قراءات نقدية

حسين مردان ناثر الشعر قبل الأوان

علي المرهج

ولد حسين مردان عام 1927 في قضاء طويريج في مُحافظة كربلاء، إنتقل للسكن بحكم عمل والده كشرطي للعمل في قضاء الخالص في قرية جديدة الشط في محافظة ديالى، ودرس الابتدائية في مدينة بعقوبة.

إختار التشرد طريقة في العيش، فهو كما قيل عنه "رجل الشارع المُتشرد)، يحمل مشعله التنويري عبر إعلانه الصريح ورفضه لكل ما هو بائد من تقاليدنا الموروثة. لأنه كان أكثر مياً لتنظيرات الفلاسفة الوجوديين من أمثال سارتر في روايته (الغثيان) وألبير كامو في (الإنسان المُتمرد)، يبحث عن ذاته في الحرية، بل الحرية تتجسد في رؤاه وكتاباته وممارساته، فهو حر في إختياره لطريقة العيش، وحرٌ في الخلاص من هيمنة عمود الشعر وهيمنة القصيدة وفق النسق المألوف في كتابتها عند العرب ومُتطلباته، مثل الوزن والقافية وموسيقى اللفظ، وحر في التخلص من هيمنة قصيدة التفعيلة أو ما سُميَ بـ "الشعر الحر" الذي كان من رواده: السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي:

إبليس من نار وآدم من طين

والطين لا يسمو سمو النار

وكأنه يُناظر أو يتساوق مع رؤى (صادق جلال العظم) في كتابه "نقد افكر الديني" الذي تناول فيه قصة إبليس وإعتراضه على الأمر الإلهي بطاعته لآدم بقوله "أنا خيَر منه خلقتني من نار وخلقته من طين".

كتب مردان ما سماه هو (النثر المُركز)، أو ما أسماه د.علي جواد الطاهر: (بديع النثر المُركز)، فقال عنه الطاهر: "هذا شاعر مُنقطع النظير بين أقرانه...(فهو) أدخلهم في الشاعرية وأبعدهم في المدى وأعمقهم في الغور.."

يقول حسين مردان في نثره المُركز:"إن الإنسان الحقيقي ليس هو الإنسان الذي يموء بالقرب من موائد الشراب والرقص، ولا يستطيع مُفارقة الحدائق والمراوح...إن الإنسان الحقيقي هو الذي ينهض ليقف فوق جسده، ويُمسك بوجوده ثم يقذف بنفسه في المعركة..

ولكني مشدود وا أسفاه..مشدود بخيالي..هذا الخيال الذي ربيته على أجنحة الطيور الوديعة والكُتب الجميلة. فلم يقدر على البُعد عن خرير السواقي ورائحة الزهور.

...

إن الجُندي سيبقى هو المادة الأصلية في ملحمة الحرب...

ألا فاليعلم كل الذين تعودوا على الحرير والتُفاح بأن المجد يرفض صداقة الترف الممزوج بالعار .

صُنفت مجموعته الشعرية "قصائد عارية" على أنها من نوع الشعر الإباحي أو الشعر الماجن، لكن ما أستغرب له هو قراءة الكثيرين لمجموعته هذه (قصائد عارية)، ليبحثوا عن عُري الجسد الذي كشف عنه مردان في مجموعته هذه، وكثيرٌ منهم ينتقد جرأة حسين مردان في تعامله مع الجسد وفق منطق الأباحة لا منطق الإزاحة، لأن حسين مردان مُتسق مع إنسانيته في ميلها الغريزي تارة نحو عشق الجسد والهيام بمفاتن المرأة وأنوثتها لا على أنه من ذميم الفعل وأرذل القول، إنما هو عنده من لذيذ الفعل وجميل القول، وهو لا يجعل من نفسه حاله كحال النعامة، يضع رأسه في التراب وباقي الجسد عار ومكشوف، ومن ينتقد حسين مردان حاله كحال من ينتقد من يُشاهد الأفلام الإباحية، ولكنه في عتمة الضوء لا يُغريه سوى مُشاهدة مثل هذه الأفلام وقراءة أشعار مردان وروايات كولن ولسن والبيرتو مورافيا وبعض من قصص نوال السعداوي وأشعار نزار قباني، كي تكون محطة للترويح عن قتامة الحياة اليومية وصراعاتها، للعيش للحظات متأمل لقيمة التماس الجسدي الذي يحل بعض من مشاكل الصراع العصابي مع الآخر.

