قراءات نقدية

قراءة نقدية في قصيدة: زُحَليّة في استِتار الضمائر لجمال مصطفى

husan anbaralrikabi

قصيدة للشاعر جمال مصطفى: التناول بالنقد يعني أولاً أن المادة محَطَّ النظر قد تجاوزت عتَبَةً مُعيّنَةً ودخلت إلى دار الجدارةِ بالاهتمام والتفحّص. في هذا التجوال سأحاولُ أنْ أنظرَ للقصيدة في العموم أولاً، أتطرق بعدها إلى ما انزوى عن المألوف من مبررات للتناول بالنقد والغايات مِن ذلك، ثم أنظر فيما أظنه معايباً في القصيدة معتمِداً في ذلك بعض الأمر على المبررات والغايات تلك.

قصيدة من الكامل وأحد أصناف التام منه، من خمسةٍ وأربعين بيتاً مُرتّبةً على وقوع العجز أسفل الصدر لا قبالته مما يُعطي القارئ انطباعاً بالاستطالة قليلاً. لغةُ القصيدة متماسكة في معظمها عدا بعض تراكيب قاربت التعسف أو غابت عنها علامات الترقين، فأدَّتْ إلى غموض:

هيَ واحة ٌ حَـطّ الـقَـطـا سُـحُـبـاً

فـيهـا غـداً فـتَـقَـصّـفَ الأثَـلُ

 

هُـمْ يعـرفـون الـبابَ إذ طَـرقـوا

فَـتَـحَـتْ إذا بهـمو وقـد جَـفَـلـوا

 

أو مواضعَ كان بقاءُ (واو) الإضافة أو عِوَضُها، أَولى من زوالهما مِن مثل أمرها قبل (سألوا) هنا

هيَ ماسة ُالمعـنى بهمْ صُقـلَـتْ

وهُـمـو الذيـنَ تَحَـيّـروا، سألـوا

ومن نماذج الإحكام في البناء واتساق اللفظ :

هُـمْ لـيس يَـدري مَـن هُـمو أحـدٌ

كَـبَـتْ الـرؤى وتَـعـاضَـل الجَـدَلُ

(هذا على كونِ تعَضَّل أصوب من تعاضَل في تعاضل الجدلُ) . وهناك مواضع جمالٍ أخرى تُقاربُ الإحكام منثورة في القصيدة:

مُـتَـزَنِّـراً لَــمّــا يَـزلْ زُحَـلُ

حَـلَـقــاتُـهُ مِـنْ حَـولِـهِ حُـلَـلُ

فَـلَـكٌ ومـوسيـقى معـاً ورؤىً وسَلالِـمٌ صعـدوا بهـا، نَـزلـوا

مـنـزوعـة ٌ حَـلَـقـاتُـهُ زُحَـلُ :

مَـنـتـوفـة ٌ ريـشاتُـهُ الـحَـجَـلُ

****

ما هي مبررات تناول هذه القصيدة بالنقد؟:

أسلفتُ أعلاه أن القصيدة تجاوزت عتبةَ الجودة التي تؤهلها للتناول والجهد، وليس ذلك التجاوز – لو عَلِمتَ -بالهيّن اليسير المشاع. وفي الأمر دوافع شخصية للتناول فقد يرى القارئ ومعه صاحب القصيدة بعض العجَبِ في أني أحاول ببعض ما أقول هنا أن أُسدِّدَ نَفسي وشعري وما أنا عليه، إذْ أحاول أن أتمَعّنَ في خصالِ في النتاج موضعِ النقدِ بها شبهٌ ببعض ما أنسج. ولا أخفي كذلك أنني أطمحُ إلى أن أسددَّ مَن يَقترِبُ من الإجادة ويُخلِصُ في الجُهدِ ويُعطي مِن نفسهِ لما يُحب أي أني أطمحُ أنْ أسدِّدَ صاحبَ القصيدة الناظم لها. ومن كانَ له مثل هذه المزايا جديرٌ بالمنح وأثمَرُ للجهد وأقربُ إلى بلوغ غاية الإصلاح والصلاح. ومِن أملي أنّ محاولةَ تسديد الذات هذه، ستكون شافعةً لي فيما قد يبدو قسوةً في التناول وتَقَصٍّ في جوانب النظرِ يقاربُ الغُلوَّ، إذ أنَّ في بعض نواحي ذلك انتقادٌ للذات ودرءٌ لشبه الاستعابة لنزوةٍ ولانحراف طبع. والقولُ في نهاية الأمر نقدٌ لقصيدة يَنسجها آخرٌ صديق.

