأشجار. فمسقط رأس الشاعر (موسيسانا) يتبع لعامودا ذات الأغلبية الكردية، والتي تبلغ مساحتها مع كل القرى المحيطة بها (1) كم2. بعدد سكان تقديره يبلغ 50 ألف نسمة. ناهيك عن جو الجزيرة السورية اللاهب في الصيف والقارس البرودة في الشتاء والذي تعرض للهدم والتملح والتصحر على مدى سنوات من الإهمال والتخلف والاضطرابات العسكرية. وتذكر المصادر أن الحرارة تصل فيها إلى 50 م ويمكن أن تهبط إلى - 5 م. وهي حرارة حرجة قاتلة للتنوع وتتحكم بنشاط الإنسان وبدورة حياة النباتات الطبيعية وتمنعها من التكاثر والإخصاب إلا في مجال مضغوط.

وحتى، جدلا، لو لجأت هذه النباتات لطور سكون كوسيلة من وسائل الدفاع عن النوع (حسب النظرية الداروينية) فإن ذاكرة الشاعر لا يمكن أن تهتم بها. وبظني إنه يتكلم من ذاكرة عامة وشمولية لمشاهدات مر بها في هجراته وتقلبات حياته، وجمعها بشكل كولاج في قصيدة يغلب عليها التركيب والإسقاطات لبناء عالم يأنس له وهو عالم العزلة والتعبد في محراب الذات.

النقطة الثانية. مع أن النباتات المذكورة في الأساطير التموزية وردت في القصيدة، وتكررت عدة مرات أكثر من غيرها، لكن ليس وراء رحلة الشاعر أي معنى عربي أو سوري أو كردي. إن قصيدته فوق حدود الأعراق، وإذا كان لديه هم نضالي فهو غير واضح. وتقف القصيدة في حدود الإنشاد والتغني بالإنسانية المجروحة وما لحق بها من هوان وضياع وأزمات.

 

صالح الرزوق و د. أحمد الجدوع

أيار 2017

  

 

في المثقف اليوم