وما تجدر الإشارة إليه أن الكثير من قُراء شعر مردان يقرأون "قصائد عارية" لا ليكشفوا عن مقدار الشبق الجنسي في شعر حسين مردان، بل ليتلذذوا بهذا الشبق المكنون الضامر في نفوسهم، ولو تريثوا بُرهة وقرأوا كل نتاج مردان لوجدوا فيه ما هو ثوري صاعق يقض مضاجع المُستبدين، كقصيدة البطولة، حينما يقول فيها:

إن كلمتي تشبه القُنبلة

أو الإعصار تشبه القبلة

فيها شيء من رقة الملائكة

وشراسة من سمك القرش

....

في كل حرف منها فُوهة بركان

وباقة أزهار

وغضب زلزال طوفان.

....

إني أصنع قصيدة عن الدرب

الذي يصل إلى الثورة والفردوس..

وفي القصيدة بيت عن شجرة

في جهنم.

ولهذا البيت أُريد تلك

الكلمة..

كلمة تجمع بين القتل والطفولة.

بين الموت والحياة.

...

آه..لقد رأيتها..

البطولة .

لكن لأن بعض مما يُداعب عقل الشرقي هو الكشف عن عُري الجسد لفرط ما يعيش فيه من كبت جعل من مجموعة حسين مردان الشعرية "قصائد عارية" وكأنها نتاج حسين مردان الأمثل في القدح أو المدح.

لا أظن أن حسين مردان نال ما نال من تقدير بين شُعراء جيله من أمثال بُلند الحيدري، والجواهري من قبل، والسياب، والبياتي.

إنما هم كبار، ولا يُغريهم سوى لذيذ القول، من الذي أجادت به قريحة مردان الشعرية التي غايرت السائر من أقوالهم الشعرية مما هو مألوف في شعرهم.

وصفه عبدالرزاق عبدالواحد بالقول أنه: "الإنسان العملاق في إنسانيته"، وأنا أقول عنه أنه وباستعارة لعنوان أحد كُتب نيتشه، أنه "إنسان مُفرط في إنسانيته".

عُيَن حسين مردان كما يذكر صديقه الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد عام 1968 مُعاوناً للمُدير العام للإذاعة والتلفزيون براتب شهري قدره (150) ديناراً، بعد إحتساب مُدة عمله في الصحافة كخدمة فعلية له، ولكنه رفض استلام الراتب، لأنه وجد أن في إحتساب راتبه بعض من زيادة لا يستحقها، ولم يستلم راتبه، إلَا بعد تعديله ليكون 80 ديناراً، فوافق على العمل بعد تعديل الراتب.

هذا ذكرني برواتب السُجناء السياسيين ومن الإسلاميين من سُجناء رفحاء وما سبقها!.

بعد استجابة الحكومة لمطالبه في تقليل راتبه، قبل العمل، فأشترى له بدلتين، لكنهما لم تتسخا لأنه غادر الحياة، فظلت البدلتان تتشوقان للمس جسد نقي حُر مثل جسد مردان، وإن كان لا يرى فيه بعض مُبغضيه سوى أنه شاعر لا يرى في الحياة سوى جسد إمرأة، ولكنهم غفلوا عن رؤية مردان لهذا الجسد الذي له قيمة وجودية عُليَا في شعره ومُتبنياته الفكرية، فهو جسد أمه الذي أرضعته من (فرات حليبها)، وهو جسد حبيبته التي ظل وفياً لها، وإن ظن المكبوتون أن في قصائد مردان بعض من البوح أو كثير منه يفض بُكارة شبقهم الجنسي، لأن حسين مردان يكشف عن نزوع إنساني طبيعي يرنو نحو الحرية، لا حُرية المُمارسة الجنسية كما يذهب لذلك الشبقيون، إنما هي حُرية الشوق للقاء المعشوق عبر ترافة اللغة وحميمية اللقاء وعنفوان الصراع المحموم حين لقاء الحبيبين.

دمٌ وأشلاءٌ مُمزقة

وأضلع صاخباتٌ تشتكي التعبا

هذا هو الحُبُ. جُرحٌ غائرٌ ويدُ

خبيرةٌ وصراعٌ يعلك الصعبا.

ولكنه في قصيدة (الدم) يقول:

الدمُ الذي يعزفُ فوق

الأرصفة والتلال..

أُنيته الحزينة..

عن الدرع..وكربلاء..

الدمُ الذي يغور في التُراب

وينفخُ عروق الأرض،

ليرفعها إلى السماء.

إنه الدم..

هل قرأت عنه..؟

السائل الذي يأكل جذور

الجبال،

ويشرب جواهر التاج،

ويلطع حديد المُصفحات..

إنه الدم..

...

إنه نفس الدم القديم.

الذي نُشاهده في جبين

التاريخ.

يحفر وجوه الطُغاة،

ويقتلع الأسوار،

ويُميد بالنُظم التي تكره

رائحة الإنسان..

أ لم يقرأ من عشق أو رفض شعر حسين مردان هذه القصائد، وإن كُنت رافضاً لتفسيرات الكثيرين منهم في تلقيها وفق نمط شذوذنا وشبقنا الشرقي للنظر للجسد بوصفه عاهة، أو عورة، فهو ثائر على كل ما هو بال من تقاليدنا التي ورثناها، والهيام في توصيف الحُب العُذري وكأنه غاية الحب، وليل الصبَ:

فتولت في دمائي ثورةٌ

ثورةُ الفسق على الحُب النقي

قتقدمت كوحش، جائع،

ترعد الشهوة في أعاصيبه مُرغمة

وتفرجت عارية

صرخت ويحك لا تتركني

فلقد حركت في أحشائيه

كل ما في اللحم من شوق اللظى

فإطفىء النور وخُذ أفخاذيه.

لا أروم الإطالة ولكن مردان يكشف عن مكنونات نفوسنا اللوامة، التي لا هم لها سوى الهيام في الجسد، ليُنبؤنا أن في التواصل الجسدي تعبي عن حُب جنوني، لا ينبغي لنا أن نُوقف مصداق تدفقه، ولا ينبغي أن نتقده مثل هكذا حُب، أو نقتص منه، ونُقلل من قيمته، لأنه لا ينمو في المُخيلة وتصوراتنا المثالية للعشق. إنه الحُب، بأي منظار نظرت له، فللحب تعابيرات ومظاهرة عدة في التعبير عن صدقه، منها نظرة فابتسامة، ومنه تعالق الجسد بالجسد، ليكونا جسدين تماهت روحيهما، فما قدرنا أن نعرف روح من تنطق عن من، لفرط ما في العشق من تعالق على مستوى التعالق الجسدي والروحي معاً.

إن ما يُميز شعر وكتابات مردان أنه يُشخص حالنا في التماهي مع مُعطيات الجسد بوصفه من المُمكن المُتاح في عالم الواقع، وإن أبدى البعض رفضاً له، لكنه من مُقتضيات التناسل الوجودي و(البايلوجي) في التماس الجسدي والرغبة في التواصل الخارج فكري، وإلتماس اللحظة في الهمس اللغوي للإرتقاء بالتفاعل الجسدي كي يكون كما يقول مردان:

كُل ما في اللحم من شوق اللظى.

