قراءات نقدية

فيلم "واجب" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر

عدنان حسين احمدسردية بصرية تحتفي بالمنحى الاجتماعي وصراع الأجيال

ينطلق فيلم "واجب" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر من تقليد اجتماعي يعرفه سكّان مدينة الناصرة تحديدًا وبقية المدن الفلسطينية مفاده إيصال دعوات الزفاف إلى كل الأقرباء والأصدقاء والمعارف وتسليمها باليد كما تقتضي الأعراف الاجتماعية المتّبعة منذ زمن بعيد. وبما أن الفيلم اجتماعي بإمتياز فلاغرابة أن تتسيّد القصة السينمائية، ويطغى الحوار الذي يبدأ هادئًا، ومرحًا، ومطعّمًا بلمسات فكاهية ساخرة تجعل إيقاع الفيلم سلسًا، عفويًا، ومنسابًا ليكشف في خاتمة المطاف عن الأداء المُبهر للشخصيتين الرئيسيتين اللتين تقاسمتا البطولة وكأنّ الابن القادم من مغتربه الإيطالي ندّ لأبيه المتشبت بمدينته التي يراها أجمل مدينة في العالم. لا تستغني الأفلام الروائية عن "الحدّوتة" أو القصة، إن شئتم، فهي أشبه بالنسغ الصاعد من جذور الشجرة إلى جذعها وكل أغصانها المتفرّعة. فما هي قصة هذا الفيلم الدرامي الذي يستمد مادته من صراع الأجيال، وعلاقة الابن بأبيه، وبوحهما التدريجي الذي يحرّك رواسب الماضي، ويثير الهموم والأشجان الراهنة، ولا يجد حرجًا في القفز إلى المستقبل القريب في أقل تقدير.

يعتمد جوهر القصة الرئيسة على عائلة فلسطينية صغيرة تتألف من الأب "أبو شادي" الذي جسّد دوره بإتقانٍ شديد الفنان القدير محمد بكري، و الابن "شادي" الذي أدّى دوره الفنان الموهوب صالح بكري، وشقيقته "أمل" التي لعبت دورها الممثلة ماريا زريق وأجادت فيه. أما الأم داليا صلصال فقد هربت مع عشيق لها واستقر بها المقام في أميركا تاركة زوجها وعائلتها نهبًا للتشظّي والعزلة الفردية على الرغم من الحياة الاجتماعية التي تضجُّ بها مدينة الناصرة. ما يجمع هذه العائلة الصغيرة هو توزيع دعوات الزفاف التي استدعت المهندس شادي أن يعود من منفاه الأوروبي تاركًا هناك عمله، وحبيبته ندى لكي يساهم في تأدية هذا الواجب الاجتماعي الذي لا مفرّ منه.

فيلم طريق

يمكن تصنيف فيلم "واجب" كنوع من أفلام الطريق الداخلية، وليس الخارجية كما جرت العادة، فالأب والابن يطوفان طوال نهار كامل في شوارع مدينة الناصرة كي يسلّما باليد 340 بطاقة دعوة، وقد اكتفت المخرجة وكاتبة السيناريو آن ماري جاسر بخمسة عشر مشهدًا جسّدت فيها فكرة الفيلم برمته، أما بقية المَشاهد فقد توزعت على الحلقة الضيقة لأفراد الأسرة وأقاربها وبعض الأصدقاء الحميمين ومنها مشهد تجريب فساتين الزفاف على جسد العروسة، والحوارات المنفعلة التي أخذت تتصاعد بين الأبن وأبيه، ولقاءات شادي مع الفتيات الطامعات بزواجه، وما إلى ذلك من مشاهِد تؤثث متن القصة السردي والبصري.

لا يمكن الحديث عن شخصيات الفيلم الرئيسة من دون إدراج الناصرة ، فهي لم تحضر كخلفية لقصة الفيلم، وإنما كشخصية أساسية ببيوتها، وأرصفتها، وشوارعها، وأزقتها الضيقة. ومن الطبيعي أن ينتقدها الابن شادي، المهندس المعماري القادم من روما ذلك لأنه تشرّب بالثقافة الإيطالية، وتطبّع بالقيم الأوروبية ولم يعد يأبه بفكرة الفتاة التي تعيش مع صديقها قبل مرحلة الزواج بحجة أن الدنيا قد تغيّرت، وأن القيم القديمة قد اهتزت أمام مفاهيم العولمة الجديدة. وإذا كان الابن يعيش مع ندى في منزل منفصل فلن يجد غضاضة في أن تعيش فتاة فلسطينية مع حبيبها. الانتقادات لا تقتصر على منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية وإنما تتعداهما إلى انتقاد مظاهر التخلّف في المدينة مثل تكدّس النفايات، والزحمة المرورية، وشجار المواطنين في الأماكن العامة، وسواها من الظواهر السلبية التي تعجّ بها المدن الفلسطينية.

صراع الأجيال

لا شك في أن ثيمة الفيلم الأساسية حسّاسة، وذكيّة، وجريئة فهي لا تقتصر على العلاقة بين الأب التقليدي في كل شيء بدءًا من مظهره الخارجي، مرورًا بالأكلات والمشروبات الفلسطينية التي يحبّها، وانتهاءً بذائقته الغنائية والموسيقية فهو لا يحب إلاّ المغني الشعبي فوزي بلّوط وسوف يدعوه لإحياء حفل زفاف ابنته. أما الابن شادي فهو شاب معاصر في سلوكه، وطريقة تفكيره، وحريته التي يعتبرها البعض منفلتة حين يرون بنطاله الأحمر، وقميصه الزهري، وشعره الطويل المُثبت في مؤخرة رأسه على هيأة كعكة، وأكثر من ذلك فهو لا يأبه بالمثليين أو الفتيات المنفتحات اللواتي يعشن مع عشاقهن على وفق النمط الأوروبي الذي يندرج في إطار الحريات العامة التي يحميها القانون. لم يعتد شادي على اللف والدوران، فهو صريح ومباشر في كل شيء، ويسمّي الأشياء بمسمياتها، أما الأب فلا يجد ضيرًا في الكذب كما حصل في أثناء زيارتهما لمنزل "أبو رامي" الذي سبق وأن أخبره ذات مرة بأن ولده شادي يدرس الطب في أميركا، بينما هو مهندس معماري في إيطاليا. وحينما وضعه "أبو رامي" في موقف محرج اعترف الأب بأنّ ولده يحب التغيير والتنويع، فقد بدأ بدراسة الطب لكنه سرعان ما غيّر اختصاصه إلى الهندسة المعمارية. مثل هذه الأكاذيب "الصغيرة أو البيضاء" قد تكررت غير مرة على مدار الفيلم وكانت تثير استغراب ابنه على الدوام فبينما كان الأب في مواجهة محل دمى أعياد الميلاد كان يتحدث لأبي ندى في روما عن شجرة برتقال، وجبال فلسطينية تغطّيها الأشجار الخضراء بينما لم تكن أمامه سوى بيوت خربة تتخللها شجيرات مهجورة.

لم يكن هروب أم شادي مع عشيقها إلى أميركا هي الانعطافة الوحيدة في الفيلم، وإنما هناك شخصية روني آفي "الشاباك" الذي يتجسس على المعلمين، وينقل أخبارهم إلى الوزارة، وأنه كان السبب في استدعاء شادي إلى التحقيق وما إلى ذلك من أحداث مؤرقة. ومع ذلك فإن الأب يريد دعوته لحفل الزفاف، بينما يعارض الابن هذه الفكرة جملة وتفصيلا.

لقطة جريئة

ينطوي هذا الفيلم على مفاجآت ضرورية تكسر إيقاعه كلما أوغل في السياسة، والاحتلال، والقضايا الاجتماعية الحسّاسة، فحينما يسلّم نورا "ربيكا إزميرالدا تلحمي" بطاقة الدعوة تغريه بالدخول إلى المنزل وتحاول أن تعانقه لكنه يسقط على الأريكة بعد أن طبعت قبلة خاطفة على شفته السفلى ولوّنتها بأحمر الشفاه الذي سيثير تساؤل والده واستغرابه. يزدان سياق الفيلم بمواقف طريفة أخرى، فالأب كانت له علاقة قديمة بجورجيت "زهيرة صباغ" تعود إلى أيام الدراسة، وقبل أن يغادرها تُذكِّره بأنه صار يعرف عنوان البيت ويمكنه أن يعيد طبق الحلوى الفارغ الذي منحته إيّاه مملوءًا. كما كان الأب يلفت عناية ولده إلى العديد من الفتيات الجميلات اللواتي رآهنّ علّه يختار واحدة منهن ويتخلى عن ندى التي يعتقد أنها لا تنتمي إلى البيئة الفلسطينية القريبة إلى نفسه.

لا تنحصر الشجارات بين الابن وأبيه فقط، وإنما تمتد إلى صاحب المطبعة الذي صمم بطاقات الدعوة وأخطأ فيها، ولابدّ أن يتحمل مسؤولية تصحيحها، وإعادة طبعها من جديد، وحينما يتفاقم الأمر يتحلّقون حول طاولة مستديرة ويشرعون بتصحيح البطاقات المتبقية لديهم لأنهم قد وزّعوا قسمًا منها إلى المدعوّين.

الإحساس بالعزلة

على الرغم من إدعّاء المخرجة آن ماري جاسر بأنّها لا تُحبّذ توجيه الرسائل إلى متلّقيها لكنها تتسرّب من دون إرادتها، فالسياسة، ومواطنوا، الداخل والخارج، وفلسطينيو الـ 48، والتعايش مع المحتل الإسرائيلي، والتمييز بين اليهودي والصهيوني وما إلى ذلك من أفكار وقضايا ملحّة تجد طريقها إلى نسيج الفيلم الذي لا يستطيع أن يتفاداها وهي التي تفضي بالأب إلى ذروة توتره حين يرى الابن في "روني" مُخبرًا سريًا يتجسّس على المعلّمين والتلاميذ الفلسطينيين، بينما يراه الأب صديقًا حميمًا يؤازره لأنه يريد أن يصبح مديرًا للمدرسة ذات يوم. ومن بؤرة التوتر بين الابن وأبيه تنبثق الثيمة الرئيسة التي تتكئ عليها قصة الفيلم ويمكن اختصارها بالجُمل الآتية:"يمكن أنا مش بطل، بس أنا كان عندي عيلة أرّبيها، وأعلّمها، وأطعميها. أنت تعرف أنا شو عملتْ علشان أنت تعيش مرتاح؟" فيما يرى الابن عكس ذلك تمامًا، فهو غير راضٍ بالحياة في ظل الاحتلال الذي يفرض على الفلسطيني أن يأخذ إذنًا حتى حينما يتنفس! ولذلك بدا الابن أكثر مقاومة للمحتل حتى من خلال نظراته الشزرة للجنود الإسرائيليين الذين جاءوا إلى مطعم الفول والفلافل الذي صادف أن يأكلان فيه، فهم على حد قول الأب "يحبّون الفلافل التي يصنعها الفلسطينيون". يفترق الابن عن أبيه إثر هذه المشّادة الكلامية وقبل أن يصل إلى البيت يناديه صديق قديم ويسرد له محبة والده الكبيرة فتغرورق عيناه بالدموع. وفي الوقت ذاته تجيش مشاعر الأب الذي يفكر بابنه الذي سيغادر قبل أعياد الميلاد، وابنته التي ستتزوج من خطيبها فراس في غضون شهر تقريبًا بينما يتقوقع الأب في خانق عزلته الذاتية رافضًا مُداعبات جورجيت طنّاس وإغراتها العاطفية الصريحة.

تتبدد خشية الجميع حين يخبر شادي أباه بأن زوج أمه قد فارق الحياة، وأن العقبة الوحيدة التي كانت تحُول دون حضور الأم قد زالت، وأن اشتراطات العرس بالنسبة لأمل قد أخذت طريقها إلى الاكتمال.

على الرغم من أهمية السيناريو ورهافة الرؤية الإخراجية لآن ماري جاسر إلاّ أن أداء غالبية الممثلين كان سببًا آخر لنجاح هذا الفيلم، فقد حصلت المخرجة على جائزة أفضل فيلم في مهرجان دبي السينمائي الدولي، فيما تناصف البكريان جائزة أفضل ممثل، أما الأداء المتفرِّد للشخصيات المؤازرة فقد كان لافتًا للنظر لأنهم ممثلون محترفون وأصحاب خبرات طويلة مثل مكرم خوري، وطارق قبطي، ورنا علم الدين التي كانت الأخفّ ظلاً بين الطاقم النسوي للتمثيل.

جائزة الأوسكار

أنجزت آن ماري جاسر خلال رحلتها الفنية 12 فيلمًا بينها ثلاثة أفلام روائية طويلة وهي "ملحُ هذا البحر" 2008، و "لمّا شفتك" 2013، و "واجب" 2017 ورُشحت جميعها لجوائز الأوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية. كما أنجزت تسعة أفلام وثائقية وقصيرة نالت عنها العديد من الجوائز المحلية والعالمية. وليس من المستغرب أن تحصد الأوسكار ذات يوم لأنها تتمتع برؤية إخراجية مرهفة، وتمتلك خبرة واسعة في إدارة الممثلين، والأهم من ذلك كله أن أفلامها تحقق المتعة الفنية، وتُثير الأسئلة لدى المتلقين، وتوفر لهم فرصة نادرة للمرح، والاسترخاء، وإعمال الذهن.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم