قراءات نقدية

"إحميد يا مصايب الله".. قراءة في مُفكرة طبيب عراقي:عشرون شتاءً

ali almirhigكتب حمودي نشمي مذكراته بوصفها "مُفكرة شخصية لطبيب وضابط عراقي مُهاجر"، هو الآن يعيش ويعمل طبيباً في أستراليا.

درس حمودي في كلية الطب بجامعة بغداد على نفقة وزارة الدفاع، وبعد تخرجه إلتحق بالكلية العسكرية، كي يكون ضابطاً في الجيش العراقي، وبعد إجتيازه للدورة العسكرية، مُنح رُتبة مُلازم أول بنجمتين على كتفه. بعدها تم نقله إلى المُستشفى العسكري في الناصرية، ليُباشر العمل فيه ضابط طبيب لأول مرة.

كتب حمودي نشمي سيرته التي سماها "عشرون شتاءً" على شكل سردية، لا يبغي منها شُهرةً، بقدر ما يروم تسجيل حياة مواطن عراقي عاش سني عمره في القهر والحرمان وبعدها في المهجر. وجدتها خريفاً لا شتاء فيها منذ عام 1996 وربيعه بدأ بعد عام 2002، بعد أن عمل في مُستشفى "المكلة إليزابيث". وشتاء السني الباقية وصولاً لعام 2016، كان بحاجة لشمس سومر وعراق الرافدين الذي يملأه دفئ المحبة وحرارة الشوق المفقود في شتاء بلاد الغربة.

كتب حمودي مفكرته التي عشنا نحن أبناء جيله كثير من مصائبه، عوز وحرمان وحصار وسلطة جائرة ورشوة في الجيش ودوائر الدولة وإنضباط عسكري يقبض عليك وأنت في غفلة حسابات لبطشه وتجاهل لجبروته، لا لشيء غير أنك لا تؤمن بآيديولوجيا حزبه التي لم يُنفذ منها سوى نزوعها العُنصري وسعيها لإقصاء المُختلف والمُعارض.

خسر حمودي أخاه ماجد في حرب "القادسية" مع إيران في عام 1982، وفي عام 1986، خسر أخاه الأكبر مهدي، تاركاً لهم زوجة وثلاث أيتام، ومع كل هذا آثر الصبر حمودي، فتخرج بمعدل عال يؤهله لدخول كلية الطب، فقد حرم نفسه من اللعب ومن الضحك والتواصل مع الأصحاب، ليُحقق بعض من أحلام أبيه الفلاح الذي سحقته عجلة الحرب والفقر، ولم يبق لحمودي من صديق سوى أخيه فاضل المُتمرد على النظام الذي لم يقبل الإلتحاق بجيش صدام، فكان مصيره سجن "الإنضباط العسكري"، ولو لم يكن أخوه حمودي الطبيب والضابط، لكان صيواني أُذني فاضل في خبر كان، فقد كان مصير "الهارب" من الخدجمة العسكرية آنذاك السجن وقطع صيواني الأذنين، للدلاة على تخاذله في خدمة العراق والتماهي مع رغبات حاكم أرعن.

لكن سوء الحال في الجيش العراقي وترديه وخراب النظام السياسي، جعلا حمودي يسعى للهروب من العراق، وقد حصل ذلك بالفعل، فقد رتب أمر هروبه أحد الأشخاص الذين تعرف بهم في الغراف حينما عمل طبيباً في المُستشفى العسكري في الناصرية، وقد رتب له هذا الشخص أمر هروبه عبر محافظة ميسان، وتم أمر تهريبه هو ومجموعة معه بعد أيام عاشوها بين أهل الهور تنقلا وسكناً، وبعد لأي وكد وتعب وخداع المُهربين وتركهم في العراء يواجهون مصيرهم وصلوا للأحواز عن طريق هور الحويزة، وبعد ترتيب له ولجماعته جاء شاب بسيارة تابعة للحرس الثوري الإيراني ليقلهم إلى مدينة "ديزفول" وبعدها تم إيصالهم لمدينة "قُم" في إيران، وبعد تزكيتهم من أُناس معروفين، عُرض على حمودي العمل مع تنظيمات "المجلس الأعلى" أو مع تنظيمات "حزب الدعوة" لحاجتهم لأطباء، ولكن ظروف مقدمه لم تجعل له ميسرة في قبوله بين أبناء المعارضة، ولأنه ما عاد يُطيق العيش بلا مال وعمل، وتحت ضغط الحاجة إضطر للعمل في "العمالة"، وهي مهنة ليست بالغريبة عنه، فهو أبناء مدينة "الثورة" مدينة الكادحين من المُهمشين والفقراء.

قضى وقت فراغه مهموماً بالقراءة، وبعد إطلاع واسع تبين له أن العراقيين حتى من هم في المعارضة "مُصابون بالوسواس الديني"، ولم يجد في أدبيات المُعارضة الإسلامية العراقية غير التعريض بنظام صدام، ولا دراية ولا علم لهم بأنظمة الحكم السائدة وبنظرياتها الأيديولوجيا وبنيتها المعرفية، ولم يكن للمعرضة من هم عندهم "سوى التنافس والتنابز"، وككان من إهتماماتهم مظهر الفرد و"إطلاقه للحية الذي يكاد يكون شُبه إجباري، إذ تبقى عُرضة لإتهامك بعدم التدين إن حلقتها"، "وعزل النساء عن الرجال".

1131 hamodiإستطاع حمودي مُراسلة صديقه "عُمر" الذي يختلف عنه في طبيعة الحياة والمعيشة، ويختلف عنه في أصوله المذهبية، فقد كان "عُمر" من سكنة زيونة وأبوه لواء رُكن في الجيش العراقي، ولكن "عُمر" لم يتعكز على منصب أبيه في التباهي أو في الحصول على إجلزة أو واسطة. ما يُميز "عُمر" صديق الكُلية الذي كان يسكن "الدنمارك" في ذلك الوقت  شهامته ونخوته التي لم تتوافر عند الكثير من أصحاب وأقارب حمودي.

إكتشف بعد زمن أن "الخروج من إيران أولى وأنفع، ففرص العمل مفقودة والعلاقات أو الإرتباط بأحد أحزاب المُعارضة لصدام هو من يُقرر فرصتك في إيجاد العمل والسكن". فضلا عن حاجز اللغة أيضاً، الذي كان من أسباب فقدان العمل، الأمر الذي لم يجعل له مناص في التفكير بترك إيران.

في خضم هذه المُعاناة، جاءت لحمودي فكرة الخروج من إيران لليمن، وكان المال هو العقبة الوحيدة، فأرسل لعُمر برسالة يُخبره برغبته لمغادرة إيران والفرصة مُتاحة، ولكنه بحاجة لألف دولار، فبادر عُمر بإرسال 300 دولار وطلب منه الإنتظار لحين إرسال المبلغ المُتبقي. وبعد جهد جهيد وسعي في تزوير جوازات السفر تمكن حمودي من الهجرة لليمن السعيد في عام 1997.

عمل حمودي طبيباً في اليمن، وبعد سنتين في العمل فيها، بعدها إستطاع السفر إلى سوريا، وبعد حين رتب أوراقه للحصول على جواز سفر عراقي رسمي عن طريق السفارة العراقية بـ "خمسين" دولاراً للسفر إلى ماليزيا، وبعدها إلى أندنوسيا، لتكون المحطة بعد محاولات فاشلة هي أستراليا.

في عام 1999 دخل حمودي إستراليا، فكان دخوله لها بمثابة الخلاص من جهنم و "دخول الفردوس"، وبعد مُعاناة في التنقل بين "كمبات" المُهاجرين غير الشرعيين وإضرابات مُتعددة تمكن المهاجرون ومن ضمنهم حمودي من إيصال صوتهم لـ "دائرة الهجرة" للإستماع إلى قصصهم، فتم إطلاق الكثير وحمودي واحد منهم للتوجه لمدينة "بيرث" عاصمة غرب أستراليا.

بعده طُلب من حمودي خوض إمتحان مُعادلة الشهادة الصعب، ولم كن حمودي مُستعداً لخوض الإمتحان لما مر به من مُعاناة، فآثر القبول بمبلغ المعونة ليشتري به بعض الملابس والسكائر.

بعد إستراحة "وجر النفس" كما يُقال باللهجة العراقية، أعاد حمودي الكرة، فتجاوز إمتحان اللغة الإنكليزية، وبعد طول زمن في قراءة كُتب الطب وإسترجاع ما نسيه، إستطاع تجاوز إمتحان الطب بنجاح، وبعد مُدة ليست بالقصيرة، تمكن من الحصول على عمل في مُستشفى كبير في ولاية "أدليد" جنوب أستراليا، فباشر في العمل في كانون الثاني من عام 2002.

بعد مدة قصيرة تم قبوله في مُستشفى الملكة "إليزابيث" التعليمي، وفي عام 2004 إستطاع حمودي الحصول على عضوية نقابة الأطباء الأسترالية بدرجة كامة بعد إجتيازه لأشد الإختبارات في الطب.

في عام 2005 إزداد شوقه لرؤية عائلته وأصدقائه في الناصرية التي عزفت أوتا قيثارتها شجنها السومري في بقايا الحزن والأسى الذي لم تشأ مُفكرته نسيانه، رغم صفو عيشه في مزرعته في أستراليا الذي لا يُعكَره سوى الثعالب وأخبار العراق الأليمة"، وذكرى مصيبة إحميد والتهجد بترديد تنغيمة الشجن العراقي "إحميد يا مصايب الله".

 

..................

1 ـ د.حمودي نشمي: عشرون شتاءً، دار ومكتبة عدنان، بغداد ـ العراق، ط1، 2016.

 

 

في المثقف اليوم