قراءات نقدية

محمد محضار: قراءة في ديوان الشاعرة الطاهرة حجازي "قيظ الهجير"

مدخل: الوقوف أمام التجربة الشعرية للأستاذة الطاهرة حجازي يستدعي أولا التعريف بهذه القامة الشعرية التي لم تنل نصيبها من التقدير والاهتمام:

الطاهرة حجازي،شاعرة وكاتبة مغربية،أستاذة سابقة، حاصلة على الإجازة في الدراسات العربية،صدر لها

- عندما يتحدث الشلال ديوان شعر

- قيظ الهجير ديوان شعر

- بيداغوجيا الإبداع في شعر الطفل

الأستاذة الطاهرة حجازي حاصلة على عدة شواهد تقدير وطنية ثقافية وتربوية، وجائزة الاستحقاق الوطني للأساتذة.

شاركت الأستاذة الطاهرة حجازي بندوات تهم المرأة والطفل، في العديد من المؤسسات التربوية وبعض جمعيات المجتمع المدني.

كما عملت على تفعيل شعر الطفل، على مستوى الأكاديمية الجهوية للدارالبيضاء وقد حظيت الشاعرة بالعديد من التكريمات بمختلف المدن المغربية من طرف العديد الجمعيات الثقافية.

وسنركز في هذه الدراسة النقدية على ديوان قيظ الهجير في طبعته الثانية الصادر عن مطبعة بلال في طبعة أنيقة ومميزة تضم 16 قصيدة بعدد صفحات يصل إلى ست وثمانين صفحة، قبل الولوج إلى متن ديوان قيظ الهجير لابد من المرور عبر عتبته أو عتباته، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية للفنان التشكيلي والشاعر مصطفى كووار، تتضمن أشكالا متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، و يرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.

أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار.

اعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبرته أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه .واعتبره

شولز:"خالق النص الأدبي ومانحة الهوية"[1]

عرف “جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص.. » أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص

إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.

وعنوان الديوان الموسوم ب " قيظ الهجير" نجد أنه في تجليه اللغوي يعني حرّ الهاجرة عند منتصف النهار، في حين تركيبيا هو عبارة عن جملة إسمية وإعرابه كالتالي:

قيظ: خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وهو مضاف

الهجير: مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة في أخره

العنوان مقتبس من بيت شعري للشاعر السعودي الكبير محي الدين خوجة قدمت به الشاعرة قصيدتها ويحرق البوح لغتي وخوجة سفيرلسابق لبلده بالمغرب وهو من تكفل بنشر الطبعة الأولى من هذا الديوان، يقول خوجة:

برد وقيظ واشتعال فتيـــــــــــــلة

ما من محيص في انتظار الانطفاء

وهو عنوان عميق في إشارة إلى أن العتبة ملتهبة مشتعلة ويحضرني هنا المثل العربي الشهير:

المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار

فالهجير يحيل على القيظ وكلاهما يحيل على الحر الشديد، والشاعرة كانت موفقة في اختيار عنوان ديوانها لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع انساني غامض بدرجة أولى وواقع اجتماعي قاس بدرجة ثانية.

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن، فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يتشرب لغته من الموروث الثقافي العربي سواء القديم أو الحديث الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب، لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.

والملاحظ أنه يمكننا الوقوف من خلال قصائد الديوان وهي كالتالي:

1) ويحرق البوح لغتي

2) بوثقة التشرّد

3) تلكؤ في المدار

4) تهَجّد على مشارف الرؤيا

5) حذار!

6) يا لمنطق الإرهاب

7) حجارة الغضب

8) أمشاج من الوهم

9) انبعاث

10) شروخ

11) من نزيف الفرات

12) شاعر من الشرق في الأندلس

13) تأمل في البداهة

14) غربة

15) الرّيح

16) إليك أبي

على الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربة الشاعرة الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية. وهذا يتطلب منا إنصاتا دقيقا إلى هذه النصوص الشعرية، عبر البحث، والكشف والسفر، في التجربة الجمالية والإنسان والرؤيا والمعمار النصي .

