قراءات نقدية

مصائر الحبّ والرّحيل.. قراءة في قصيدة: سيرينادا لحبّ أبيض للشّاعر التّونسي نزار مجاهد

madona askarتحت الشّبّاك المكسور

أنّات القيثار... غبار

يصّاعد من وهن الأوتار.

والعاشق يلعب آخر سهم في جعبته المثقوبة.

حنجرة ملتهبة...

يسقط منها صوت مشروخ ...

لا تلميح ولا تضمين ولا إسرار.

تحت الشّبّاك المكسور

تقبع قصّة حبّ بيضاء

وبقايا أغنية...

للعشّاق الفقراء...

والثّوار.

2-

في أغنية "الرّاب" المحمومة

غنّى جلباب أبيه المثقوب

غنّى سلّة أمّه تأتيه

محمّلة بالجوع الدّوري

غنّى تحت صقيع الحيّ الفولاذي

أدمى أنمله في وتر القيثار المسعور

غنّى حبّا طفليّا كان يلاقيه

على حافّة حلم محموم

غنّاها...

سمّاها ...

بكلّ الأسماء الممنوعة والمشروعة

قال لها وهو يهمّ أمام رصيف الرّؤيا:

- دلّيني كيف أغوص ولا أبتلّ بماء المتوسّط،

قالت:

- من بعدك يحصي حبّات القمح بذاكرتي؟

من بعدك يحفر اسمي في معصم أشجار الصّفصاف؟

--- كانت تتمايل سكرى قرب الشّاطئ

أشجار الصّفصاف ---

قال:

- أعود مع الأحلام الصّيفيّة

ثمّ ترجّل عن قيثاره...

ألقى بعصا التّسيار وكيس الزّاد على كتفيه

ومضى كالنّورس

ريح تبعده...

وصدى يدنيه.

3-

وحده ذاك الزّبد المتصاعد

من أحشاء المتوسّط

يجمع أشلاء الشّعراء

وحده ذاك البحر...

وحده ذاك البّر...

ما أرحب صدرك

يا خضراء!

.....

- القراءة:

حقّاً قال الصّغير أولاد أحمد: "نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد".

ذاك الحبّ المضمّخ بالحنين والشّوق، إلى تونس الّتي تظهر في قصيدة الشّاعر نزار مجاهد، حبيبةً متجذّرة في النّفس، ممتزجة بالأنفاس، مستنفذة كلّ قوى العشق. حتّى وإن تباعد أبناؤها، أو نووا الابتعاد، يبقى صداها يُسمع في دواخلهم حتّى يعودوا أو يقرروا عدم الرّحيل.

يبدو التّعب واضحاً على حركة الشّاعر في النّصّ. قلبه المثقل بالحزن والألم قابع تحت شبّاك مكسور يغنيّ لمحبوبته بأنفاس تكاد تخرج بصعوبة. إلّا أنّه يغنّي إجلالاً لها على الرّغم من الوجع والتّجاذب بين الرّحيل والبقاء.

تحت الشّبّاك المكسور

أنّات القيثار... غبار

يصّاعد من وهن الأوتار.

يجسّد الشّباك المكسور الحال المزري الّتي وصلت إليه البلاد، ولعلّه يشير إلى وجع تونس نفسها. كما يقودنا المعنى الضّمنيّ إلى سبب الوجع المرتبط بغياب الأبناء، أي هجرتهم من البلاد. ولعلّ الشّاعر ذاته مزمع أن يرتحل عنها، أم أنّه يترجّى هذا الفعل. (والعاشق يلعب آخر سهم في جعبته المثقوبة).

السّهم الأخير، النّفس الأخير الّذي يكاد ينفد. فالشّاعر يعتزم الارتحال لشعوره بفقدان القدرة على البقاء. لكنّه عاشق، وإن فرغت جعبته، فيعزف من وجع، من لا شيء إذا أتى العزف للمحبوبة. (حنجرة ملتهبة...

يسقط منها صوت مشروخ...)

صوت الشّاعر أشبه بمن ينازع من شدّة الألم. بيد أنّ هذا الألم معنويّ أكثر منه حسّيّ، فكأنّ أحشاءه تتقلّص من الكآبة فيختنق الصّوت، صوت الشّاعر العاشق. ما تعبّر عنه الحنجرة الملتهبة. وهنا يظهر العشق حتّى الرّمق الأخير. وقد يبدو شاعرنا مؤدّياً لسيرينادا وداعيّة، يعزفها حاملاً في قلبه مآسي الفقراء والثّوار، العاشقين الحقيقيّين للبلاد. أولئك الّذين يعشقون البلاد لا لسبب إلّا العشق.

قصّة الحبّ البيضاء القابعة تحت الشّبّاك المكسور، المترافقة وبقايا أغنية تحمل واقع البلاد المتجاذب بين الحاضر والماضي.

في أغنية "الرّاب" المحمومة

غنّى جلباب أبيه المثقوب

غنّى سلّة أمّه تأتيه

محمّلة بالجوع الدّوري

غنّى تحت صقيع الحيّ الفولاذي

أدمى أنمله في وتر القيثار المسعور

غنّى حبّا طفليّا كان يلاقيه

على حافّة حلم محموم

واقع مرّ يمتدّ من الماضي. وإن دلّت أغنية "الرّاب" على أمر فهي تدلّ على لغة الشّارع، أي اللّغة التّلقائيّة والبسيطة غير المنمّقة، الّتي تسمّي الأشياء بأسمائها. فتعبّر عن الأسى والألم بوضوح دون تجميل الشّعور أو الكلمات.

ما سيقودنا إلى تلمّس حقيقة رغبة الشّاعر بالارتحال، والابتعاد عن هذا الواقع، أسوة بكثيرين هاجروا وتغرّبوا.

قال لها وهو يهمّ أمام رصيف الرّؤيا:

- دلّيني كيف أغوص ولا أبتلّ بماء المتوسّط،

قالت:

- من بعدك يحصي حبّات القمح بذاكرتي؟

من بعدك يحفر اسمي في معصم أشجار الصّفصاف؟

يظهر في هذه السّطور تجاذب الشّاعر بين الارتحال والمكوث. فهو يتوق إلى الغوص في جمال المتوسّط لكنّ عشقه لمحبوبته يشدّه إلى الالتصاق بها أكثر فأكثر. يرجو الغوص ويأبى الرّحيل. ولعلّ الصّوت الثّاني المفترض أن يكون صوت البلاد، أي تونس، يميل لأن يكون محاكاة للنّفس. فالصّوتان متداخلان دلالة على العشق الكبير وتماهي الشّاعر وبلاده. فتتأرجح أفكار الشّاعر وتتنافر الرّغبة بين ولوج البحر للارتحال، والبقاء لحماية التّاريخ والأرض. (من بعدك يحصي حبّات القمح بذاكرتي؟/ من بعدك يحفر اسمي في معصم أشجار الصّفصاف؟).

لا تختصّ عبارة (بعدك) بالشّاعر وحسب بل لزم أن تلمس كلّ مواطن. فالشّاعر يمنح محاكاته آفاقاً أرحب لتطال كلّ قارئ يسعى إلى الارتحال عن البلاد، أيّاً كانت الدّوافع. ما تشير إليه جملة (أعود مع الأحلام الصّيفيّة). هي العودة المتجدّدة بالحلم والفرح والسّلام.

سيتلمّس القارئ عزوف الشّاعر عن الرّحيل. تشدّه رياح الواقع إلى الاغتراب، وأمّا صدى تونس فأقوى في نفسه. وعشقها أرحب من المتوسّط نفسه. وحضورها العشقيّ في قلب أبنائها أشبه بحبال تجتذبهم للتّجذّر بكينونتها.

وحده ذاك الزّبد المتصاعد

من أحشاء المتوسّط

يجمع أشلاء الشّعراء.

وحده ذاك البحر ...

وحده ذاك البّر...

ما أرحب صدرك

يا خضراء!

لقد اجتمعت في هذا النّصّ عناصر الواقع المؤلمة، فجسّدها النّصّ لحناً حافلاً بالألم، يمسّ الوجدان ويدفع العقل لتأمّل هذا الواقع بكلّ ما تشير إليه دلالات الألفاظ، ليكون ثمّة موقف يتّخذه الشّاعر والقارئ تجاه قضيّة تمسّ وجوده وارتباطه ببلده، تمثّل قصّة حبّ أبيض في لحن، يرجو له أن يكون محمولاً على وتر الفرح.

 

مادونا عسكر/ لبنان

 

 

في المثقف اليوم