عمَّ تتحدّث القصيدة؟

 مِن الواضح أن القصيدةَ تتجنب التصريح وتبتغي الكتم. وهي فوق هذا تُظهرُ هذا النية وتُعلِنُ عنها بل وتتخذُها ركيزةً في البناء وأداةً –من الأدوات- في تصنيع الحُسن وتركيب الجمال. كان ذلك في عنوان القصيدة حيث (استتار الضمائر)، ثم في سياقها حيث (هي وهم) ضمائر بلا كشف:

هيَ فـوقَـهُـمْ نافـورة ٌ وقـفـوا

مِـن تَـحـتِـهـا مـا مَـسَّـهُـمْ بَـلـلُ

 

هيَ طعـنة ٌ في الروح إنْ ولجوا

منها الى أغـوارِها انـدَمَـلـوا

وتُعلِّنُ القصيدة عن هُويّتِها الاستجوابية، إن لم يكن عن لباسِها اللُغْزَوي ومنحاها " التشاكسي"، بعد ذلك:

مَنْ هُـمْ ومَـنْ تـلْـكَ الـتي شَغَـفـاً

لـلِـقـائِهـا حَـيَـواتِـهِـمْ بَـذَلَــوا

هل يمكنُ أنْ يكون هذا التساؤل مدخلاً وممهداً لمزيد من التوصيف وبالتالي لإضاءة أكبر على المقصود الكامن وراء الكتمان، وليس- أي التساؤل هذا-تأكيداً لطرح "تلغيزي" مقصود لذاته تعتمده القصيدة؟ يُمكِنُ ذلك كذلك. هل يختلف هذا الكتمان المُتعمَّد المقصود الساري في أرجاء القصيدةِ عن الرمز والرموز – واحتوت القصيدة على رموز فنية كثيرة-؟ وأكتفي بالقول جواباً إنَّ الرمز والرموز لا تُتَّخذ ستاراً مُعلَناً يُصرّح الشاعرُ عنده بغاية الرمزِ التكتيميّة والتكتُميّة على مقصودٍ مُعيّن بل يُطرَح الرمزُ كبديل فني لمقصودٍ مُعيّن (وليس الحديث عن صلاح الترميز أو عدم صلاحه جمالياً) .

هل أضاف هذا التكتّمُ المعلَن بعداً جمالياً للقصيدة وأغنى في تصوير المقصود وعَمّقَ من الكشفِ الشعرى عن الموصوف المَطلوب وقاد إلى بناء هياكل الشعر حوله، الهياكل التي تُكسُبه نوراً جديداً وجمالا. لا يبدو أن المنحى قد وصلَ إلى أكثر مِن كشفٍ جُزئي ومن تحبيبٍ غائمٍ مُصاحب لهذا الكشف. بمعنى أن القصيدة لَم تُصِب كثيراً وإلى الحد المأمول بهذا المنحى إحدى غاياتها المُرادة وسلكت طريقاً لا تُوصل إلا لِماماً للمطلوب.

هل التوصيف (للغاية الموصوفة) على اتقانه في كثير من مواضعه قريبٌ من التمجيد الرومانسي لهذه الغاية؟ والجواب على ما أظن هو بنعم. وفي هذه الرومانسية المُمَجدة جاءَ البيت الأخير، بسبب القسوة الواقعية العصرية فيه، مفاجئاً رغمَ أن البيت بارع بذاته المستقلة المنفصلة:

مـنـزوعـة ٌ حَـلَـقـاتُـهُ زُحَـلُ :

مَـنـتـوفـة ٌ ريـشاتُـهُ الـحَـجَـلُ

الرومانسية والرومانسية المُمَجِّدة، نغمةٌ بها شيءٌ من القِدَم، أحسّها وهي تَنكُصُ أمام جفاف وخشونة الخراب السائد. ولا أقصد بالخراب هنا الخراب الفيزيائي المرئي الملموس المستتب، لأن مثل هذا الخراب قد لا يتعدى أماكن من الأرض بعينها كعراقنا، بل أشيرُ مع ذلك النوع من الخراب إلى التناقض الصارخ بين المثال النظري السائد الغالب المفروض في العالم وبين الممارسة المتهورة الشاذة التخريبية لأصحاب هذا المثال وهذا النظر أو طريقة التفسير للأحداث والتاريخ. هذا هو المثال الغربي السائد إعلاميا وعسكرياً وسياسياً وإفرازات هذا المثال في مناطق كثيرة في العالم ومنطقتنا في الأخص. ولا أريد أن أقول إن على التناول الشعري للمواضيع المختلفة أن يستبدل الرومانسية الأولى بالاضطراب والتشقق والتناقض هذا، بل أقول إن هذه الرومانسية تبدو أداةً ناعمة هيَنة لا تمتلك الجسارة والاندفاع اللازمَين للتعامل مع هذا الواقع وهذا المثال وأطروحاته ونتائجه. أما ما هو التعامل الشعري الأمثل مع هذا السائد الحياتي فذلك أمرٌ قد لا يكون محددَ الملامح بعد، وهو لغة ومشاعر وصور الشاعر المُجيد والواعي اليوم.

هذا التواصل في الإشارة غير المباشرة إلى موصوف مُعيّن (قد يستطيع البعض التنبؤ بطبيعته بعد أبيات تطول أو تقصر) وإلى مريدين هائمين بهذا الموصوف، المداومة في ذلك لأبياتَ كثيرة: يَبدو لي وكأنه قادرٌ على خلقِ إملالٍ لغير المتخصص المُصرّ على مواصلة القراءة. هذا المتخصص الذي يواصل القراءة له في العادة مُحَفّزات لا تنتاب الكثيرين من القرّاء الذين يتوجه لهم خطاب الأدب. القُدرة على الشد والإمتاع والإشعار بالنمو من خلال أو مع النص، كلّها مواصفات يتطلبها النص الأدبي في عصرٍ تتنازع فيه الاهتمام الإنساني عشرات التلوينات والجواذب. (بطبيعة الحال مثل هذا الأمر بحاجة إلى تفصيل آخذين بالاعتبار عوامل من نوع جسامة الموضوع المطروح وطبيعة التفاصيل المحيطة والمصاحبة للموضوع المركزي والتي يَطرُقها الشعر – إن كان هناك ما يمكن أن يُسمّى بموضوع مركزي) .

خمسةٌ وأربعون بَيتاً في الوقت الذي أوشكت فيه على دفع القارئ إلى الكفِّ عن المواصلة، مع اللغز وعدم الإفصاح ومع خصوصية الموضوع لصنف من الناس بذاته، فأن هذه الأبيات الخمسة والأربعين بلغتها وخيالها وتجزيئها للتفاصيل تُدلل على مِكنة عند صاحبها على التحرّك والمناورة، وبالتالي القدرةِ على سلك مناهج مختلفة في القول والبناء وفي التلوين بألوانٍ جديدةٍ مُباينة. مناهج وألوان يمكن أن ينتقي منها أن أرادَ وسعى لما يُريد.

 

حسين عنبر الركابي

 ......................

للاطلاع

زُحَلِيِّة في استِتارِ الضمائِر / جمال مصطفى

 

في المثقف اليوم