إن الشاعرة في هذه النصوص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. فهي تكشف لنا حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية،ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والقومية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم المعاصرة والتراث في الخطاب الشعري ومدى تأثر الشاعرة بالتراث العربي الإسلامي خاصة والإنساني عامة ومظاهر هذا التأثير في ديوانها .3555 محمد محضار

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة:

شاعر الشرق بالأندلس

هل يُدفن التعبُ

في التّعبِ

ياذاكرةَ التاريخِ

المُؤجَّج في لهبي

جئتُكِ

منَ الزّمَنِ المنْسيِّ

الحاضرِ في رُكبِي

يَا منارةَ

تشِعُّ جمالاً

مُهرقاً أسى في كُتُبي

يا قاموسا من الذّكرى

ملْتحفاَ

برَوائِعِ الفنونِ من أدبي

يا زهرةً فوّاحَةً

ضَاعَتْ في مَضايِعِ الشّغبِ

في هذا النص العميق نلمس " شعرية" قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء.. والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض.. والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر.. إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق،إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"[2]

2) التجربة الشعرية للكاتبة:

لجوء الطاهرة حجازي لكتابة قصيدة النثر يمثل رغبة قوية لديها للتجديد ومسايرة التطور الذي يعرفه الشعر العربي الحداثي الذي راكم تجارب شعرية مؤثرة مع ظهور شعراء مبدعين من طينة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال أغنوا هذه التجربة وساهموا في تطويرها وقد وجدوا ضالتهم التي ینشدونھا في كتاب (قصيدة النثر من بودلیر حتى أیامنا) للكاتبة الفرنسية سوزان برنار وقد تبنت مجلة شعر الصادرة ببيروت سنة 1957 م معظم إبداعاتهم ومقالتهم التنظيرية.

يقول يوسف الخال: " نحن نجدد في الشعر لا لأننا قررنا أن نجدد، نحن نجدد، لأن الحیاة بدأت تتجدد فینا، أوقل: تُجَددنا"[3]

ويقول أيضا في نفس المجلة:" أن الشعر تجربة شخصية كیانیة فريدة، وأنّ التعبير عنھا يجب أن یَتِمّ بتحرير تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة والقواعد الموضوعة"[4]

رغم جرأة هذه الآراء فهذا لا يمنع من التأكيد "أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبدا " كما يؤكد جهاد فضل

لأن الملاحظ أن البعض ينظر لقصيدة النثر باعتبارها مطية ذلولاً كما يحسبون، يبثون من خلالها خواطرهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية.[5].

الشاعرة الطاهرة حجازي لم تكتبْ قصيدة النثر إلا وهي مطلعة على الموروث الشعري القديم سواء خلال العصر الجاهلي أو العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكذلك لها اطلاع واسع على الشعر العربي المعاصر وبالتالي لها رصيد قوي وأدوات فنية أكسبت نصوصها شِعْرّيّة نلمسها في صورها الشعرية ذات البعد الايحائي والتعبيري تقول شاعرتنا القديرة:

صَلَّيتُ فاتهَمونِي بالجُنُونْ

قالواْ صَلاتِي باطِلةْ

تواريْتُ فَرَمُونِي بالسُّفُورِ

قالواْ عنِّي غيرُ عاقلةُ

وحينَ حمَلتُ السَّيْفَ

أردُّ في الليلِ الجناةْ

ردَّدُوا: أنتِ قاتلةْ

صوبوا إلي كلَّ الرِّماحْ

طعنونِي بكل الدُّروعْ

هشَّمُواْ سَنَابِلِي

مزَقُوا خبائلِي

قطعواْ أنَامِلي

قالوا أبدا نطاردكِ

أبداً نُحارِبُكِ

سَوْفَ نجتثك

أنتِ لَا محالة راحلةْ

استكثروا في أذني

همسة الريح

استنكروا في عيني

رعشةَ الّشمس

أجهضوا التاريخ في أحشائي

أحرقواْ مساطير كتبي

أحالواْ خضر أيامي عجافاً

عَكَّرواْ مَائي

لَوَّثوا سمائِي

قالواْ هذَا قَانونٌ

لِإقالةِ كلِّ مُوغلَةْ

هذا النص الشعري يمتح من قاموس الشعر العربي الأصيل وهذا ما نلمسه من خلال الحقول المعجمية لهذا النص و"يقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين ": حقل الحرب يتضمن (الرماح، الدروع، السيف ...) حقل الدين (صليت، صلاة، السفور...) حقل الطبيعة (الشمس، الريح، ماء، سماء...) حقل الجسم (أحشاء، عين، أذن...) حقل الزمن(أيام، التاريخ، الليل...) .

3- الصورة الشعرية والايقاع:

أ) الصورة الشعرية:

من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد

ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، وارتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.

واللجوء إلى التعبير بواسطة الصورة الشعرية وراءه سعي إلى نقل المشاعر بأسلوب مؤثر مقنع وبألفاظ تجمع الإحساس والصدق الفني وجمال التصوير، "من خلال بصيرة الشاعر التي تتمثل المعاني الشعرية، وهذه المعاني لا يمكن أن تتمثل إلا في صور والصورة دائما دائما مظهر للمعنى"[6]

أصبحت عند شعراء الحداثة ونقادها تعتمد ما سمي بعين القلب أو الحدس أو بالإشراق، أي بنوع آخر من التجلي المعرفي يتطابق مع الباطن اللامرئي لأنها تتجاوز المرئي وتخترقه لتصل إلى جوهر الأشياء وكنهها[7]

إن سبر أغوار نصوص الطاهرة حجازي يجعلنا نكتشف أنها اشتغلت على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلتها تتحرك وتُثريه .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية،وهناك نماذج متعددة.

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة إليك أبي:

إليكَ رسالتي يا أبي

لمْ يُواريك عَنِّ الرحيلُ

الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ

والغَيثُ مهجورُ الرُّواءْ

تخضّبتْ بحُزنها المدينةْ

تعتَنِقُ مضاضةَ الهزيمةْ

ساحتْ في مَجَّانِيّةِ الدّماءْ

تمزَّقتْ أحشاءُ الأبجديةْ

أحرقَ فيهَا التتار الحروف

سيفُ حَجّاجٍ زُوميٍّ يقْذفهَا

يَنْسِفُ النَّخوَةَ العربيّة

لستُ آسفَة[8]

على موتك يا أبي

كْنتَ ستموت

ألف مَرّةْ

تعتقدُ الوحشةَ

ألْفَ مرّةْ

تخنُقُكَ لا آتُك المُرَّةْ

وحيداً في المَدى

لا رَجْعَ لا صدَى

أبي:

سأخبِرُك عن مدينةِ الأحزانْ

عنِ الثّكالى وعنِ الأيتامْ

عن الإنسان تجرَّد من الإنسان

عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ

يَلْتقطُهُ الغُولُ في الطُّرقاتْ

يجَشّمه ما لا يُطيقْ

يمَثّلُ بنَا يا أبي

فَآهْنأْ بعيداً

عنْ هذا المُروقْ[9]

في هذا النص نلمس جمالية الصورة الشعرية وعمقها ونكتشف الاشتغال القوي للشاعرة، على المكونات الداخلية متمثلة في اللغة والعاطفة والخيال، وكذلك على المكونات البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل، فعلى سبيل المثل تقول الشاعرة:

"الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ"

الاستعارة هنا مكنية وقد صرح بالمشبه وهو الطريق وحذف المشبه به وهو الانسان ولكن أبقى على شيء من صفاته وهي البكاء

وتقول الشاعرة أيضا:

" عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ"

فقد شبهت الشاعرة العدل بأنه إنسان يُمَزقُ في الفلوات، وهنا تم التصريح بالمشبه وهو العدل وتم حذف المشبه به وهو الإنسان ولكن أُبقي على شيء من صفاته وهو إمكانية قتله وتمزيقه بحد السيف.

الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا فهو يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا يحقق قيمةً جمالية[10]

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

سباقٌ نَحوَ الحَتْفِ

يُرديهِ عزْمُ الصِّبْيةِ اندحارا

لهيبٌ ذَابَ الغيمُ في مداهُ

والمطر منْ جُرْحِه

تصبَّبَ فِي الصيف انهمارا

في نص حجارة الغضب تتعمق جراح الذات الشاعرة فنلمس بوحا شعريا يوظف الصورة الشعرية لرسم مجموعة من الأفكار والمضامين ذات بعد تعبيري وإيحائي.

كما أننا في هذا المقطع نجد الشاعرة تستحضر لغة خارجة عن المألوف وتستدعي ظاهرة الانزياح وهذا نلمسه في تشكيل لغتها الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ لها بصمته الإبداعية، ويتيح لها إثبات ذاته الفكرية.

