قراءات نقدية

الحداثة في كتابات محمد الأحمد

saleh alrazuk2لا يمكن تبويب أعمال محمد الأحمد في بند من البنود المعروفة للخيال الفني المعاصر. وهذا لا يعني أنه فوق المرحلة، ولكنه لا يتبع القوانين المرعية نفسها. فهو مشغول منذ بداياته بنوعين من الكتابة.

الواقع الذاتي. وهذا يعني بلغتي أساليب التعبير عن الواقع من خلال الانطباعات التي تتركها في وجدان الكاتب. وكما يقول في قصته المتميزة (الضحك): إنه هناك علاقة تلازم بين القلم والزمن. ما أن تفلت من يدك أحدهما حتى تضطر للتخلي عن الآخر (ص21)(1). وكأن الزمن هو مجرد ما ندونه وليس ما يجري على أرض الواقع حقا. وغالبا ما يتبع هذا الأسلوب في قصصه القصيرة. وهي دائما انطباعية وتنقل تجربة معاشة.

النوع الثاني هو الحداثة. وحداثته هي تطوير لواقعيته. بمعنى أنه يحمل الواقع إلى داخل نفسه، ويسمح له بالتعبير عن منطقه الخاص. فالحداثة أصلا مجرد تحرير الطبيعة من القيود المفروضة عليها من أساليب الإدراك والتعريف. وكل أنواع الحداثة عند العرب مجرد انقلاب على النهايات. فهي لا تختلف في طريقة تراكم المعارف وانطباع صورة الواقع على مرآة الكاتب، ولكنها غالبا ضد الترتيب البارد للوقائع ومع دمج الحدود التي تفصل بين الحكاية وأبطالها. وهذا هو أول مبدأ للفلاش باك في الرواية العربية. إنه مونولوج عن الحياة الواقعية، وإسقاط للوعي على الوعي الباطن. فالاتجاه يسير بالمقلوب. عوضا عن أن تتكلم الأدوات عن المضمون، يبحث المضمون لنفسه عن أداة مناسبة تفسره وتحوله من معنى إلى أحداث وصور وشخصيات. وتعترض الحداثة أيضا على النهاية الإيجابية وعلى مبدأ التفاؤل السخيف الذي بشرت به الواقعية في فترة الخمسينات، ولا سيما أن رصيدنا الحقيقي منذ فجر النهضة ولهذه اللحظة خسائر وسيل من الدماء وجراح وطعنات لا يمكنك أن تعدها.

الحداثة والحرية

وقد أخذت رواية (دمه)(2) من بين مجمل أعماله عبء أداء هذا الواجب. فقد بدأت بمشهد مرعب داخل قلعة من القرن الثالث الهجري، وانتهت بمشهد إعدام في أقبية المخابرات أو البصاصين. وما بينهما تجد شحنة عالية التوتر مثل التي رسمها نجيب محفوظ لمسيرة الطبقة المتوسطة الصاعدة في واحدة من رواياته المعتدلة وهي (ميرامار). فزهور الأمل تموت، وتيار الحياة يتوقف. ويكلف الصعود أبناء هذه الطبقة أثمانا مرتفعة ومن ضمنها التضحية بقيمة أساسية وهي الشرف، وأحيانا الانتحار. ويمكن أن تفهم من كل ذلك.. أن شخصيات( ميرامار) آمنت بعدم جدوى التصالح مع الحياة، وانتبهت أن القدر هو الذي يتحكم بمصيرنا وأننا لا نزال بين اللاعبين الصغار.

اتبعت رواية (دمه) أسلوب الإسقاط، وطابقت بين الماضي الأسود بدمويته وانقساماته، وبين الحاضر الكئيب والمخيب للظن بما فيه من تسلط ودكتاتورية ومصادرة للحريات. وترمزالرواية للمشكلة الأخيرة بمخطوط ممنوع من التداول.

وربما كان الهدف الأساسي من كل أعمال محمد الأحمد هو مناقشة موضوع الحرية. ولكن تأخذ معالجته عدة قوالب وصيغ. ولذلك يخيم عليها هم آخر، وهو ترتيب وحدات السرد التي تراوح بين بنية مفتوحة وبنية محاكاة. ومفهوم الحرية في هذه الأعمال يشمل تخليص الأسلوب من القوالب الجاهزة وتخليص الإنسان من التسلط والمراقبة والمنع. وعن ذلك يقول في قصته (كذبة فاقعة للزمن الفاقع): إنه يدخل في أمكنة مجازية تتلف فيها الذكرى (ص29). وعليه لا بد من إزاحة الماضي بالحاضر، وتذويب الحدود لتوسيع أزمنة المكان (ص29)(3).

بتعبير آخر كانت موضوعات قصصه ورواياته تعنى بمعارضة كل أنواع القوة السلبية.. ما يمنع الإنسان من الاختيار، وما يمنع الأسلوب من التطور. وحتى في مجموعة قصصه (بعد الجمر)(4) والتي صدرت ضمن سلسلة "ضد الحصار"، وهي سلسة موجهة لمعاداة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، كانت مشغولة بالبحث لنفسها عن مخرج من العدو الأول للحرية وهو اليأس (ص25) كما ورد في قصة (الصديقان الغريبان)، أو ما يسميه في قصة (ذكرى): نقائض العالم الحديث (ص 16). وهو ما يقول عنه في روايته (متاهة أخيرهم)(5) حضارة الكيس المثقوب. وهذه كناية مبتكرة عن صخرة سيزيف. فإذا كانت الصخرة لا تصل القمة، فإن الكيس يصل وهو فارغ (ص 92).

أما الشخصيات فهي غالبا غير محددة وتعيش نفسيا وتطبق مبدأ الحياة المرتدة. بمعنى أن كل شيء هو صوت لضمير أو وعي بلا ماهية. يعني دون إحتمالات أو بلا مستقبل. فالأفكار والأحداث نتيجة وليست سببا. وبتعبير آخر، القصة تتوسع بفكرتها من خلال تجميع أثر الواقع وليس بواسطة محاكاته أو الاستسلام له، وهكذا تقاوم الظروف بتلقيها ثم الإعراب عن الاختلاف الجوهري معها. وبهذا المنطق أفضل روايته (ورد الحب، وداعا)(6) على سواها، لعدة أسباب: أنها مكشوفة - وأسلوبها واضح - ويعلن عن نفسه من أول لحظة. إنها كولاجات لمواقف ومشاهد. والأثر المتراكم هو الذي يساهم في الصورة النهائية. وتبدو لي أنها مثل الدومينو، تقدم لك أجزاء حكاية، ويمكنك تجميعها بعدة طرق وأشكال. والشكل الذي تراه أمامك ليس نهائيا ولا محددا، ويقبل إعادة التدوير والتوزيع، وبمرونتها هذه تضمن لعبة فنية تفتح الأبواب على تعدد النهايات. وأجزم أن هذه الرواية لا تنمو إلا في المنطقة الرمادية التي تتداخل فيها الأنواع. فهي هجائية وساخرة، وحداثية، ويستغرقها لون من ألوان التفكير الشعبي. ولذلك كناياتها بعيدة عن مشكلة التحديد، وبالاستطراد هي عابرة للأجناس. ولا يمكنك أن تربط فكرتها بمحور أساسي. ويصبح السؤل: هل كانت الرواية تريد أن تنقلب على نفسها وحسب، أم أنها تريد التبشير بأصول مغايرة في الكتابة؟.

فقد استحوذت عليها بذور فكرة المقاومة، والعمل السري تحت الأرض. لكنها في نفس الوقت رهنت كل الجهود السياسية والفكرية بطاحونة اللاجدوى والسقوط. وهذه هي المشكلة.

إنها تدعونا لليأس، وأيضا تحرك نوستالجيا ذهنية تحتاج لإعادة تأويل، ومنها شعار الوحدة، أول شعار عروبي لم يثمر، وبقيت على شجرته أغصان عقيمة. وبهذا المعنى يقول في قصته (الصفر نصف قطر دائرتي)(7): إنه لا يزال يتحرك سعيا وراء الوصول لهدف لا يعرفه. (ص12). ثم يرفع الستارة عن هوية هدفه فيضيف قائلا: إنه لا يحصد غير الخيبة (ص13). ويردف لاحقا: في النهاية لم يجن غير صفعة مدوية على خده الأيسر (ص23- قصة ورطة).

