قراءات نقدية

ثامر الحاج امين: الشخصية المأزومة في قصص (محاولة اللجوء الى الجنة)

صدر حديثا عن دار المتن 2023  المجموعة القصصية البكر للقاص سعد نزال (محاولة اللجوء الى الجنة) وقد ضمت ثلاث عشرة قصة قصيرة هيمنت على عوالمها الشخصية المأزومة التي تعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية حاول الكاتب سبر اغوارها من خلال انفعالاتها ومزاجها المتقلب مقتربا في شكله التعبيري من الفانتازيا التي تشتغل على المبالغة في رسم ملامح غير مألوفة للشخصية ولأحداث مخالفة لمنطق الواقع والطبيعة وهو ما كانت عليه معظم شخصيات واحداث قصص المجموعة.

ابطال قصص المجموعة هم خليط من حيوات حائرة وخائفة ومتوترة تعاني من الاغتراب الداخلي فهي تعيش الحاضر ولكن يحركها الماضي ويدفعها الى استحضار حوادث مؤلمة تشكل محورا لمعظم قصص المجموعة، وقد حرص الكاتب على ترجمة فلسفة افكاره التي كشف عنها اهداء الكتاب المتضمنة نبذه للعنف والدعوة الى اتخاذ الطرق السلمية وسيلة للوصول الى الأهداف وذلك في اتخاذ (اللجوء) عتبة لعنوان مجموعته  فاللجوء هو الفرار من واقع سيء فيه عنف واضطهاد الى واقع آخر أكثر أمنا وسلام  وجاء التماهي مع هذا المبدأ في قصة (لن أكون هناك ثانية) التي تقوم على فكرة الثأر، فـ " صابر " طالب الهندسة المسالم وبعد سنوات من تخرجه يفكر بالانتقام والثأر لكرامته التي أهانها يوما أحد مسؤولي اتحاد الطلاب عندما قام بصفعه في نادي الطلاب وأمام زميلاته وزملائه وسببت له تلك الصفعة فقدان السمع، وقد سكت حينها على الاهانة بسبب سطوة ذلك المسؤول الطلابي الشرير والمتعجرف وكاتب التقارير المتعاون مع دوائر الأمن، ولكنه يعود بعد سنوات ويقرر قتله والثأر لكرامته ويعد العدة لذلك لكنه عندما يقابل خصمه المعتدي يتراجع في اللحظة الاخيرة ويتخلى عن فكرة القتل والعودة الى انسانيته ونبذ ما ساورته نفسه بالانتقام من خصمه فيأتي هذا التحول بمثابة الخروج من جحيم فكرة العنف واللجوء الى جنة التصالح مع الذات والاستقرار النفسي .

والمهيمن على قصص المجموعة ابطال يعانون من امراض نفسية متنوعة من بينها التوتر والقلق الشديد وكذلك فقدان الاهتمام وكلها  حالات نفسية واحدة من تداعياتها الأرق وصعوبة النوم حيث تتجلى مشكلة الأرق لدي عدد غير قليل من ابطال القصص ومن بينها قصة (لدغة فزع) فبطل القصة" عبودي " يعيش صراعا مع الأرق نتيجة التخيلات الشريرة التي جاءت بها مشاهدته فيلما يحكي عن مدينة افتراضية تدب فيها العقارب الضخمة وتهدد سكانها حيث يعود هذا المشهد  بالبطل الى أزمة رافقته من صباه عندما تعرض الى لدغة مزدوجة من عقرب عند بيت خالته ثم يأخذ بالقارئ الى عوالم اللاواقعية وذلك بتخيل خروج العقارب من شاشة التلفاز محاولة الهجوم عليه وتنتهي القصة وهو ممسكا بصندله لمواجهتها .

و يعود الى مشكلة الأرق في قصة اخرى هي (اللجوء الى الجنة) فالبطل شخصية تعيش الأرق والقلق  في آن واحد، فهو يخشى الاستغراق في النوم خوفا من فوات موعد اقلاع طائرته لذا يزجي الوقت المتبقي على الموعد في الشرب و(التفكير في الفلسفة ونشأة الحياة والعقاب والثواب والجنة والنار ص57) ويتطلع من نافذة الفندق الى حركة المارة مخمناً اسرار كل واحد منهم  ويتساءل مع نفسه عن امكانية طلب اللجوء الى الجنة ثم فجأة يأخذ حقيبته ويتوجه الى المطار، وبعد اسهاب في وصف المطار والاجراءات ــ وكلها تفاصيل لم تضف شيئا الى جوهر القصة ــ وفي الصالة عند البوابة الاخيرة من المطار يواجه عارضا صحيا يتخيل فيه المسافرين الذين في الصالة وقد تحولوا الى كائنات غريبة (شاهدت كائنات غريبة ومخيفة، بعضهم برأسين وغيرهم بآذان طويلة منتصبة، اخرون بقرون ملتوية وذيول .... ص63) وعند صحوته من هذا العارض يهرع الى الطائرة التي اوشكت على الاقلاع وفي كرسي الطائرة يعيش كابوسا اخر هو سقوط الطائرة ويتخيل نفسه في الجنة بين الحوريات ولا يصحو من كابوسه الا بعد نداء المضيفة تأمره بمغادرة الطائرة لوصولها ارض المطار ومغادرة جميع ركابها .

