قراءات نقدية

لمحة نقديّة في نصّ للشّاعر التّونسي محمّد بن جماعة. جدليّة الحرّيّة الذّاتيّة في نور الشِّعر

madona askar"أطيعك لحظات..

لأنغمس في اللّون

الّذي اختارته حروفي..

تحملني على ظهرها

في هودج مهيب..

نحوك أيّتها المرتفعة بوجودي

اليوم اختلف أسلوبي!.. "

................

يرتسم في هذا النّص الشّعريّ اتّحاد علائقيّ أراده الشّاعر محمد بن جماعة وجوديّاً اختباريّاً من جهة. ومن جهة أخرى ماورائيّاً كعلاقة روحيّة متماهية  واللّحظة الوامضة في نفسه. وإذ يستهلّ الشّاعر نصّه بمبدأ الطّاعة فليكون عبوراً نحو حرّيّة خاصّة يسعى إليها، ألا وهي الحرّيّة المنبثقة من الوحي الشّعريّ. (أطيعك لحظات/ اختارته حروفي).

يظهر هذان السّطران تضاداً لغويّاً، بيد أنّهما يترادفان في العمق. فالطّاعة من حيث الانقياد يقابلها الاختيار. ما يدلّ على مفهوم خاص للطّاعة عند الشّاعر، ألا وهو السّبيل إلى الاختيار. وإذا كانت الطّاعة هي حياة التّسليم (أطيع/ أنغمس)،  فالاختيار مرتبط بها لأنّ الشّاعر حدّدها بكلمة (لحظات). وكأنّي بها  الدّرب  المؤدّي إلى حرّيّته.

أطيعك لحظات..

لأنغمس في اللّون

الّذي اختارته حروفي..

لا يحدّد الشّاعر ماهيّة اللّون، وذلك ليمنحه مبدأ الوصول إلى نقطة التقاء بين اللّون والحرف. وإذا ما بلغها تحقّقت الحرّيّة. الطّاعة المبلّغة المزيد من الانغماس في اللّون المختار، تحلّق بالشّاعر وتنقله من الحرف بالمعنى الحقيقيّ إلى الحرف بالمعنى الكونيّ، أي اللّغة. وبهذا يستحيل الشّاعر ذاته لغة، لأنّه انقاد للوحي الشّعريّ فكتبه بحروفه المختارة. وإذا ما ارتفع الشّاعر ارتقى إلى نقطة الانطلاق (نحوك أيّتها المرتفعة بوجودي). والارتقاء لا يعني بالضّرورة انتقال الشّاعر من حالة أرضيّة إلى الحالة الشّعريّة، وإنّما هو التدرّج داخل الحالة الشّعريّة. فالمعاني المتضادة المتماهية  دلّت على خروج الشّاعر عن الخطّ الواقعيّ، وانغماسه في الواقع الشّعريّ.

بيد أنّ شاعرنا يعي تماماً بلوغه هذا المقام، حتّى وإن خضع للوحي الشّعريّ. (اليوم اختلف أسلوبي!.. ")

(اليوم/ الآن/ اللّحظة)، لحظة انسكاب صفاء الشّعر في نفس الشّاعر وتأوين القصيدة. فلفظ (اليوم)، يعني كلّ يوم، وكلّ آن، وكلّ لحظة. وبالتّالي يدلّ على التّجدّد الشّعريّ، وتجدّد الحالة مع المحافظة على ذات الارتقاء.

ولئن بلغ الشّاعر حرّيّته الدّاخليّة نهلت نفسه من نور الشّعر واستحالت القصيدة لغة تواصل بينه وبين المحبوبة. (اليوم اختلف أسلوبي)، عبارة نقلت الشّاعر في ارتقائه من تسليم للوحي إلى تماهٍ إراديّ معه.

 

مادونا عسكر/ لبنان

في المثقف اليوم