قراءات نقدية

في طقوس الرهطيين

ثمة طقس ما يسكن القارئ للعرض المسرحي قبل وأثناء إستقباله للمعني الذي يود الأثر المنجز تبليغه، فكل عملية قراءة محكومة بالضرورة بواقعها الذي تحاك فيه حتى وإن تناقضت القراءات وتصادمت فإنها في النهاية تستدعي واقعها لتفسير جزء من مقولاتها. "الرهوط" اللذين أنجزوا العرض يشاكسون قارئا رهطيا يستدرجونه إلى فضاء الرهطيين حتى يتمكن من توليف لغة مفهومة عند الطرفين حول ذات القضية في ذات البلد وهو ما إتجه إليه الممثلون منذ الوهلة الأولى للعرض.

1557 husam

فالرهط هو "جلد تلبسه الحائض أو الجارية، وخاصة حين يطوف الرجال عراة في جاهليتهم...الرهط هو فاصل جندري بين طواف الرجال عراة وطواف النساء في أرهاط. إذ أن الرهط هو ما يحجب السوأة فحسب"(1)، تعريف العهد الجاهلي يميز المرأة عن الرجل بغاية التمييز وهذا الساتر للعورة به نعرف هوية حامله ولعل إستدعاء كلمة "الرهوط" للحقل الفني لا يعفينا من الإشارة إلى كونها متدوالة في الملفوظ العامي التونسي في معني من معاني السب والشتم والتقزيم والتحقير، ولكن بأي شكل تم إستدعاء هذا المفهوم في الراهن السياسي وخاصة بعد الثورة ؟ الرهوط هم نمط وفصيل بشري ولد من رحم الدكتاتوريات وتربى في حضنها إذ فشلت حكومات الإستقلال في التحديث السياسي والإجتماعي فمني الحلم الجمعي بخيبات متتالية فلم تتحقق الدولة العادلة والضامنة للحرية والكرامة، بل على العكس تم تحويل وجهة هذا "الحلم" بمفعول الدكتاتورية إلى منظومة منتجة للوهم وللزائف من الشعارات ومبدعة لأنماط بشرية نقترح في هذا التحليل الإشارة إليها بكلمة "الرهوط". وهم أيضا ذلك " النمط البشري الذي يظهر على ركح الأحداث، وليس له من ورقة توت يخفي بها سوأته"(2)، محركهم الوحيد هو إيديولوجيا العنف والقتل المشبعة بصراع الأصوليات وتلك هي الصورة الأخرى الدالة على فشل الحداثة عندنا.

يفتتح عرض "الرهوط" بدعوة صريحة ومباشرة للتفكير "نحن ندعوكم للتفكير معا في ساعة من الزمن"(3)، وذلك بعد أن إستقبل الممثلون جمهورهم وهم يشيرون بحركات تمزج اللطف بالحياد لكل متفرج تجرأ بالتفاعل معهم رغبة في إستدراج المشاهد نحو العرض و في سعي لتبسيط اللقاء وتخليصه من الوهم الذي قد يقع في اللحظة الأولى لإنطلاق العمل إذن إختار المخرج أن يمنحنا إستهلالا يؤطر ويوجه إهتمامنا نحو أهمية التفكير في واقعنا، في هواجسنا، في منشودنا بشكل مشترك.

يقرأ عرض "الرهوط" الوقائع والتحولات السياسية التي مرت بها تونس منذ إستقلالها في إنسجام مع الملمح الجمالي الذي إختاره المخرج منذ الإستهلال وهو إستغلال اللقاء في المسرح من أجل ساعة من التفكير المشترك في الراهن، فالعرض يتجه منذ البداية إلى تفكيك السياسي في تقلباته وتناقضاته رافضا وممتنعا عن تحويل اللعبة المسرحية إلى فضاء تتلى فيه وقائع التاريخ أو تقدم فيه وثائقيات من شأنها أن تتعسف على مفهوم اللعب عند الممثل /المؤدي الراغب دوما في تتفيه وتسطيح المقولات السياسوية المتلحفة بالمكابرة والتجبر. وبهكذا مسار يتحول السياسي إلى لعبة شعرية فكهة، ساخرة تتداعى قوالبها الإيديولوجية تحت صدمات التندر وسهام السخرية التي يتبادلها ويتقاذفها الممثلون فيما بينهم كأنما التاريخ السياسي ليس إلا لعبة ساخرة في النهاية.

كل الموضوعات التي تداولها الممثلون طوال ردهات العرض كانت تدفع بغاية تسطيحها أو بمعنى أدق "تفريغها" من معانيها ومضامينها الأولى لإضاءة معانيها ومضمانيها المتروكة والمهمشة والمدفونة في أعماقها وهو منحى نجح في تشكيليه المخرج لاسيما و أنه قد راهن على إلغاء الركائز المعتادة للعرض المسرحي الكلاسيكي وحول كل مبحثه إلى كيفية إنشاء عرض مشترك مع الجمهور تتطور فيه الموضوعات عوضا عن تطور الأحداث وتتوالى فيه الحكايات عوضا عن الإكتفاء بخرافة وحيدة تدور حولها تمفصلات العرض (المسموع والمرئي) فالرهوط هي لعبة المسرح كما هي لعبة السياسي، اللعبة التي تضحي بالمسرح كما تضحي بالسياسي. "الرهوط" تمسرح القوانين والبيانات السياسية وتتمرد على المعتاد المسرحي وتنزاح عن قيمه التي رسخها في قوالبه بما حول العرض إلى مساحة تتمازج فيها الخطابات مدفوعة بالشك في كل الثوابت، فالنص يكتب حكاية الموضوعات المتدافعة والمتلاشية والمتشظية والمفعمة بروح التهكم من "الحوار البناء" و "روح المسؤولية" و"الأسلوب الحضاري" و"الأخلاق الحميدة".

فكل مشهد في المسرحية هو "برفرمانس" مستقل بذاته، مستقل في إطار تسلسل لمناخات تتوالد من بعضها البعض وتفتح على أفاق بعضها البعض كأننا أمام حالة من الإستطراد اللامتناهية ننتقل فيها بين المقول والصورة والتشكيلات الحركية...وكل إستطراد هو إفراز لما سبق وفي هذا يتحول الممثل ما بين التمثيل والمواطنة، يخدم رحلة متقلبة بين السرد والتقمص والرقص والتعليق والنشيد، يكسر كل لحظات الحكي بحكي جديد ودائما في سرد المواطنة كتمرين فلسفي، فكري، مدني يتحول في عمق العرض إلى تمرين مسرحي يتحرر فيه الممثل من قيود الفن والمجتمع في لحظة من "التعري" و"المكاشفة" وربما إرتبط تمرين الفن بتمرين الحياة في كل تجربة مسرحية ترغب في إحياء المتلقي وتحويل وجهته نحو أفق الكونية حيث تبدأ المسرحية تقريبا بمشهد يتلو فيه الممثلون جميعا الثلاثين مادة المكونة لمبادئ حقوق الإنسان داخل مربع يطوفون به في إيقاعات مختلفة تحيل على الفراغ والصمت المضمن بدعوات للتفكير في الحق مفهوما وشعارا.

لا يطرح عرض "الرهوط" شخصيات مسرحية واضحة المعالم بقدر ما يعرض حالة من الأداء يكون فيها المؤدي ما بين الممثل والمواطن وهي حالة تستجيب لمتطلبات التمرين المسرحي والتمرين "المواطني" وتمكنه من عرض لوجهة نظره في الذات والأخر بدون إنخراط في لعبة الوهم التي لا تتوافق وهذا النوع من العروض المؤسسة على نوع من الإنفتاح الذي يحرر طاقات الممثل من قيود وضوابط الحكاية وأهم مرتكزات الحكاية هي الشخصية والتي تمثل منظومة معقدة، منسجمة الأبعاد لا تشترك في العرض إلا بما يخدم خطابها، هذا الإختيار يصب في آلية التفريغ التي تحرك الرؤية الإخراجية للشخصيات وباقي عناصر العرض.

لعبة المساحة الفارغة في عرض "الرهوط" متوافقة مع مبدأ الإنطلاق من الحدود الدنيا للمعنى في إتجاه حالاته القصوى أو كيف نبني بالفراغ خطابا منسجما مع واقع يراه المخرج مفرغا من معناه : ممثل بلا شخصية، فضاء بلا ديكور، نص بدون خرافة... تمارين بلا قانون وقانون بلا صرامة وسياسة بلا هيبة...لا شئ سوى السخرية السوداء من واقع أسود، مخيف، مظلم، محاصر بالدم وهو في جزء منه هزلي ولعبة الممثل هي أن يذهب إلى السقف الأقصى من المعنى والمبالغة فيه، في هذا الحيز كتبت "الرهوط" بلغة الحدود القصوى حيث يتحول النص القانون (علمي) إلى نص شعري (فني) لذلك كان من المهم إستدعاء كائنات أخرى تتقن المشي على الحبال، هذه الكائنات هي "الرهوط".

 

حسام المسعدي

باحث ماجيستير في العلوم الثقافية بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس

......................

المراجع :

(1) فتحي المسكيني وأم الزين بن شيخة المسكيني، الثورة البيضاء تمارين في المواطنة، دار الوسيطي للنشر،سنة 2013، ص28

(2) نفس الرجع المذكور، ص 31

(3) من نص مسرحية الرهوط

 

في المثقف اليوم