قراءات نقدية

لمحة نقديّة في نصّ للشّاعر التّونسي محمد بن جماعة

madona askar"تعلّم كيف تحسّ بدبيب الرّغبة

قبل الكتابة بقبلتين..

تعلّم أن تلبس عراءَك

وكأنّك تموت!.."

...........

للعلمِ في الشّعر سبل أخرى، يصوغها الشّاعر ليتعلّم هو أوّلاً وآخراً، ويستشفّها القارئ ليتمتّع بالجمال الّذي لامسه الشّاعر في نفسه وأراده متجلّياً  في قلب الإنسان.

(تعلّم) الكلمة المحور في هذا القصيد الّذي يخاطب فيه الشّاعر إنسانه. فيتّخذ من شعره مقام المعلّم، مصدر المعرفة، المتمرّس في عوالم الشّعر.  ويحدّد لفظ (الكتابة)  بمعزل عن التّحسّس الصّراع القائم بين الشّاعر والإنسان اللّذين يتجاذبان. كما تدلّ على روحانيّة القصيد. فالشّاعر يرتقي إلى تلك العوالم السّحريّة وتشدّ الأرض إنسانه إلى أسفل. ولا ريب في أنّ هذا الصّراع صحّيّ وطبيعيّ إلى أن يبلغ الشّاعر ذروة الشّعر الّتي تفوق رتبة الإنسانيّة.

يدلّ على هذا الصّراع لفظين مهمّين في القصيد حتّى وإن لم تكن دلالتهما حرفيّة بحتة، (الرّغبة/ قبلتين). على المستوى الحرفيّ للّفظين يشهد القارئ الحضور الإنسانيّ الّذي تجتمع فيه الرّغبات والتّناقضات والصّراعات. فيدعو الشّاعر الإنسان الّذي فيه أن يتحسّس الرّغبة ليرتقي ويسمو قبل فعل الكتابة. ولمّا كانت الكتابة فعلاً حيّاً يُظهر ما ليس عليه الشّاعر الإنسان في الواقع، ارتقى الشّاعر رتبة المعلّم ليرفع الإنسان فيتماهى الاثنان ويصبحان واحداً. بمعنى أوضح،  يُظهر فعل الكتابة الحيّ الشّاعر لا الإنسان فيكون الشّعر مرآة يعاين فيها الشّاعر إنسانه ويتبيّن ضعفه وقوّته، فيتنازل عن الأولى ويرفع الثّانية. وفي اللّحظة الّتي يتحسّس إنسان الشّاعر كيفيّة  دبيب الرّغبة تسري فيه حركة الحياة وحيويّتها  فتتفجّر الكتابة الّتي ستوحّد الشّاعر بإنسانه. (قبل الكتابة بقبلتين). لا بدّ أنّ للقبلتين معنى روحيّاً مقدّساً ودلالة تناغم وانسجام وتلاصق، بل مصافحة عميقة بين الشّاعر والإنسان.

 في بعد تأملي نهيويّ يرنو الشّاعر إلى التّصادق مع الموت كفعل حرٍّ بامتياز. (تعلّم أن تلبس عراءَك

وكأنّك تموت"!..). لكنّ المعنى الفلسفيّ القائم في تعبيرَي العراء والموت، يخلص إلى تحقيق حرّيّة الشّاعر الأقوى من الموت. فلا يعلّم الشّاعر انتظار الموت كفعل حرّ، وإنّما يدعو إنسانه إلى التّحرّر قبل حضور الموت كقوّة فاصلة بين الحياة الأرضيّة والاكتمال في الحياة السّماويّة. فيكون للموت معنى الحاضنِ لهذه الحرّيّة. يتلقّفها ليقذف بها إلى دائرة الكمال الشّعريّ. ألا يقول الشّاعر نفسه:

"الموت..

حركة في سكون!.."؟

فإذا كان ما يُرى من الموت جماد ساكن ونهاية لاإراديّة، فما لا يُرى منه حركة ديناميكيّة  حرّة في سكون. وهنا يستخرج الشّاعر الحقائق من لبّ الحقيقة ليحوّل الموت إلى حركة تتفاعل مع حركة التّحرّر الّذي دلّ عليها العراء. ولكنّ الشّاعر يشدّد على التّحرّر بفعل تعليميّ كي لا يتفلّت إنسانه من العالم الشّعريّ ويبقى على مستوى الأرض. وسيأخذ التّعليم معنى الاختبار اللّاهوتيّ ليكون الشّاعر بمنزلة معلّم الحقائق،  والفلسفيّ المعبّر عن خلاصة تأمّل عميق بكينونة الشّاعر وفعل الكتابة، والاختبار الشّعريّ  الّذي سيقود الاختبار الإنسانيّ فينجلي الصّراع بين الشّاعر والإنسان ليبقى الشّاعر وحسب.

 

 

في المثقف اليوم