قراءات نقدية

تمرّدْ على الجحيم، ستنبت سعادتك من جديد

basma alshawali"تمرّد على الجحيم" مجموعة قصصيّة للكاتب التونسي فتحي العكرمي صدرت عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع خلال سنة سبع عشرة وألفين (2017). وتقع في ستّ صفحات ومائة صفحة من الحجم المتوسّط. وهي أضمومة من واحدة وعشرين قصّة تراوحت بين القصص القصيرة المتفاوتة في طولها والقصص القصيرة جدّا.

اشتغل فتحي العكرمي في " تمرّد على الحجيم" على ثيمة الحزن أحد سادة الجحيم الأكثر حضورا وسطوة ، ذلك الحزن القاتل خفية وبدأب(كاليتم والفراق والتهميش والاغتصاب والفاقة..) وبسرعة (كالانتحار والإرهاب..)، والمستفحل في الرّوح والجسد والفكر، معدّدا كلّ النّدوب العميقة التي خلّفتها جراح الماضي الغائرة وانتكاسات الرّاهن الخطيرة في الطفولة الهشّة والذّاكرة الحالمة والقلب العاشق والروح المتمردة، وقد تخيّر لها شخصيّات من القاع المظلم للحياة ومن الجانب الملقى أقصى الإهمال والتهميش من الوطن مذ كان مستعمرا إلى اليوم، فيعترضنا المجنون، والمنبوذ، والمختلون نفسيا وعاطفيّا، والفقراء حدّ الفاقة، واليتيم الذي لا يعرف لون الفرح إلا توهّما، والمحبّ المحاصر بلاءات القبيلة. هذا وقد دارت كل القصص في فضاءات ملائمة للمضامين المشتَغل عليها كحيّ هلال بالعاصمة والمناطق الريفية النائية ومشارف الصحراء والجفاف بالدواخل الغربية والجنوبية للبلاد. فمكانيّا، يتحرّك الراوي في مجال الديستوبيا، تلك الأماكن الرّاذلة حيث يسود الفقر والجهل والجفاف والأمّية ويعشّش "الحزن في الضّمائر والضّفائر"، وحيث سلطة القبيلة الجائرة تحرّم الحبّ وتحاصر المحبّين حتى يحمل ذلك شابّةَ عاشقة على الانتحار (قصة "الحنين إلى ذكرى فرح" ص25)، وأين أوتاد الخيمة في نسختها العصرية المعدّة للذّبح والاغتصاب ( قصة "تمرّد على الجحيم" ص57) تخترق حرمة الجبال والغابات الكثيفة، فضلا عن التبرّك بالأولياء الصالحين والتطيّر من العاهات الجسدية ("زهرة الموت ص 43). إنّها الأماكن " التي يموت على بابها الطّريق" بعبارة جورج أرويل، والتي على اتساعها وفراغ جنباتها هي كالسّجون تطمس الأفق وتخنق الحلم وتجعل " الأيام تسير على نفس الوتيرة مشبعة فقرا وصبرا" ( ص 30) بما يهدر الكثير من الطاقات الحيوية لسكان هده المناطق من فئة الشباب خاصّة، كشأن المجنون في قصّة "صهيل القلق" ، وتعرّض الشابة الصغيرة للاغتصاب من قبل السكارى بعد إجبارها على جمع الحطب من قبل زوج أمها، وتيه حورية بعد عودتها من مخيمات الإرهابيين، وانتحار فرح بعد قمع قصة حبّها..

أما زمنيّا، فيهيمن على قصص المجموعة السّرد كحالة سكون في الرّاهن/ زمن القصّ يتسيّده راو عليم في الغالب على حساب الحدث كحركة تتمّ داخل البنية الزمنية المسرودة، ويطغى فيها النفَس الاسترجاعيّ على الآنيّ فيما يغيب الاستباقيّ أو يكاد بما يمكن إحالته على السرّد النفسي المتأزّم المكبّل بسطوة آلامه الذاتيّة والغيريّة في آن والتي هي غالبا نتائج عميقة لما حدث في الماضي. الأمس هو غدنا و" من يتحكّم في الماضي يتحكّم في المستقبل"( جورج أورويل)، واليوم لحظة محكومة سلفا بالموت السّريع تتصيّدها "كان" لتلحقها سريعا بقائمة أخبارها المرفوعة إلى الرواة. فزمن القصص في هذه المجموعة ينتقل بين ماض بعيد : زمن الاستعمار أو بعيد الاستقلال، وبين زمن حاضر: ما بعد الثورة، وحتى في تناوله لمسألة الثورة كحدث معاصر في أفق التونسي، يحيل الكاتب على المرجعية الرجعيّة الموغلة في الوحشيّة والظلامية للإرهابيين المعتصمين بالخيام في الجبال كذبح الرجال، وقطع الرؤوس، واتخاذ النساء جواري وإماء، " أنا مجرّد وعاء يفرغون ماءهم فيه، ثم يلقونني إلى ظلمتي"، تقول "حورية" إحدى ضحايا هذه العصابات ( ص 60)، وعلى "الأخاديد المحفورة" في قلوب الضحايا التي يقع تصيّدها على غرار "حوريّة" تلك المرأة اللقيطة المنبوذة : "لك الله، يتبعك القهر منذ ان استقبلتك الدنيا.."، يقول لها عمران (ص 61) وتختم هي القصة بقولها المأزوم: " أنا عالة على الوجود مطعونة بخناجر اليأس مشدودة إلى كوابيس الجحيم" ( ص65)

 " الرّوح المأساوية هي ملهمة كل فنّ عظيم، لأنها علامة على صحة الفن دون انحطاطه إلى الدرامية والرومانسية، الروح المأساوية هي المحرّرة لقوى الطبيعة والمطلقة لها من عقالها (أم الزين بن شيخة ) وهذه الرّوح المأساوية ( والتي تكرّرت لفظتها ما يناهز ثلاثين مرّة على الأقل أغلبها وردت مسندة إلى ياء النسبة)،  هي التي رفرفت في سماء القصص كافة حتى في قصة الغرام المطمئن السعيد كما نقرأ في " شاطئ العشق"، مثلما سكنت أسماء الشخصيّات (فرح، سلوى، حورية، عمران، زهرة..).  أضمومة "تمرّد على الحجيم" لفتحي العكرمي غاصت في أعماق النفوس المتأزّمة باحثة بين طيات جراحها الكامنة عن أسباب للتمرّد ونفض ألواح العجز والرّضوخ تلك الأسباب التي قد تكمن في زهرة تنبت في الخلاء جانب بئر بعيدة، أو في هطول المطر بعد جفاف أو في حكمة المجنون "تتبع خطى التمرّد" وترعاها وتعلمّ الحزين" كيف يصنع زمانا جميلا تحت خيمة الغدر". تمرّد على الجحيم أيها الحزين " ستنبت سعادتك من جديد". تلك هي الرسالة الضمنيّة لقصص المجموعة.

 

بسمة الشوالي - تونس

 

في المثقف اليوم