قراءات نقدية

مسار غازي: الصنمية وتغييب العقل في رواية أبي زيد القهرماني للكاتب ناجي التكريتي

تمارس السلطات الشمولية وعلى مرَّ العقود، وعلى الصعيد الاجتماعي فنون المخاتلة والوهم، لكي تجعل التابعين لها ينهلون من رحيق هذا الخدر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، وينغمسون في نعيم الوهم الأبدي مغيبين عن الواقع، والعقل والمنطق، والتفكير، وعن مجريات الأحداث.

إن ثقافة الوهم التي تصنعها السلطات المستبدة وتوجدها في أفرادها لا تقوم بالضرورة على الخداع والكذب، بل هي تزرع هذا الوهم  وترسخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال، والعاطفة . فضلا عن أن الادبيات الشمولية النفعية مفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات، واليقينيات الماورائية المطلقة. فهي تحاول أن تقدم تفسيرًا للواقع المعقد بشكل يجعله متسقًا ومنطقيًا، ومقبولا لجميع المنضوين تحت لوائها، كما تحاول إحاطة هذا الواقع بهالة من القداسة العقدية؛ ليكتنف شتى جوانب الحياة الاجتماعية بشمولية صارمة تهيمن على حياة الأفراد.

في الدولة الشمولية لاوجود للفرد ولا يعرف الا بوساطة علاقته بالمجموع، وتصبح الدولة المطلقة والمقدسة مشروع عبادة حقيقية، كما يجري عسكرتها لتحقيق أكبر قدر من الهيمنة على الأفراد والسيطرة عليهم، وهو ما سعى النص الروائي الى قوله بوساطة فرمان سلطان دولة الحجر الأعظم: (فرمان سلطان حجر الانس والجان ... أيها الناس في كلِ مكان أنَّ قوانين دولة الحجر واضحة لا تحتاج الى شرح وتفسير . تقول الفقرة الزعرورية في دستور دولة زعرورستان الحجرية، أن كل من يخالف تعاليم وأوامر ونواهي مليكنا المعظم، حفيد السلالة الحجرية المقدسة . يرجم بالحجر حتى تزهق روحه وحتى يكون عبرة لمن اعتبر// الرواية صفحة158) يكشف النص عن محاولة احتواء العقول ووضعها في عبودية دائمة، لقمع أية رغبة في التمرد واستئصالها من منبعها، وذلك بوساطة إلغاء النية في ذلك مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية السائدة، فهي حالة من حالات تجميد أي حراك قد يحدث على مستوى البناء التحتي للدولة. بل وتجميد مجرد التفكير به، ومن ثم يتم الحفاظ على البناء الفوقي وضمان بقائه كما يخبرنا النص (واخيرا يا رعية السلطان. اياكم والفتنة، فإنها ما دخلت دار قوم حتى فرقتهم وأذهبت ريحهم. انصحكم بالهدوء والابتعاد عن اماكن الشغب. وقانا الله واياكم وساوس الشيطان// الرواية:124) السلطات الشمولية مع رفضها الاعتراف بالفرد، تدفع العقل الانساني الى التخلي عن حريته حين يقتصر المدى الذي يذهب اليه العقل على مجرد تلقي الاوامر المفروضة عليه وتطبيقها، وفي أحسن الاحوال إعادة تأويل تلك الاوامر وفق ما تسمح به السلطة التي تطرح على الفرد حينذاك يقينا مماثلا لليقين الإيماني الذي يعتنقه، وأن الخروج عليه يصبح نوعا من التجديف والزندقة، وتمتلك تلك السلطة القدرة على الفعل والتأثير بما يتجاوز إدراك الفرد حتى للأفكار التي تقوم عليها سياستها. فهو يطيع قبل أن يسأل كما في إجابة" القهرماني" على تساؤل صديقه "الحسام الجرجراني" عن موقف الناس من سياسة ملكهم الحجر الأعظم:

(- ماذا يعتزم الناس أن يعملوا؟

- سمعت أنهم سيقولون: نعم.

- وهل هناك غير نعم؟

- انهم تعودوها.

- متى تعتقد أن سكان وادينا سيقولون: لا؟

- لا اعتقدهم قائلين........ الرواية:54)3947 ناجي التكريتي

يسعى النص الى أخبارنا بأنه هكذا يجري إعداد الفرد في هذا السياق منذ نعومة أظفاره، ليأخذ الأمور كما هي دونما مجادلة أو تساؤل، أو تطلع الى التغيير، فهذا النمط المجتمعي الخاضع دوما يغذي بذور الاستبداد وينمي جذوره وفقا لمصالح الطبقة الحاكمة (تذكر فقط يا صاحبي أن هؤلاء الغزاة الوحوش الذين تشير اليهم قد وجدوا الشمس تتأرجح على حافات الأمواج فأسرعوا إلى طمسها في أعماق النهر، فلو كانت عالية حصينة لما استطاعوا الوصول إليها قط. أعني أن كل سلطان يتربع في قمة البرج، يحبس الشمس فيبقى الظلام هو المسيطر على الدوام.......الرواية:40).

وفي الوقت الذي عمدت السلطة الشمولية في النص الروائي قيدِّ الدرس الى استعمال المعطيات والمتاحات؛ من أجل تطويع الفرد وإخضاعه لمفردات ايديولوجيتها القمعية التي تؤكد اقصائه وهامشيته في المجتمع، في حصر أدواره في اطر ضيقة. اظهرت الرواية أن الثقافة لايديولوجيتها الشمولية قادرة على أن تكون عوامل منتجة ومحفزة لتشكيل خطاب معارض، أو ثقافة مضادة يتبناها الفرد ليواجه بها استراتيجيات المصادرة، والتهميش، والاختزال، كما هو الحال مع أبي زيد القهرماني، وصديقه الجرجراني (فهل الاجدر بنا أن نعيش في ظلام؟ أو نهجر وادي الظلام؟

- الاحرى بنا أن نجعل الشمس تشرق في وادي الظلام.

- ونهضا سوية، وما أن خلفا شاطئ النهر وراءهما، حتى كان أبو زيد القهرماني يناجي نفسه متأملا:

- أنا لا أستطيع العيش في وادي الظلام فأنا اذن موجود.

بينما كان الاخر يفكر بصوت عال:

- انا أريد أن تشرق الشمس في وادي الظلام، فأنا اذن موجود.....الرواية:58) يظهر النص أن  تلك الثقافة انتجت صورة  على وفق مقتضيات ثقافية أخرى تجنح نحو ضرب المنظومة الحاكمة الهاجعة والتمرد عليها (- ماذا يحتاج الأمر في تصورك؟

- الى اشعال الشرارة الأولى.

- أخاف الا يصدقنا احد.

- المهم أولا أن نصدق نحن انفسنا.

- اننا واثقان من الامر.....سيصدق بنا الاخرون اذن، الامر يحتاج الى عمل.

وقال ابو زيد اقهرماني:

- الحقيقة اردت أن اقول ...لماذا نعطي دائما الأهمية للاجماع؟ ولماذا نؤمن برأي الأغلبية ؟ ولماذا يقدس الناس الرأي العام.

التفت إليه الحسام الجرجراني موضحا:

- لا شك أن مجموعة عقول خير من عقل واحد والعقل الكلي أشمل من العقل الفردي وعقل الجماعة أبعد نظرا من عقل الفرد... ولكن مع هذا قد يبدع عقل ما لم يستطع أن يبدعه جيل بأكمله.. وقد يكتشف عقل طريقا سليما على الرغم من عدم ايمان الاخرين به....الرواية :82)، إن الفرد بوساطة حركته وفعله في المبنى السردي برز بوصفه مهيمن ناتئ، ومحورا مركزيا يغذي البنية السردية بما يضخه فيها من تلميحات مضمرة حينا، وتصريحات مباشرة حينا اخرى، فكان الاحتجاج والتمرد، واللجوء الى المعرفي والثقافي من أهم الوسائل المتبعة للتخلص من عمليتي التنميط القسري، والوصاية المطلقة.

وعليه فإن متسع الحرية الذي وجد الروائي ناجي التكريتي نفسه فيه أسفر عن ولادة نص متنوع الأسلوب، والصوغ الفني المتراوح من بنية نص تقليدي إلى اقصى أشكال التجريب، لم يتجاوز فيه المحرمات السياسية حسب بل تعدى فيه كل الثوابت المنطقية، والتقاليد والقيم الشكلية المبالغ في صرامتها، فغدت الرواية جريئة كاشفة عن الاستراتيجيات الثابتة التي تعتمدتها السلطة الشمولية في التعامل مع المكونات المجتمعية الخاضعة لسيطرتها، أو تلك التي تريد اخضاعها، هذه الاستراتيجيات  تتمثل في ترويج فكرة الامتثال والتبعية، وترسيخها في الوعي الجمعي، وتجذيره في البنية اللاشعورية للأفراد.

***

د. مسار غازي

 

في المثقف اليوم