قراءات نقدية

التجربة الرمزية في قصيدة: أيَّتُها الأرض للشاعرة السورية عبير أحمد

رحيم الغرباويإنَّ الشاعر هو من يغور في أعماق المعاني فيستبطن ظواهرها؛ لما لتلك المعاني من نصيب في لاشعور كل إنسان، فهناك مستقر الكلمة ونبوءات للعالم اللآنهائي المغروسة في كل نفس هيئتها الأقدار؛ لتحمل رسالة معينة تحيط بها تلك الكلم، وتسمو لها مقاليد الفكِر، وجوانح المعرفة .

ويبدو أنَّ لكلِّ شعور لغةً تترجمها اللغة المحكية، وهي تنفث بما تستشعره من قراءات تستنهضها فيوضات التأثير الخارجي على الذات؛ فتحيل ما بأعماقها على شكل أناشيد أو أشعار أو رسوم أو كل ما يمت إلى الفن، يقدمه الإنسان بطبيعة حية تتلقاها الذائقة بأجمل تصوير وبأطرف المعاني .

ولاشكَّ أنَّ "الإبداع الشعري يشكل لحظة التجلي المشتعلة بروافد الكشوفات الحية التي تنبض بروح التجربة الخلَّاقة عندما تكون قادرة على النفاذ لموحياتها، إذ أنَّ التجربة الشعرية تستقي من ينابيع متعددة للرؤى لحظة الإبداع، وهي تتغذى من روافدها السيالة (الرموز والأساطير ومختلف المجازات) التي تمنحها القدرة على التواصل في تحقيق المهمة الموكلة إليها " (1) وشاعرتنا المبدعة عبير أحمد قد أناخت رحالها في مدائن اللاشعور؛ لِتُعبِّر عن هواجس دهمتها، فاستطاعت أن تقدمها بأجمل التعابير وأنبلها، وأصلب الأحاسيس الموسومة بالقهر والتحدي، فنراها تمازج بين رموز القهر والعنف، والأخرى رموز السكينة والرقة والجمال، إذ نجدها تقول في قصيدتها (أيَّتُها الأرض):

إنِّي ..

وإذ...أولِي الريحَ

أولِي العصفَ

أولي القمر . ..عُرفي

ها أنا، والحبُّ لحدي

وقيامتي .

لِتُظهر لنا قوة صبرها وتحملها للشدائد في كل ظروف القهر، فالريح وعصفه رمزان من رموز القوى الجائرة، وهما يتسمان بالاقتلاع والاجتثاث والتدمير، فنراها تهب أعرافها التي تربَّت عليها من حزم وقوة؛ لينسجما مع قوة هذه الريح وهذا العصف؛ لمطاولتهما، فكلّ يوم نراهما يبددان مدناً بل ويحطمان شعباً، فهي ترمز بهبتها لهما (عرفها) للريح وعصفه إلى صبرها الذي يجاري ويتحمل قسوة تلك القوى الجائرة، لكنها بنفس الوقت تحمل إنسانيتها المفطورة عليها برمزين طالما تغنَّى العشاق والمحبُّون بهما، وهما: القمر والحبّ اللذان يرمزان إلى السكينة والنقاء والجمال، ولعل الشاعرة في استعمالها الرمز لم تعتمد " على الوصف أو التقرير أو الارتباطات المنطقية التي تعتمد التعميم أسلوبا للتواصل، بينما يصل الرمز إلى أدق المشاعر وأخصَّها وهو لايدل على معنىً ما، بقدر ما يثيره ويوحي به " (2)؛ لذلك فشاعرتنا آثرت استعمال تلك الرموز؛ لتشير إلى أنَّ فطرتها موسومة بصفات إنسانية، لكنها في الوقت نفسه قوية صامدة، لايهزها خطر، أو يوقفها بغي، فهي تولي عرفها لأحداث الزمان وتقلباته، إشارة إلى صلابة بلدها الذي مازال يقارع قوى البغي والظلام، وهو يحمل في أحشائه بوادر إنسانية عفيفة وتمسُّكه بذلك، بدلالة (والحبُّ لحدي وقيامتي) .

ثم نراها تقول:

ها أنا أولدُ من عرف النبيذ

من كرمةِ الدمع

من عرائش الهمس ...

(أرال) يا أرض

يا أمَّ الرحيل ...،

فالشاعرة هنا تؤمن بالانبعاث، فقد أشارت إلى الكرمة التي صلب عليها السيد المسيح، وتزينت كعروس للهمس؛ لما فيها من شفافية ورقَّة؛ أثر الرحمة التي خلفها الصلب فعمَّت المؤمنين من البشر، وقد قرنت صورة الكرمة ونبيذها بأسطورة (أرالو) وهو العالم السفلي عند البابليين، وقيل: إنَّها مدينة كبيرة يلفها الظلام والتراب (3)، في إشارة منها: أنَّ أرض بلدها بمروجها صارت يباباً تذروها الرياح، لكن من يعيش عليها سيظل أبداً وليد أعراف النبيذ الذي يعيش حالة التحول من شجرة كروم إلى أعناب فنبيذ، ثم تشير إلى الأرض التي هي وجه من وجوه الخير والعطاء، فـ (أرال) لابد أن تعود معافاة أرضاً خصبة معطاءة، ثم شاعرتنا تلفت؛ لتطلب من أمّها - أي الأرض - وهي في حالة من حالات التحول - ما في قولها:

اغرسيني يا أمُّ

رشفةً على شفةِ القمر

ها قد نطقَ النبيذُ في عينيه

انثري رمادي

بأرال يا أمَّ الخصب

يا ابنة الله

ها أنا ....أعود من الآفاق

من اللا لون

من الحبِّ

من التراب إلى عنب الربِ

سؤالاَ

يدهش الشمس... جوابه سؤلي .

فهي تطلب العودة حيث كانت كرمة، فتدعو إلى أن تُغرَس رشفةً من نبيذ على شفة القمر، إشارة منها إلى السكينة و السلام، أما الرماد فما تخلِّفه نيران الفينيق لولادة فينيق آخر، فحينما ينثرُ في أرال (الأرض اليباب) ستتحول خصبة، فتعودُ أرضاً يافعة، ذلك هي تحاول أن تتعامل مع التحولات؛ لتثبت حتمية الانبعاث (النبيذ = الكرمة، أرال = الأرض)، فالأرض هي من أخبرنا سبحانه أنه هو من يسعفها بزراعتها؛ ليعيدها من جديد معافاة؛ لذا تخطَّت الشاعرة في هذه الإشارة معاني كثيرة لتتركها فراغاً يملؤه المتلقي؛ لتبلغنا إنها ستعود من عالم أرال الذي لا لون له؛ كونه عالماً يسكنه الأموات؛ لتنطلق منه معافاة إلى عنب الرب بعد تخصُّب الأرض؛ في إشارة منها إلى قدسية الهدف والطموح، وهكذا هو الشاعر الحداثي نراه يحمل عبء عصره بجرأته الفكرية والروحية، وبلده أو أمته تعيش نقطة حرجة من تاريخها، فراح يرفض الاستسلام للقهر والاستبداد الرجعيين، ذلك هو إحساس الشاعر المُخلص لشعبه ووطنه (4)، وبذلك نرى شاعرتنا عبير أحمد قد وظَّفت رموز قصيدتها؛ لتعبِّر عن معاني الصمود والانبعاث الحضاري من جديد من أثر الطعنات التي تلقاها شعبنا في سوريا المجيدة من فعل التآمر الخارجي الرجعي .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

........................

الهوامش:

(1) النبوءة في الشعر العربي الحديث، د . رحيم الغرباوي: 61

(2) الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر، د. غسان غنيم: 65 – 66

(3) معجم أعلام الأساطير والخرافات، د، طلال حرب: 24

(4) ينظر: النبوءة في الشعر العربي الحديث: 57

 

 

في المثقف اليوم