ولست متيقنا هل إن الخد الأيسر هنا كناية عن شيء ما، أو أنها صدفة ترسبت في وعيه الباطن، وحملت أوزار الحياة بوجهين: لسان يضع الحرية في سلم أولوياته، وأفعال لا تفهم إلا لغة القسر والإجبار.

تحديث الحداثة

وتضيف رواية (دمه) لما سلف طموحاتها الشكلية. فهي تتكلم عن العنف الذي يفرضه الأسلوب على نفسه (تدمير وجه اللغة بتعبير دريدا). ولهذه الغاية تعيد إحياء تقاليد رواية فرسان العصور الوسطى، كما فعل أدباء أمريكا في أوقات مبكرة من القرن العشرين. لقد رسموا شخصيات تنطوي على الشر، وتكيد للآخرين، وتتطور في أوقات الشدة النفسية أو تحت جنح الظلام. وهذه هي خلاصة صورة الوالي في الرواية. فهو معزول عن المجتمع، ولا يدخل إليه أحد سوى النساء والجواري. وبرأيي العزلة من أهم شروط العالم الفني في أعمال محمد الأحمد.

حتى أن دار يهودا في (متاهة أخيرهم) لا تراها مفتوحة ولو لدقيقة واحدة (ص12)، وتحجب أسرارها الأسوار العالية (ص27).

ومع أن (دمه) اختارت فترة من تاريخ الدولة الأموية. و(متاهة أخيرهم) رسمت صورة ليهود بعقوبة في فترة تمتد بين العشرينات والأربعينات، لا يمكن أن تعتبر الحبكة تاريخية. فالأحداث مفصولة عن خلفياتها، والاستحقاق التاريخي يبدو مبتورا. والحقيقة أن محمد الأحمد اهتم ببناء الشخصيات، وبحبكة تعبر عن الصراع الدرامي بين الغرائز، وبالأخص الغريزتين الأساسيتين: الحياة (ولها بدائل ضعيفة ولا يعول عليها مثل روتين النساء في المنازل أو روتين الذكور في أماكن العمل) والموت (والذي كانت له إبدالات مفعمة بالمغزى والنشاط مثل الاغتيال والكيد والتآمر والرهبة وسوى ذلك).

ويتكون مسرح الأحداث في روايات محمد الأحمد من تناوب الأزمنة وليس من تعاقب الفترات. حتى أن قصته (الحلم بوزيرة)(8) هي مجرد لحظة وخلال ممارسة الحب، وتفتح القصة ثغرة في رأس الشخصية الأساسية، لكنها لا تفكر أبدا بما يعتمل في رأس المرأة، و تركز على الصندوق الأسود، أو مربع الغرائز. ويلخص ذلك بقوله علانية: قصتنا ليست قصة حب، أبدا، فلا أحس بأي مشاعر تجاهها، سوى لذ ة عابرة، مجردة، فلم أك يوما قد حلمت بها، فأنا معها، مثل ماء نزل إلى منحدر، ولن تزيد أبدا، عن حاجتها إلي وحاجتي إليها (ص9).

ولكن أعمال محمد الأحمد تحمل هم إدراك الواقع الفني والسياسي لمجتمع بطيء الحركة، ولا يعرف كيف يحل مشكلته مع نظام المعرفة. وتوضح هذه المفارقة قصص مجموعة (بعد الجمر)(9). فالحبكة فيها تدور حول ضرورة الحب والطعام والاستجمام والاندماج بالذات والطبيعة. وتتشعب هذه الهموم من نقطة مركزية، وهي اختلاف الإنسان مع مصيره. وقد استعمل نجيب محفوظ هذا الأسلوب نفسه في (المرايا). وهو عنوان يناسب شكل الرواية أيضا لأنه يفترض وحدة وتكامل العالم النفسي للشخصيات. فالرواية لم تكن أجزاء لصور نراها في مرايا مكسورة، ولكنها صور في مرايا متقابلة. ويحدد الحبكة درجة اقتراب الشخصيات من زمن وقوع الأحداث.

وقل نفس الشيء عن (متاهة أخيرهم). إنها رواية ذات بنية مـألوفة، وتتكون من أحداث وشخصيات، تكسر قيود المحاكاة التي يفرضها الواقع الطبيعي وتتبع أسلوبا متحولا يلعب بالمساحة المحصورة بين السيرة الذاتية ورواية الشخصيات. فهي لا تركز على سيرة بطل الرواية وتهتم بغيره مثل جبوري القرم النشال، وموشي العامل في صالة السينما. وفي نفس الوقت لا تهتم بتنوير طبقات الأعماق وتقف عند حدود المظاهر العامة.

