قراءات نقدية

"كارل ماركس في العراق".. عمل أدبي بنكهة الفانتازيا

1221 furatمن مدخل الرواية الذي نقرأ فيه نصاً مقتبسا لكارل ماركس مأخوذ من مقدمة كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” الصادر عام 1859، ويلخص فيه نظريته "المادية التاريخية" وحتى لحظة هبوط الطائرة التي كانت تقله على مدرج مطار بغداد الدولي. كانت الصفحات الاولى من رواية  الكاتب فرات المحسن الصادرة في بغداد حديثاً بعنوان "كارل ماركس في العراق" توحي وكأن الحدث وقع بالفعل، بمعنى انه جرى في وقت ما. وكل ما كان يحتاج ليثبت واقعيته هو ذكر التأريخ.

يستهل المؤلف السرد الروائي بالقول على لسان بطل الرواية...

"الرسالة تبدو واضحة  وضوح  الشمس في  هذا  اليوم  المشرق الجميل. هكذا  فكر كارل ماركس وهو يعيد قراءة  مضمون الرسالة التي وصلته من بعض  مريديه في العراق . دعوة صريحة وكريمة لا لبس فيها، تظهر حاجتهم  لوجوده  بينهم في العراق.. " الصفحة 7

ولا لبس في هذا لو لا ان القارئ سرعان ما يكتشف بأنه مقبل على رحلة توظف فيها الكوميديا للتعبير عن واقع تراجيدي، وأن مجرد الحديث عن دعوة توجه الى كارل ماركس لزيارة العراق، هي بمثابة استدلال على ان ثمة مزحة في الأمر، أو هي نوع من الفانتازيا التي تخفي في طياتها دراما حقيقية جادة، نتلمسها في الحوارات والأحداث التي يواجهها ويتعرض لها بقساوة حد التعذيب الجسدي والنفسي هذا الفيلسوف المميز الذي استدعاه المؤلف من التاريخ لتفسيرما يدور في المجتمع العراقي من ظواهر، ليس من جانب نظري بحت، بل ومن خلال معايشة للاحداث اليومية وتعرضه لها وأصبح جزءا منها. فالكاتب اراد أن يفهم، ليس الواقع فحسب، بل وايضا سبر ما يدور بأعماق الاشخاص وافكارهم الدفينة، وما يجري داخل الذات البشرية واستشعار المستقبل.

ماركس يأتي الى العراق بناء على دعوة وجهتها له مجموعة يسارية شيوعية فوضوية، اعتقادا من اعضائها بأن "منهجية تحليلاته وبمقاربات المادية التاريخية والجدلية، سوف تظهر بصورة جلية طبيعة الحدث العراقي، مسبباته ووقائعه، ثم مخارجه وأيضا اسخلاص النتائج وتقديم الحلول" (ص 7). لماذا تأتي الدعوة من مجموعة فوضوية وليست من الحزب الشيوعي؟ ذلك ببساطة، يستشفها القارئ من خلال قراءة متأنية لسير الاحداث، بأن المؤلف لايريد أن تكون الرواية تقريرية مؤطرة بالتزامات جامدة، بل منفتحة على فضاءات تتيح للكاتب حلق عمل روائي يتداخل فيه الواقع بالفنتازيا، ورصد جدية الحدث من خلال ادب ساخر، يمنح الانسان جرأة التعبير ومقاومة الصمت و مقاومة التردد في اتخاذ الموقف. وهذه الاصناف التي تشير اليها الرواية بسلوكيات بعضها السلبية (الانتهازية والطائشة) موجودة في المجتمع، فأراد المؤلف، وباسلوب نقدي وساخر، أحياناً، يفضح زيفها، مستخدماً في ذلك مفردات شعبية تعطي للحدث نكهة خاصة. وهو لا يتوقف عند هذا الحد، بل تخبرنا الرواية عن نماذج اخرى من المجتمع، تتصرف بعفوية وبشعور انساني تلقائي، وهناك نماذج اخرى، بسبب ضعف ثقافتها ووعيها تبدو ساذجة في تصرفاتها، عالج المؤلف هذه الحالات الجادة بتوظيف الكوميديا كأداة  نقد لاذعة للمجتمع  وفضح التقاليد السلبية، وابراز الايجابية منها. والدخول الى عمق الحالة لابرازالصراع الطبقي والاجتماعي، مستعيناً برؤية الماركسية لفك لغز الصورة المعقدة التي تجسد المشهد العراقي وحركة المجتمع فيه. إذ نقرأ من خلال السرد الروائي افكار ماركس ونصوص مقولاته، في محاولة التوصل الى ما يمكن مؤائمته مع الوضع العراقي.

 وهو يعده للمجئ الى العراق، يجعله المؤلف كارل ماركس يفكر باستحضار باحثين معاصرين معه.

اذ نقرأ في الرواية بأن ماركس وبعد ان جهز حقيبة السفر الى العراق قرر ان يأخذ معه كتابين " الاول، بعنوان  Modern Social Imaginaries "المتخيلات الاجتماعية الحديثة" للباحث والفيلسوف الكندي تشارلز تايلر، وآخر بعنوان The Network Society. او "المجتمع الشبكي" للمنظر السياسي دارن بارني.

من خلال ذلك اراد مؤلف الرواية فرات المحسن يضفي على الحدث صبغة عصرية في زمن يشهد ثورة تقنية معلوماتية هائلة اوجدت مفاهيم جديدة لطبيعة المجتمعات وتناقضاتها. فكلاهما يحملان مضمون العصر الحالي. اذ يشير على لسان بطل الرواية ان محتوى كتاب تايلر " جدا راقٍ وذكي يتحدث عن تشكيل الهوية الوطنية، ومنابع الذات والحداثة والعولمة والدين، عبر فكرة المتخيل الاجتماعي". ويواصل بأن "هذا سوف أنتفع منه في استنباط  الطرق  لمعرفة  الكيفية التي يتخيل فيها شعب ما الحال الذي هو عليه. ربما الشعب العراقي يقارب معرفة وجوده الاجتماعي أن تطابقَ  ذلك مع الوقائع والحراك اليومي والعام للعراقيين".

أما فيما يتعلق بكتاب "المجتمع الشبكي" فذلك لأن مؤلفه دارن بارني "يتحدث فيه عن اقتصاد المعرفة  والعولمة، وحال الدولة القومية والثقافة والجماعة، ومعنى العمالة  والبطالة في العصر الرقمي. تلك  جميعا  سمات  مشتركة لجميع شعوب العالم" الصفحة 11.

أحداث الرواية التي تجاوزت الثلاثمائة صفحة لم تتحدد صيرورتها بإطار واحد، بل هي مفتوحة على فضاءات متعددة، يشكل البعد السياسي أحدها، فهي تركز على الجانب الاجتماعي والاقتصادي والعامل السايكولوجي للافراد. لكن ثمة جانب آخر اعتقد انه يتمتع بثقل في السرد، وهي أن الكاتب، وبرغم ما يوحي، انه يعطي للعامل الخارجي أهمية في صنع موضوعته، بمعنى آخر استدعاء شخصية تاريخية من خارج المجتمع الذي تتحدث عنه، ليحلل الوضع العراقي، برغم العلاقة الايديولوجية التي تربط المجموعة التي يتناولها الكاتب معه. لكن في الواقع، وبطريقة واعية يؤكد بان بالافكار التي يحملها افراد هذه المجموعة التي دعت كارل ماركس الى العراق،  وان كانت مبنية على الاسس الايديولوجية والفلسفية التي تعود اساساً الى الماركسية فهي وليدة التجربة المحلية، وليدة مجتمعها، وليست مستوردة، كما يحلو للبعض تصورها او اشاعتها. والدليل على ذلك أن شخصيات هذه الشريحة، تحمل افرازات بيئتها، في سلوكيتها وفهمها للماركسية.. وهي ليست منقادة لهذه الايديولوجية بشكل اعمى. هذا مانتلمسه من خلال السرد والحوارات، على سبيل المثال،، في الصفحة 44". حين وقف سامر، احد شخوص الرواية محتجاً على ما ذكره ماركس من ضرورة اعادة النظر في اسس النظرية، فخاطبه بالقول:

- "الرفيق العزيز كارل ماركس، اعتقد ان عليك في هذا الامر ان تقف عند حدودك وتعتذر، الماركسية هي منهجنا وطريق حياتنا وليس من حقك ان تتنكر لها وتتجاوز عليها. لن نسمح لك بذلك.". 

ايجازا اود الاشارة الى أن هذه الرواية، حسب رأيي، ليست عادية،  وقد شملت فضاءات مختلفة اعطت صورة للوضع الذي يعيشه المجتمع العراقي، بابعاده النفسية والاجتماعية، وبما يحفل به من متناقضات، في التغيير بأمزجة الناس بين من ركب الموجة واستبدل عبائته بأخرى، وبين من ظل على طبيعته محافظاً على التقاليد العريقة، في النخوة والشهامة ومساعدة الغير و ما الى ذلك.

وفي النهاية يختتم المؤلف روايته بصيغة تفاؤلية لاستقراء الوضع، اذ وبعد كل ما مر به وعايشه من متاعب وقسوة وعنف، يتوصل ماركس الى قناعة بأن "العراق حتماً لم يبق لاعلى هذا الحال، ولابد يصير زين ويتقدم بقدرة وتصميم أهله" كما جاء في حديث احد شخوص الرواية ابو رجب، الذي قال بان ماركس " اوصاني استمر بالمظاهرات والمطالبة بالاصلاح" - اشارة الى ما فكر به ماركس وهو ينظر الى مجموعات  من الشباب ذاهبين الى ساحة التحرير، في يوم جمعة، مرددين شعار خبز، حرية، دولة مدنية -... وان كان هذا في الحلم، الا ان ابو رجب صحى من حلمه وهو "فرحان".

 

طالب عبد الأمير

 

في المثقف اليوم