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

في هذا المقطع الشعري نجد أنّ الانزياح هنا دلالي حيث تنزاح الدَوالّ عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة مثلا:

الغضب نبال

يقذفه جرح الأيام أحجارا

طبعا الغضب لا نبال له،وكذلك جراح الأيام لا تقذف أحجارا ولكن الشاعرة انحرفت باللغة عن المعتاد واستعملت انزياحا استبداليا(دلاليا)،وهذا يعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر.

ب) الإيقاع:

يرتبط الإيقاع عند ابن طباطبا باِعتدال الوزن وصواب المعنى. في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال..

والايقاع:

1- داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك)

2- خارجي و هو العروض والقافية.

فإلى أي حد نجحت الشاعرة في نصوصها بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجحت في صياغة شعرها على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسها ودفق مشاعرها؟

على الرغم من أن معظم قصائد الشاعرة الطاهرة حجازي يمكن أجنسَتُها تحت مسمى قصائد النثر فيجدر بنا أن نؤكد أن الشاعرة تلجأ إلى استعمال القافية والرّوي في بعض قصائدها، كما نجد أن هناك نصوصا بوزن في كثير من مواضع في الديوان وإن لم يكن ذلك مقصودا .

أرجع محمد مندور في:" الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.

النبر:" ظاهرة صوتية دقيقة تهدف إلى إبراز الصوت على مقطع من الكلمة. في العربية لا يغير النبر المعنى لكنه قد يساعد السامع على الفهم."

سنأخذ كنموذج قصيدة ويحرق البوح لغتي

حنين يسبح خلف أنين

تطلّع لمرامي الارتقاء

واللاَّمبالاة في الرّبوعِ

عَجْزٌ تردّى في انحناء

حرب تُتْلف توازُنَها

والصّوْتُ الجريح نزيفُ الدماءْ

ورجع الصدى

منافي الغياب ْ

حضور ضامرٌ

من قهقهات الجبنِ والارتخاءْ

خُدْ يدي

تعانق يداً ممدودةً

تُقَصِّفُ الإعصار

تَقُضُّ مضاجع اللاَّمبالينْ

تَسْتشِفُّ الأنَا

تُمَزّقُ أَقنِعةَ المرابينْ

تحرّكها آلات الجسد الخُوَاءْ

خد يدي لمدينة الرفض

أمتزج بالامتناع

انتشلني من هذا الضياعْ

ضَمِّخنِي بالشّذى

من طَعْمِ الوجود

خد يدي

سافر بها[11]

في قصيدة ويحرق البوح لغتي نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال التواشج اللفظي: "التقاء الكلمات في جمل في صورة او اكثر من جهة اللفظ،" [12] مما يخلق تناغما داخل الاسطر الشعرية ويربطهما ببعضهما رابط موسيقى محبب يشد انتباه المستمع للقصيدة ونجده كملمح أسلوبي للسيطرة على الموسيقى الداخلية بشكل يحقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.

كما نلاحظ أن الطاهرة حجازي استغلت كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لها لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص.

4) خاتمة:

الأديبة الطاهرة حجازي أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في المغرب تتميز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تخلو بعض نصوصها من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

***

محمد محضار

...................

[1] ألزميت بلقاسم السيميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي

[2] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9

[3] العدد 6 ص 152من مجلة شعر

[4] لعدد 6 ص 152من مجلة شعر

[5] قصيدة النثر وأزمة الشعر العربي المعاصر عبد الجبار العلمي موقع القدس العربي 3أبريل2019 د

[6] عز الدين إسماعيل/ الأدب وفنونه ص 168م

[7] أدونيس الصوفية والسريالية ص 222

[8] حجازي الطاهرة ديوان قيظ الهجير ص82

[9] نفس المصدر ص83

[10] بوطاهر بوسدر ظاهرة الانزياح موقع الألوكة بتاريخ22.01.2018

الطاهرة حجازي ديوان قيظ الهجير ص 9و10 [11]

[12] (يوسف ابو العدوس، الاسلوبية الرؤية والتطبيق،دار المسيرة للطباعة والنشر،2007 ص262-

في المثقف اليوم