قراءات نقدية

جمال العتابي: شعرية جامع الاصداف

عادل مردان يكتب الشعر كباحث، لا يكف عن البحث، موضوعاته، مادته، يوسعها حتى النهاية، أو يعيد التفكير فيها، المعرفة في الشعر تدخل في نصوص أشهر شعراء العصر: إليوت، باوند، وبيرس، وآخرين، المعرفة في الشعر ذات خصوصية تنتظم في اكتساب الأداة الشعرية، المعرفة في العالم هي نفسها المعرفة في الشعر، مع انها تستعمل وسائل أخرى، الفرق هي الوسيلة  وليس في الغاية.

يحاول الشاعر عادل مردان في (كتاب جامع الأصداف 2023)، أن يلعب هذه اللعبة، أي أن تكون الكلمة بذاتها نوعاً من الكيمياء، نوعاً من التركيب الذي تكمن اسراره في الاحتمال، والنتائج والمعاني الخفية.

هذه هي المغامرة الحقيقية، هي أن تدخل الكلام في تركيب النظرة الشعرية، وهذا يعني رأساً أنني أنفر النظرية، لأنها مقيدة.

قصيدة عادل لا تبدأ بموضوع، الموضوع كمادة للشعر يفقد الكثير من اغراءاته، انما الموضوع احد مكتشفات القصيدة، احدى منصاتها للتوغل في الحقول الحسيةالتي تنبع من خصوصيته، من شخصيته هو، أي من التجربة الحياتية، تسليم القدرة الى اللغة الى الكلمات التي تكون وفيةعادة، بصدق ووفاء الشاعر لها.

ها نحن نترك على صرحها الأكاليل

هل ماتت الحقيقة؟

الأرض تهرع بأثداء دامية الى الكهوف

في صحراء العالم صوت جارح

يقطع سكون الليل

هناك دهاليز تنبع من احساس الشاعر لحظة الكتابة، هي التي تفرض التسلسل المنطقي للنص ولمفرداته، في شعر عادل نجد أشياءً مثل : الخشخاش، الأريكة، الحمام، الخشب، الوحل، القوقعة، الغازات السامة، القنطرة، الشرشف، جرة النبيذ، عربة الخردوات، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما ندخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تطفو وتأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا  الى فكرة السيميائية في الشعر.

دائماً يضطجع البله

في مقمورة الثناء

ان أهم ما نلاحظه في هذه النصوص جميعاً، هو تسللها الى مناطق الظل في الحياة اليومية، تتسلل بمهارة وهدوء الى هذه المناطق والأقاليم، لكن لتهتك عاديتها ويوميتها، هذه اللغة لغة راهب، مباغتة ومفاجئة ومراوغة، ومن هنا أهمية المفاجأة، لأنها تأتي من حيث عبورها، انطلاقاً من اليومي، من أمكنة تبدو قريبة ومتاحة، حميمة، لكنه يجعلها حين يمارس فعل التحويل فيها، سحيقة وبعيدة في أغوار ومجاهل الذات، رؤية الانسان للعالم.

أسمالنا شاردة على الأرض

يسبح الصبية

وأنا أتأمل النهر

*

أتأمل من النافذة

اشتعال الاكاسيا

يتكتك عصفور الساعة

آه... انها الواحدة

تزود ايها العابر

ويبقى هذا الفعل بما هو شعري ذا أهمية قصوى بالنسبة للنصوص، انها تدخل على متلقيها دهشة متفردة غير متوقعة، تقدم نفسها ببساطة، لكنها تعيد خلق التفاصيل في نسيج مركب:

يلفك الغموض

من أنت ايتها الطموح:

أنا قنبلة كهرومغناطيسية

مصممة لمحو الخلائق

هناك نبضة داخل النبضة، ونبضة أخرى داخل النبضة الثانية، هناك تراكب وراثي حلزوني لا ينتهي في النص، الاسئلة التي تطرحها النصوص، تعيدنا الى الانصات لرنين الكلام الأول، يعني كلام الانسان الطري البدائي، وهنا تحضر فكرة القصيدة المفتوحة بما هي مفتوحة، تحاول ان تستعيد تجربة الانسان بحنينه الشعري في العالم المعاصر الى تجربته الشعرية الاولى، بطراوتها وكثافتها وغموضها:

سأبخس حقها

حتى لو كانت فرائد

على الرغم من جزعي

سأقرأها الى الجدران

أحياناً احتاج

الى رفقة الأشباح

الشاعر عادل مردان، لم يدخل الشعر من النوافذ، بل مرّ عبر أكثر المسالك وعورة، وظل مخلصاً لتجربته الشعرية، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم، أو بريق مواقعهم، مردان في طليعة الشعراء ذوي التجربة المتميزة، بحريقها، وبريقها كذلك، لا يتمسح بأعطاف الشهرة، إذ يقول كلمته ويمضي، ليظل معانقاً اسطورة الترحال في أقاليم الشعر:

لا ترافق الشعر عنوة

اجلس تحت شجرة العالم

فهي حكيمة الغاب

 في قلبها بلسم الروح

لقد راح عادل في ذروة قلقه  أن ينقل رؤاه مصغياً الى صوت جهاز الرنين، تلك هي النفثة الأخيرة من هاجس العدم الطاغي في أغلب النصوص:

يتوهم المحشور

في جهاز الرنين

انه داخل تابوت فخم

تنبعث منه الاصوات

المأساة، أنه يصغي، يشعر بانهيارات في أعماقه، يستيقظ فيه العالم، ريح تحرك أنفاسه، ربما اعترته رغبة في الهروب:

تكويني صار قديماً

أريد ان أتخلق

بكيان آخر

الشاعر مردان في جامع الاصداف، غير راض عن العالم حوله، يعيش مصير الآخرين، لكنه في حيرة وحده، مهما يكن في روعة المغانم، والمغريات، يقرفص تحت صفصافة في حديقة المشفى، اسماله بيضاء على العشب، كاره الضوء، يتجه الى البحر، فهو بحار يجمع الاصداف، يبحث في أعماق الاغوار، لا يحمل يأسه هو، بل يحمل يأس الاجيال، ويأس ساكني المدن المنطفئة. يبحر في مياه مجهولة، فيذهب مع تلاطم الموج، وتلاطم الأشرعة، يحاور بحاري السفن على مدى السنين.

لا زمرد في الخصب

لا مطر يرحم الارض

لكنها العمائم

تندرج في الطرقات

قصائد عادل مردان، تقدم نفسها كياناً مستقلاً، ذا قيمة جمالية وحضور فريد، تعلن عن ذاتها انها فوق المقارنة، تنمو بتطور المعنى. القصائد بمجموعها تمثل غابة شعرية، حافلة بالطراوة، والمشاهد العجيبة، متشابكة، كثيفة في الصور والايقاعات، متصلة،  ثمة تنافر بين مقطع وآخر، واتحاد وتلاحم في مقاطع أخرى، انه شرط من شروط طبيعتها، لكنها في صراع مع نفسها، هذا الصراع بين ضدين الأسود والأبيض كما جسده مصمم غلاف الكتاب صالح جادري،  ليعطي الكتاب صفة أخرى، في التعبير عن حالة التوازن، أو التقارب، أو تجسيد الدلالة المهمة في الحالة الشاعرة، ولقطها من قلبها.

***

د. جمال العتابي

في المثقف اليوم