لقد اتكأ محمد الأحمد في هذا العمل الأساسي في مسيرته الفنية على نوع معدل من تكنيك الأصوات. وأوكل للولد الصغير مهمة رواية حياة الشخصيات لكن باستعمال ضمائر ثانوية وبلغة الإنابة.

مثلا كانت حكاية يهودا تدور حول بيته وأفراد أسرته. وهي قصة عن النور والفضاء المفتوح والنباتات الأليفة (ص15). لكن حكاية موشي كانت عن مكان عمله في صالة السينما (ص26) وهي غرفة مظلمة وتتنبأ بنهاية مسدودة كما حصل فعلا. لقد وظف محمد الأحمد بهذا السياق فلسفة المكان ليدل على أزمة كل شخصية أو على صوتها. المكان المفتوح يوفر نافذة على حياة بديلة، والمغلق يرسم نهاية منفرة ومسدودة. وقس على ذلك.

ويمكن هنا مقارنة صورة اليهودي في (حارس التبغ) لعلي بدر مع صورته في (متاهة أخيرهم). في الحالة الأولى كانت الهوية الوطنية لا تعترف بالمتحولات، وتتحداها، وتعتمد على شرطها السياسي والجيوبوليتيكي بطريقة آسرة وجذابة ومغرية للمتابعة. في حين أن (متاهة أخيرهم) اهتمت بصوت الهوية والخلافات والفروق بين لحظات منها. فهي هوية تاريخية وتقبل التبدل. وكما يقول محمد الأحمد على لسان هذا الطفل: الزمان هنا يتبادل المواقع (ص16). والقراءة في الكتب مثل الاطلاع على أحلام مثقفين وكلامهم (ص17). ولذلك كلنا على نحو من الأنحاء مؤرخون. ومؤلف أي كتاب هو قارئه أيضا.

ويمكنك أن تقول إن الهوية عند علي بدر مفهوم نخبوي، لكنها تعمل من تحت الشرط المادي في حالة محمد الأحمد، وتدخل في مكونات الحضارة بشكل عام، والتجربة الإنسانية بشكل خاص. و يعبر عن هذا المعنى بقوله: للزمن رائحة ما، ولا يمكن للمدمن أن يستغني عنها. فهي ورطة ضرورية (ص17).

ولكن هذا لا يمنع أنه وقع لاحقا في تناقضات واضحة. ففي سياق حديثه عن بيت يهودا يقول: إن أية حكاية تصدق لبعض الوقت وليس كله (ص31). ولا أرى كيف نساوي بين هذه القناعات المتضارية.. نسبية المعرفة من جهة واستمرارية الزمن من جهة ثانية. هل يريد أن يقول إن هوية المكان ملتبسة؟. وأننا متورطون في جريمة غسل لدماغ الإنسان ومكانه، وأن ماضينا منفصل عن الحاضر، ونحن غرباء عن أنفسنا؟؟.

تؤكد الرواية أن الذاكرة مختلفة مع نفسها، والقرائن المتوفرة هي مثل شهود زور. فالحقيقة مدفونة تحت طبقة من الغبار والتبدلات القسرية. وهناك أيضا تفريغ للأرشيف أو المدونة من المحتويات. وهذا أقل ما يقال عن التغيير الديمغرافي الذي تعرضت له مدينة بعقوبة (مكان الأحداث). وإذا وضعت في كفة الميزان الثانية رواية (ورد الحب وداعا) يمكن أن تضيف مشكلة انتهاك الحدود. فالعمل ينتقل من بناء حكاية أفقية لها جيوب أو أدراج تودع فيها أسرار الشخصيات (مثل أي عمل ينتمي للواقعية الطبيعية)، إلى صور متجاورة تعكس سريالية الواقع وفوضى الحرب وعبثيتها. والتضحية بالمعنى الذي تجده في (متاهة أخيرهم) لا يوازيه في عنفيته وتشاؤمه غير نار الحرب التي أكلت الأخضر واليابس في (ورد الحب وداعا).

وبعبارة مباشرة، كان غسيل الأقليات والأديان الأخرى في أول رواية يبشر بالعنجهية القومية التي اغتالت روح الإنسان وأدت فيما أدت إليه لسقوط المعنى الحقيقي لدولة المدينة. لقد لعب محمد الأحمد في العملين على وتر النقد الذاتي، وخصص (متاهة أخيرهم) لرثاء مدينته المحبوبة ولسقوطها من شجرة الحضارة التي ولدت منها. لكنه وظف (ورد الحب وداعا) لتدويل أزمة المدن الميتة ولبناء دولة إسبارطية الكلمة فيها للسيف فقط.

ومع أن العملين هما ملف لأزمة. غير أن الأول يتناول مشكلة الانتماء وسيكلوجيا الجموع تجاه المحن الكبيرة. ومع أنه عن نزوح اليهود فالعمل يبدو لي اجتماعيا بامتياز. ولذلك يلتزم بكل قواعد الحكايات الاجتماعية، ابتداء من وضوح وشفافية الصور واستعمال حبكة طبيعية وتركيب شخصيات متوقعة قليلة الحنكة والدراية بشؤون العقل وسريعة التجاوب مع العواطف.

لكن العمل الثاني يتناول مشكلة عسكرية وينشط فيها المحور الراديكالي سواء في البنية وإيقاع الصور والتراكيب. بعبارة مختصرة نحن أمام رواية مقابل مغامرة روائية. فـ (متاهة أخيرهم) تعيد للذهن بواكير الكتابة في عصرها الذهبي. في حين أن (ورد الحب) يعيد خلط أوراقنا الفنية، ويقترب كثيرا من الخط الفاصل بين الأجناس بقدر ما كان يقترب من الخط الأحمر بين المفاهيم.

وعموما إن الواقع في هذه الروايات غدار. بمعنى أنه خدعة لا تنقل لنا الحقيقة الموضوعية بقدر ما تكشف عن مصادر الكاتب وخلفياته. وتبدو لنا الشخصيات متعالية على واقعها الفعلي. ففي (متاهة أخيرهم) صفحة كاملة لتعداد عناوين الكتب الموجودة في بيت يهودا (ص68). وليس بينها أية إشارة لمصادر اليهود. لقد كانت اللعبة المعرفية مكشوفة وتحول أنظارنا من المشكلة الحقيقية ليهود الشرق الأوسط ومن برنامج الصهيونية العالمي إلى نوع من أنواع بناء المعرفة الإنسانية. وهذا لا يبرئ يهودا فقط بل يحوله إلى ضحية من ضحايا الفساد وأخطاء التاريخ. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن (دمه). فهي لعبة قاسية بين السلطة والمثقف. لقد كانت المعرفة تلعب دورا مزدوجا في هذه الروايات. إنها تجذب الأبرياء كما يفعل النور مع الفراشة، وتزيد من جرعة الخوف والرهبة في نفوس المتسلطين. وبين هذين الشعارين: المعرفة نور، والمعرفة ثورة، يحتار أسلوب محمد الأحمد، ويتشعب بعدة اتجاهات.. من توسيع أساليب الإدراك إلى مطاردة العقول المستنيرة. ويلعب ذلك دورا مؤثرا على الحبكة. فهي تجري في ضوء النهار في أول حالة. بينما تتطور داخل إطار مظلم وضمن الأقبية والغرف المغلقة في الحالة المعاكسة.

مشروع الحداثة المستمرة

لقد ارتبطت الرواية مع الحداثة منذ بدايات ظهورها لدينا. وهذه الظاهرة صحيحة في أدبنا العربي فقط لأن الرواية فن ناشئ وغير أصيل بالمعنى التاريخي لنشوء أساليب التعبير. وقد استعرنا أساليبها المبكرة خلال عملية المثاقفة مع الغرب. يعني خلال عصر اليقظة والتحديث. فالرواية فن مهاجر أو أنه وافد بامتياز. وهذا يعني فيما يعنيه أنه كان لها وظيفتان.. الانقلاب على القوالب القديمة لأساليب أكل الدهر عليها وشرب، ورفع راية الثورة ضد الواقع الفاسد والمتخلف. وعليه لا يمكنني أن أبرئ البدايات من العمل السياسي والتعبوي. فقد نسفت الرواية الإيقاع وخطاب البلاغة (أو أخلاق وسلوك التكسب وأدب البلاط والدواوين) ووضعت بمكانه أدبا يعمل من أجل المستقبل. وبإبدال بسيط من أجل الحياة. وارتبطت حياة المثقف بمستقبله لا حاضره. ويبدو لي أن مغامرة محمد الأحمد ليست بعيدة عن هذه الخلفيات المضطربة والملتهبة. لقد غامر بالكلام عن تابوات (في الدين والسياسة وأدب غرف النوم أيضا – وهو تعبير أفضله على كلمة مباشرة مثل أدب الجنس). ومقاربته للواقع المتبدل في بلاده دخلت على المكشوف في الممنوعات، ومنها علاقة اليهود بالأرض والتاريخ والمجتمع. بالإضافة لتراكيب رمزية عن تشريح فكرة الطغيان. وقد غلّف، أو بالأحرى سوّق، هذه الفكرة في (متاهة أخيرهم) بالواقعية السحرية أو واقعية العالم الثالث. وهي آخر شكل من أشكال تفكيك الاستعمار وحقنه بشحنة حداثة تنوير أو نهضة. وأرجو أن لا يفهم أحد أنه قدم نصا ينضوي تحت لواء الواقعية السحرية. لقد استفاد من المبنى دون المعنى. وهذا شيء مفهوم بضوء ما يعزى لهذا الأسلوب من إضافات. مثل تلوينات على الإكزوتيك عند سلمان رشدي (فقد حول الحرملك إلى أسواق دعارة والبخور إلى سوق توابل وهكذا). وبظني إن (متاهة أخيرهم) ركزت على القاسم المشترك بين هذه الاتجاهات كلها، وهو تراكم الأحداث وليس تسلسل الأفعال. وكلنا يعلم أن الواقعية السحرية ترسم عالما دائريا تتداخل فيه التطورات ولكن لا تنمو، وتعمل على تحرير شخصياتها من سيطرة الواحد أو فلسفة العقل المركزي. وهذا ما تختلف به عن بقية الواقعيات المعروفة.

أما في (دمه) فقد لجأ إلى حيلة التأصيل من خلال إسباغ ديكور وأزياء وأسماء تاريخية على شخصيات عامة.. وأعتقد أن أطروحته (من خلال هذه الأساليب) كانت في الواقع متعالية على شعارات الموضوع نفسه. فقد حقن شكل شجرة السرد المتفرعة بشكل الحكاية الشعبية (ومنها كلامه عن الطنطل والسعلاة ومعاشرة الجان وغير ذلك)، وكأنه يستلهم ألف ليلة وليلة أو سيرة سيف بن ذي يزن في مجال سوق الثقافة الشعبية. أو حتى البخلاء والبيان والتبيين في مجال سوق الثقافة الرسمية.

لقد عمد محمد الأحمد في تحديثه لشكل رواياته إلى تفتيح أغصان الشجرة السردية وتعليق حكايات لا تتوقف عن التوالد والتكاثر والانشطار. وقبل أن ينتهي من حكاية يبدأ بغيرها بأسلوب تحميل ومضاعفة أو تركيب. ولا أعتقد أن في هذا الأسلوب حداثة أو حداثة بعدية فقط. ولكنها حداثة تأصيل واستعارة من نظام معارف نعلم بها جيدا. لقد كانت الحداثة نقية في رواياتنا العربية لو كنا نتكلم عن إلياس خوري أو جوزيف صادق مثلا. كل منهما يراهن بأحجاره على مربعات سود، ويتجنب المربع الأبيض. بمعنى أنه يكتب سيرة غربية للإنسان العربي الضائع في جحيم شرق هجين ويفتقد لشرف ومجد الانتماء. وهذا واضح سواء في (عن علاقات الدائرة) لخوري أو في (وجه وأصبع ولا) لصادق. كلاهما روائي متردد ومحتار، ويضع عينا على مشاكل بلده وعينا على الحلول الأممية. بمعنى أنه يعترف بعجز الإرادة ولكنه يحتفل بالإنسان الضعيف وبمسراته البسيطة.

أما الحداثة في أعمال محمد الأحمد ليست لوجه الله تعالى. وإنما هي من أجل الهدف المرجو من الأسلوب، وهو تطوير أساليب التنوير. وبلغة النقد الفني: لقد استعمل محمد الأحمد حبكة من الداخل ليفسر ما غمض على الحداثة أن تفهمه. وهذا ليس تقريظا أو ثناء، ولكنه وصف لواقع أسلوبي. ويمكن أن تجد مثيلا له في أعمال كاتب أشهر من نار على علم وهو جمال الغيطاني. لقد لقح تراكيب الحداثة بلغة الديوان المملوكي. أو في أعمال صنع الله إبراهيم الذي تتلازم لديه الواقعية الطبيعية والنفسية مع الوثائق والشهادات والمذكرات.

لقد وجدت الحداثة نفسها في قفص الإتهام، وتوجب عليها أن تتصرف. واختار محمد الأحمد تأصيلها بعمل من أعمال الذاكرة. وهذا يعني أنه تابع شخوصا من الواقع ولم يبتكر شيئا غير موجود. وبكلمات بطل رواية (متاهة أخيرهم): إن روايته رصدت شخوصا حقيقية ولن ينكرها المؤلف، فالواقع الفني خيال استند على واقع قد حدث، والواقع المدون هو نسج للخيال وليس أكثر (ص105).    

ويصادق على هذه المقولة بنية كل أعماله لأنها دائما مبنية على تقابلات، بطلها الخيال والموضوع. يعني هذه الروايات هي سجل منقول عن كاتب مفترض. وهذه الصيغ اللامتناهية من تبادل المواقع بين الحقيقة وصورها تضع الخيال الفني في خدمة الذاكرة.. سواء هي محاكاة لرموز تغطي على الحقيقة المباشرة والمخجلة، أو أنها محاكاة لنظام المعرفة كما نقلته إلينا أساليب تخزينه (ومنها التدوين).

وأساسا لا يمكن أن تضع أي كاتب فوق ذاكرته وملاحظاته الشخصية. لكن في هذه السلسة من الأعمال ميول لصياغة معرفة ذاتية أو إضفاء صيغة شخصية لذات يشترك في رسمها التنبؤ مع الملاحظة، وما نأمل به مع ما هو فعلي وكائن. وهذا يختلف تماما عن الذاكرة الإصلاحية التي تضع برنامجا لحياة أفضل، وتكتفي بالدعوة لهدم ثبات الحقيقة والإعلاء من شأن المعاني النسبية أو عالم المتحولات والذي يحدده ثلاثة أمور كما قال البطل في (متاهة أخيرهم): الأرض التي تقودك لأرض أخرى، واللغة التي تتعلم بها لغة أخرى، والمتغير الذي يتحول لآخر. فالآخر هو خيارنا الوحيد على حد تعبيره أيضا (ص 122).

ولقد تحكمت السياسة بنشاط الذاكرة عند محمد الأحمد. ولذلك تراها متأزمة. وكانت النوستالجيا في كل صفحة كتبها تحمل صفات التشاؤم والرهبة، حتى الحب كان حبا مأساويا ومتأزما ولا يخلو من الغش والرياء ويقود لرعاية أو تنمية مشاعر الغل والانتقام. وإذا لم تكن أعماله عسكرية فهي على الأقل تتأنى بتفسير انعكاسات الحرب على مصير أفراد المجتمع. وحتى مشاهد الحب العابرة والقليلة تبدو عنده أشبه بمعركة بعكس اتجاه الحياة، التي يسيطر عليها حب إيروتيكي معطوب ولا يخلو من النوايا العدوانية القابلة للتوسع في وقت الأزمات.

 

د. صالح الرزوق

.............

هوامش:

1- الحلم بوزيرة(قصص)2010 ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد

2- صدرت في عمان عن دار فضاءات. 2018.

3- بعدُ الجمرّ.. قبلُ الرمّاد (قصص) 1999، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد

4- الحلم بوزيرة.

5- صدرت عن دار صافي في الولايات المتحدة الأمريكية باللغة الإنكليزية.

6- ورد الحب وداعا. (رواية). منشورة في موقع القصة العراقية.

7- ما بين الحب والحب (قصص) 2002، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد.

8- مجموعة الحلم بوزيرة.

9 - بعدُ الجمرّ.. قبلُ الرمّاد.

 

في المثقف اليوم