قراءات نقدية

المقـاربة الاجتمـاعيـة في مسرحيـة " ابن الرومـي في مُـدن الصفيــح"

alhusan bshodتتحدد دلالات المقاربة الاجتماعية في مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" من خلال استقراء الاسقاطات الأفقية والعمودية لمجمل المؤثرات من شخوص و فضاءات و أزمنة وأحداثا و خطابات.

أيًّا كانت الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشها ابن الرومي في بيئته العباسية، فإن ابن الرومي (المعاصر) والقاطن في مدن الصفيح، يعري لنا كثيرا من العيوب والآفات والقلاقل الاجتماعية، أبرزها وأوضحها؛ الفارق الطبقي والبوْنُ الشاسع بين الأغنياء والفقراء، فالمسرحية تسلط الضوء على التشكلات الطبقية التي اكتسحتْ العالم العربي، منذ السقوط الأكبر وتفتت الدولة الأم، وانتشار الحدود وبروز البرجوازية بأبشع صورها، وغياب الطبقة الوسطى الموازنة للنظام الطبقي في المجتمع.

لم تعد القضية مجردَ فقير في مقابل غني، بل القضية أكبر وأعقد، لقد أصبح التمايز حتى في الإنسانية، فالطبقة الفقيرة المعبَّر عنها في المسرحية، تعاني فوق الفقر افتقارُها للكرامة  ولأبسط مقومات الإنسانية. فمدن الصفيح حالة معبِّرة، ولا تحتاج الى كبير عناء لتوصيف حالة طبقة معدومة ومهضومة الحقوق في مجتمعاتنا العربية، واختيار هذا الفضاء (دال جدا)، ويوصل الفكرة بآلية مباشرة. تغني عن كثير من الشرح والتفسير والتفلسف.

الروائي برشيد خبِرَ المادة التراثية جيدا، وإذ يستدعي مدن الصفيح في مسرحيته، فإنه ضمنيا يجعلها مقوما من مقومات تراثنا العربي، لذيوعها وشيوعها وكثرتها وبؤس أهلها وقاطنيها.    

يتأسس البعد الاجتماعي في المسرحية أساسا على  التفاوت الطبقي، والصراع بين فئات المجتمع، في مسرح ضخم ومخيف اسمه المدينة. هذا الفضاء قاس وجاف ومهول ومليء بالمجاهل، تتداخل فيه الأزمنة، وضحاياه الأُوَّلُ هم الفقراء.

لقد عاش ابن الرومي في القرن الثالث الهجري، حياة مِلؤها الخوف والفقر والتكسُّب، وأُمطرتْ عليه المصائب من كل جانب (فقد تعرض على مدار حياته إلى كوارث جمة ونكبات عديدة ، قطعتْ عليه كل أمل في التفاؤل، ومن بين تلك المآسي ضياع ثروته، واحتراق ضيعته، وسرقتُ داره، وهجوم الجراد على زرعه، وانتزع منه الموت أفراد عائلته واحدا إثر الآخر، وبعد زواجه ماتت زوجته وأولاده الثلاثة) مما أثر عليه وطبع فيه شخصية الشؤم والتطيّر، فشخصية ابن الرومي تجسد الشخصية غير المحظوظة، التي تتعقبها الكوارث والمصائب أينما حلت وارتحلت. وحضوره في المسرحية نوع من أنواع الشؤم الذي يطارده أينما حل وارتحل. بل واعتباره شؤما على من حوله.

فالبعد الاجتماعي في المسرحية ينبني أساسا على الصراع، (صراع الإنسان)، صراع الطبقات، صراع الفقراء والأغنياء، صراع البؤس والبذخ، صراع الفوقي مع السفلي، صراع المظلوم مع الظالم. صراع المهضوم مع الهاضم، صراع الكرامة ضد الذل، صراع المساواة مع التفاوت، صراع المشاركة مع الاستغلال ...،

فالمسرحية تعري حالة مجتمعية مستشرية ومتفشية أنتجتها المدينة؛ وهي حالة الهامش أو الهامشية، وهي حالة من الإقصاء لفئات عريضة من الناس، أعوزتهم الحاجة فتقيَّأتهم المدينة إلى الضواحي، وسلبتْ منهم حقوق الآدمية والإنسانية. فصاروا مغضوبا عليهم، وصارت حالهم البئيسة نوعا من العقاب المستحق، كتكفير لهم عن ذنب لم يقترفوه ولم يطلبوه ولكن فرض عليهم قهرا وقسرا، ألا وهو الفقر.

تتطور الأحداث الاجتماعية في المسرحية، ليكتشف ابن الرومي سبب ألمه ومعاناته الحقيقية، وتشاؤمه والمتمثل في الانعزال والوحدة، ولوم الذات والتطير والتخوف من كل شيء، ثم يقرر الاندماج والانخراط مع محيطه، وتغيير شخصيته المنطوية المتوحدة والمتشائمة، إلى شخصية احتفالية نشطة ومتفاعلة.

الوجه الآخــر للمدينة (دور الصفيح):

بعد إبراز الصورة القاتمة والدراماتيكية للمدينة، ومظاهر الصراع الفئوي فيها، ومعيارية التشييء للإنسان، واستبدال العلاقات الإنسانية بالعلاقات النفعية والاستغلالية، واستعراض جشع الرأسمالية وتغوُّل الليبرالية الاقتصادية والفردية، وفرض قانون العولمة، وقتل القيم والأخلاق، وتحجيم حضور الأصالة والخصوصيات الفكرية والحضارية للشعوب لحساب الهيمنة الاقتصادية والتجارية، مما جعل من المدينة، فضاء خطيرا ومتوحّشا وقاسيا ومخيفا، تنعدم فيه كل مظاهر الإنسانية والرحمة، وتشيع فيه المصلحة والاستغلال والتفاوت. والمال والسلطة والنفوذ، هو المبدأ  والأساس الوحيد للتفاضل وليس شيئا آخر.

تنتقل المسرحية في مشاهدها إلى إبراز صورة تلاحمية تضامنية نابعة من هذه الأحياء الصفيحية، إنها حالة من الاحتضان والتكافل والتآزر والحب والتآخي الذي يتدفق بين بيوتات تلك الاحياء الحقيرة، التي يعلوها القصدير وإطارات العجلات وأكياس البلاستيك وكل أنواع الخردة، وتعوم في برك من الطين والوحل التي لا يفارقها الذباب.

وتحاول المسرحية أن تصور لنا أن ثمة سعادة عامرة تسعى بين هذه الأكواخ، وحالة من التآزر والترابط المجتمعي والأسري، والتواضع والتعاون تسود هذه الرقعة. وأن هذا الفضاء له من السعادة والبهجة الايجابية نصيب، وأن الحياة ممكنة في هذا الفضاء، وهذا جلي في المقاطع التي تناولت حوار (ابن الرومي وأشعب المغفل).

لقد سعتْ المسرحية الى تعديل وموازنة الصورة الرائج حول  الضاحية أو الاحياء الصفيحية الهامشية، باعتبارها وكرا للفساد والانحطاط والاستغلال و..، موازنة هذه الصورة بصورة أخرى أكثر إيجابية وأكثر توازنا، تعرض للبعد الاجتماعي النموذجي السائد في هذه الاوساط، وقوامه الأساسي التكافل والتآزر والتآخي والتعاون.

 

بقلـم: حسيـن بشــوظ.

 

 

في المثقف اليوم