أو قوله:

تئن كالوحش مطعوناً إذا إشتبكت

ساقٌ بساق، ومحموم بمحموم.

ليكشف لنا عن حقيقة لطالما تغافلنا عن ذكرها، أو لم نرتض الإفصاح عنها، ألا وهي علاقة الجسد بالجسد، لأننا عشنا تصورات فيها بعض من تداعيات وبقايا الفلسفة المثالية واللاهوتية التي عدَت الجسد سجناً للروح، أو عورة فيها من الزيف الكثير، ولكن نيتشه بفائقية تصوره ومُفارقته للمألوف السائد مما اعتدنا عليه في الفكر على أنه من بديهيات تصوراتنا في الوجود عبر ربط الفكر بالوجود وفق الرؤية السقراطية الإفلاطونية، ولا معنى للجسد ولا حضور له في حال غياب الفكر، ولكن بعض من تأثيرات فلسفة نيتشه في كتابات مردان قد أعادت للجسد بعض من حضوره وبهاء وجوده الذي يستحقه في التواصل الإنساني أو الجسدي بين الحبيب والحبيبة، لأن في الحُب تعبيراً عن فكرة "العود الأبدي" التي أسس لها نيتشه في جُل كتاباته وعبر عن بُعدها الوجودي وفاعليتها في الحياة الإنسانية، لما فيها من تفسير لفلسفة حياة إنسان شغوف بالوجود يرنو للعيش في جئُب الحب بمُتعه فيها الكثير من اللذة المُتعالقة مع الألم والمُعاناة، والعيش في حياة مليئة بالصراع، صراع الوجود في حياة يستحق البقاء فيها من فهم طبيعة الصراع والتنافس الإنساني في المُحافظة على البقاء في دُنيا الطبيعة والواقع، لا بوصفه صرع لإقصاء المُنافس، إنما هو صراع للكشف عن مقدار رغبة الإنسان في الحياة والوجود وتبنيه لمفهوم نيتشه عن "إرادة القوة" التي تُبرر لمن تماهى مع مُعطيات الوجود وتقبله لوجوده وصناعته لصيرورته وديمومته في هذا الوجود العاشق لتحولات الجسد بكل تمظهراته، لا سيما حين أبان مردان عن شغفه بهذا الوجود وكشفه في شعره الوجودي بقوله:

يا صورة الشيطان

في معبد الكُفران

أودى بيَ الحرمان

في صدرك الغض.

لكنه في مقطع آخر من قصيدته (المدالية والرجل الإشتراكي) يقول:

"إن العدم ينقر قدمي.

فأخرجي يا حبيبتي.

فأنا الآن في لحظة الفراق

وأُريد أن أقبل قلبي بُحرية..

مردان مُتمرد، ولكنه في تمرده يبحث عن الحرية غائبة في مجتمعاتنا الشرقية. إنه لا يكشف عن عُري مُستتر، إنما هو يُخبرنا في قصائده العارية، عن نفوس جفت منابع المحبة فيها، تعيش لذة التعبير والممارسة عبر الجسد، ولكنها تُخبئ في المسكوت عنه في مسيرة الحياة والقول، ما يشي بأن العُري من شيم الرجولة عندها في المخدع، ومن مُضمرات الفعل والقول في التصريح لما هو مُتاح شرعاً لمكل مُجتمع.

ولكن مردان في قصائده العارية قد فضح وكشف عن "المسكوت عنه" فيما نشتهي من لذيذ المعاشرة مع الجسد، وإن كان كثير منَا لا يرغب بالتصريح وزلا بالتلميح بما هو جائز شعاً في التلذذ بملامسة الجسد والمعاشرة بقوة دون إخبار لأحد للوقاية من شر حاسد إذا حسد.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم