تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

الروح ولازميتها في رومانسيات النص، قراءة في شعر آمال شحادة

رحيم الغرباويالخبرة الشخصية هي ديدن العمل الأدبي في الاتجاه الرومانسي، إذ أنَّ أكثر " المواقف تمثيلاً وإيضاحاً لها هو الفردية، ... فالرومانسي أما أنْ يكون إنساناً لايفكِّر إلا في ذاته، وأما يكون ثائراً هائجاً ضد المجتمع " (1)، وهو مفهوم بدأ بظهور هذا الاتجاه ؛ إذ مثَّل ردَّة فعل ضد الاتجاه الكلاسيكي الصارم في قيوده الذي جعل للعقل النصيب الأوفر، فقد امتثل فيه الأدب لسيادة الفلسفة العقلية من خلال الاحتكام إلى العقل وتمجيده . أمَّا الرومانسيون فقد فضَّلوا العاطفة، ورأوا أنَّ الأدب لايمكن أن يكون حكراً لطبقة أو اتجاه، إنما هو تعبير عن روح تغنَّت بالجمال وانطلقت إلى فضاءات رحبة، وعوالم مطلقة تداعب نسائمها قلوباً تتغنى بالحب والجمال، وتشترك بذاتها مع كائنات الطبيعة الحية والجامدة ؛ كي تمنح الروح حريتها دون التقيد بــ " القواعد والتقليد، وتؤكد أهمية التلقائية والغنائية، كما أنها تميل نحو أحلام اليقظة والغموض وخلط الحواس بعضها ببعض وتداخل وظائف الفنون المختلفة " (2) .

ويبدو أنَّ الفن لدى الشاعر لا سيما الرومانسي يمثل لديه صرخة في سبيل " تحرُّر الإنسان من عالمه اليومي، والسائد، والمألوف، والسطحي الواضح، والانتقال إلى عالم الباطن، ومواطن الأسرار، وبلوغ الموجود المبدع الكائن في أحشاء هذا العالم " (3) ؛ لذا فاستطاع الشعر لدى الرومانسي أن يمتلك الاحساس " السوي الفريد، إحساس عميق وخصب، وفيه نستكشف كل أسس النظام والانسجام والتوافق، وبذلك يستطيع الفن ومنه الشعر أن يجمع بين الممكن والمستحيل والمجهول والمعلوم، بل إنه قادر على إحالة الحلم المتصور، واللامرئي إلى عالم مُجسَّد بالألوان كما في الرسم، والحركات كما في الرقص، وفي الكلمات كما في الشعر " (4) .

والشاعرة اللبنانية آمال شحاذة ترسم بأحاسيسها من خلال بوحها الشعري الرومانسي روح الإنسانية المطلقة التي يتغذى منها الأمان والسلام، فنراها تعزف على وتر المحبة والاحساس الصادق لنقاء الروح حين تخلد بوداعة العيون وطلاوة السحر لمباهجها الأثيرة، نراها تختصر الكلام ؛ كي نتذوق منه شهد المضمون، فهي تقول :

حبيبي،

اختصرْ كلام الجسد

فكلام الروح

يغريني ... .

فالشاعرة تبرق لنا نشيد قلبها الذي لايساوم على الحب بمتعة زائلة بل ؛ ليفصح عن خلود ذلك الحب للعيش في ديمومة رياضه ؛ كونه ينبع من الروح بوصفها هي الخالدة، واللازم لابد أن يتبع الملزوم .

أما تهجداتها، فنراها ترسمها بأسلوب المفارقة التي تتأتى لديها من عمق شعوري يمنح النص دفئاً ترتاده روح القارئ ؛ فيتأجج فيها من جمال الصورة دهشةٌ تبعث على متعة التلقي، إذ تقول :

لو هطلَ ماء العين

مَن يمسح الدمع عن خدٍّ حفرته سواقي الملح؟ .

من يشفي للروح جراحها؟

ومَنْ يوقف نزيف القلب؟

قلبٌ مزَّقتهُ قسوةُ الزمن؟

ومن يمسح ما علقَ في الذاكرة من ألمٍ فاق كلَّ الوجع؟.

فهي تحاول أنْ تظهر ما بداخلها من نُواح، نواح الروح في قفص البدن، فتترجمه إلى كلمات بسبكٍ فني، بوصف فن الشعر يكمن في نظمه، كما هو جمال الذهب يمتعنا بفنية صياغته، ولعلَّ الشاعرة تترجم ما يعتريها من استعارات متنوعة، فالهطول هو من لوازم المطر، لكنَّها أرادت أن تبين غزارة بكائها، فشبهته بهطول المطر، كذلك استعملت السواقي، وهي حواضن الماء لكنها استعارت لها الملح من دون الماء ؛ لترسم لنا صورة متضادة بين الخد الذي يوسم بالترف عند الأنثى، و الدمع الذي يكتنز بالملوحة، فقد حفر ماؤه سواقيا، ترسبت أملاحه، وهو يشق فلوات خدودها التي صارت صحراء جرداء تكتنف شقوقها أملاحه ؛ إشارة إلى الخواء والحرمان، أما تساؤلاتها عمَّن يمسح دموعها، ويشفي جراحها، ويوقف نزيف قلبها، و يمسح لها آلآم الوجع الذي علق في ذاكرتها، فهي مجموعة أسئلة تبين فيها استحالة ذلك الشخص الغائب من خلال صيغ الاستفهام الإنكاري، لكنها في الوقت ذاته أطربتْ لواعج أحزاننا معها بجمال الصور ومدى قدرتها على بلوغ أوتار عطفنا وشفقتنا لها ؛ لما أصابها من قسوة الزمن التي مزقت قلبها عندما رفل بالحب، وهل هناك أرق من قلب يحمل في ثناياه وشائج الروح الهائمة بالعشق والمنادية إلى أقصى مسافاته التي لم تجد الغائب، ولا ظلاله مهما دوَّى صدى نواحها.

ومن ومضاتها الشعرية قولها :

أنا ... !

أنثى العشق..

أنا ... !

من شردها الحب ...

وأسكنها أقبية الحنين !

لعل الشاعرة تحاور متلقيها ؛ لتظهر له أناها المتعالية على أناث جيلها ؛ لكنها ببراعتها في استثمار الحرف تدخلنا أيضاً بين زهور تعبيراته، فعلى الرغم من أنها المتمرسة في العشق والهائمة فيه، والجاذبة لكل ما حولها إلا أنها تحدث لنا صدمة تحثُّنا فيها على استيعاب المفارقة، وهي تعلن انهزامها أمام الحب الذي اكتنف قلبها الذي يجعلنا أن نؤوِّل نصها بما تلمِّح لنا فيه من مدى هَول وقعته عليها فبدَّد لديها نرجسيتها ؛ ليجعلها تسكن أقبية الحنين لائذة فيها، منكسرة من عواقب حبَّها الكبير .

ويبدو أنَّ شاعرتنا، وهي المدركة لوسامتها والمحتفلة بملامحها، لكننا نراها مرتبطة بروحها في نصوصها ؛ كونها تبحث عن العشق النقي المنبعث من جذوة الروح، فلا تؤثر عليها الكمالات الجسدية سواء ما تمتلكه هي، أو ما يمتلكه الآخر، إنما تشعرنا أنَّ دنياها هي عالمها الرومانسي الذي يمنحها متعة الهيام بعالم ليس كعالمنا، بل هو عالم المعنويات الذي يرفدها شعوراً ماتعاً بالخلود ؛ كون الروح هي مصدر ذلك خلود، وأنَّ الأشياء طالما تعيش في أدراج عوالم الروح ؛ لذا فهي مَن تمنحنا هوية الحب النقي وديمومته المطلقة .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

...................

(1) في النقد الأدبي الحديث، د. فائق مصطفى :65

(2) المصدر نفسه :66

(3) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي : 49

(4) المصدر نفسه والصفحة نفسها .

 

 

في المثقف اليوم