ويجد الكاتب صعوبة في التخلص من نمط الشخصية المضطربة التي هيمنت على عالمه القصصي فحاول في عدد من القصص اعادة التوازن النفسي لشخصياته الا انه سرعان ما يعود الى ذات الشخصية التي تشعر بالخواء والعجز والمبتلاة بالأرق وهذا ما كشفت عنه قصة (ليلة بشعة جدا)، فشعيب شاب يصيبه الأرق من تناوله فنجان قهوة ويعتقد انه اخطأ في مقادير تحضيرها ويجعل من الأرق رفيق ليلته يتبادل معه الذكريات ويقوم فيها الأرق على استفزاز ذاكرة شعيب باستحضار حوادث مرت به في الماضي من ايام الابتدائية والثانوية والجامعة ومن ثم فترة العسكرية  ولا ينفك الأرق من تدمير شعيب بالكم الكبير من الذكريات حتى بعد ان يرفع رايته البيضاء بقوله (ان الكل ميتون) .

ويحاول الكاتب تقديم نمطا اخر من الشخصيات المأزومة المصابة بمرض الوسواس والايمان بالنحس والشؤم وذلك في قصة (ما بعد الحداثة) حيث ينتاب البطل شعور غريب يتلخص في ان حقيبته التي اشتراها منذ مدة طويلة هي سبب انقطاعه عن السفر ويرى ان حقيبته القديمة التقليدية الخالية من أي مظهر للتطور قد رزقته طيلة خمسة عشر عاما بعدد كبير من السفرات على عكس حقيبته الحديثة الكاملة المواصفات التي توقفت سفراته منذ شرائها لهذا يبقى متعلقا بالحقيبة الأولى رغم الصوت الذي يأتيه من الغيب يؤنبه على ولعه وتشبثه بالماضي . ويستمر الكاتب في تقديم الشخصيات الغريبة الأطوار مثل بطل قصة (بقايا انسان) الذي هو نزيل احدى المصحات وشخصية البطل في قصة (حوار خارج المألوف) الحائر في تساؤلاته عن اسباب عدم حق الجماد من كراسي وملاعق الاعتراض والمشاركة في الحوار والنقاش الذي يدور بين الاصحاب في جلساتهم ويجيب على سؤاله يمكن ذلك لأن (بعض الاحياء المشاركون هم في حقيقتهم جمادات ناطقة ص 132) .

وفي عدد من قصص المجموعة يتخذ القاص من المفارقة والمقلب والنكتة المفرغة من الدلالة موضوعا لها وهو ما اعتمده في قصة (قبيل دخول الجنة) التي يضع شخصيتها الشاب الجنوبي " فيصل " في مأزق عندما يلبي دعوة صديقته الفتاة الثرية لتناول الغداء في مطعم فاخر مطمئنا من انها ستتولى دفع الحساب لكنها تغادر المطعم وتتركه حائرا في كيفية تسديد قائمة الحساب الباهظة التي لا يملك حتى ربع ثمنها وتعود في اللحظة الاخيرة لإنقاذه من الورطة، ويسري الحال  ايضا على قصة (إفطار آخر صيف) التي تجمع بين المفارقة والقلق فالبطل يعيش أرقا غريبا ويراقب عقارب الساعة العاطلة عن العمل ثم يتوجه الى المطبخ لإعداد فطوره المفضل بيضة مقلاة بالزبدة وتأبى البيضة على الانشطار والاندلاق في المقلاة مما يضطر الى القاءها بقشرتها الى المقلاة وعند انتشار رائحتها وجاهزيتها للأكل يفقد شهيته ويذهب الى فراشه بعد ان يكتشف انه اختار بيضة مسلوقة . أما قصته (الزواحف الكوميدية) فهي لا تعدو أكثر من تعاليم عن كيفية اصطياد حسناء اثناء السفر، وكذلك قصة (مهمات خارجية) فهي الاخرى لا تخرج عن اطار النكتة ففيها أب يعاني مشكلة تقاعس الابناء عن رمي كيس النفايات الأمر الذي يضطره الى حمل الكيس بنفسه والتوجه الى حاوية الأزبال والذي يتوجب عبور الشارع العام وبسبب الحاح سائقي سيارات الاجرة على الركوب يضطر الى الصعود في واحدة والطلب من السائق انزاله عند اقرب حاوية مما يثير غضب السائق الذي اعتبر الأمر سخرية منه وفي الاخير يعود الأب مع كيس النفايات لعدم الاهتداء الى الحاوية .

ان قصص (محاولة اللجوء الى الجنة) وكما اسلفت زخرت بالشخصيات غريبة الأطوار التي تجمع ما بين المأساة والشفقة والتي الفناها عند كتاب عالميين وقد أعادها الى الأذهان القاص "سعد نزال " بثوب وحكاية جديدتين، وفي الأخير عندما تقرأ لقاص يخوض تجربته الأولى في كتابة القصة تتوقع ان تجد ارتباكا في توظيف تقنيات السرد وانفلاتا في السيطرة على مسار الأحداث بحكم قلة التجربة ولكن مجموعة (محاولة اللجوء الى الجنة) جاءت على مستوى عال من النضج الفني والتحليل النفسي لشخصيات القصص وبالتالي تعد المجموعة مكسبا للسردية العراقية .

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم