قراءات نقدية

ضوء على نصوص

رحيم الغرباويالشاعرة الحالمة والعاشقة لمياء الطائي التي قرأنا نصوصها في مجموعتها الشعرية الأولى (على قيد حب)، نقرؤها هنا، وكأنَّ امتداد الحياة الذي عزفت به  على أوتار سطورها قد مثَّل نشيداً لكلِّ من عشق الحياة بأناقة العاشقين وبعذريتهم الشفيفة؛ ذلك ما هجست به في شاعرتنا في هذه المجموعة المترفة بالصور والغنية بمعاني الشعور الماتع .

نرى شاعرتنا تكتب للحبيب المتخيَّل بمشاعرِ الوامقة التي تبحث من خلاله عن وطنٍ يأويها، وملاذٍ تستفتي به قلبها، وتستبشره بترف مراميها، وجدنا ذلك الاحساس مبثوثاً في نصوصها التي تضمَّنت عناوين متنوعة، أخذت مدياتها الدلالية في فضاءات هذه المجموعة .

ولعل من أهم ما رأينا في نصوصها أنَّها ترقى إلى أبعاد شاسعة من النقاء التعبيري الذي تؤطره للمتلقي في أحيانٍ رموزٌ مقدَّسة مستوحاة من القصص القرآني، وبعضها من رموز التاريخ، وهناك رموز الطبيعة، وأنَّ أغلب تلك الرموز تلوِّح إلى معاني الشوق والانتظار؛ لتؤسس لنا الشاعرة بذلك سمفونية العشق الجميل بأسلوب يطرب الروح بشدوه؛ ويطيِّب فنن الجروح من زاكي الانتظار وسلوة الاحتضار التي تتوق إليها وهي في حضرة الحبيب، فهي تترنم على نقوش نمارقها غنيَّة الأمان، ومعاني ألفاظها الطرية الألحان، إذ نراها تقول في قصيدتها (ابن الجُبّ):

ليتَ الخيالَ طوعُ أمري؛

لتكونَ يوسفَ قلبي

وأكونَ زليخةَ المُذنبة بعشقي

سترَ الزمانُ ألفَ قميصٍ

ومازال قميصُك يفضحُ أمري

انتظاري لعناقِ عطرِكَ لا ينتهي !

وعطرك وطن لعاشقةٍ متيَّمة مثلي،

تطالِبُني بضبطِ النفسِ

ولا أملكُ غيرَ الصمتِ من نفسي .

ففي جمالِكَ اللامتناهي

تسجدُ لحظاتي، ويُصلِّي لك قلبي !

راودتُك عن نفسي خفيةً

فاستعصمتَ بالله ،

والله أوَّل الشاهدين على جنوني بك، وتشرُّدي !

فهي تجعل من حبيبها المتخيَّل شبيهاً لنبي الله يوسف (عليه السلام)؛ لتبيِّن عشقها الكبير للحبيب؛ متقنِّعة بزليخة التي هامت حدَّ الإجحاف بنفسها؛ لتنال يوسفها الذي تستعذب..، فكأنَّها تسرد لنا حادثة عشق زليخة التي حكاها لنا قرآننا المجيد، لكنها تعرض لنا زاوية تشبِّهها بعمق حبّ زليخا ليوسف، وهي تعيش أمانيها، مستعملة الألفاظ : (ليت، الخيال)، ثم تتشوق بألفاظ (زليخة، يفضح، اللامتناهي، راودتك، استعصم، جنوني، تشردي) وجميعها تمثل مهيمنات أسلوبية دالة على عمق الحبِّ الذي بات يدهمها كلِّ حين .

أما قصيدة (أبو الهول) التي تقول فيها:

تستيقظُ

القصيدةُ من سباتِها،

يستيقظُ أبو الهول من صمتهِ

كلَّما مرَّتْ شهوةُ رحيلِك في جسدي !

من أنت أيُّها الرجل !

على حدودِ سماواتِ الفرح

كتبتُ أسمَك، فرَقَصتْ على أنغامهِ

نجومُ الليل،

وتبعثرتْ على نبضاتهِ

أبجديَّةُ الكون !

أتاني الحبُّ

وجعلني مؤمنةً به،

وأوصاني بالشوقِ

ما دمتُ أذوبُ في ذكراه .

فأبو الهول هو واحد من رموز مصر الفرعونية الذي يمثل قوة وصلابة حضاراتها إزاء المحن، لكن شاعرتنا وظَّفته في نصها؛ لتومئ إلى مدى أثر الحبيب في نفسها واشتياقها له، كما أنَّها استعملت في النص رموزاً بعيدة المنال تمكَّنت من خلال  الصور الاستعارية أن تستوحي معانيها الدالة على عظمة وقع هذا الرجل المُتخيَّل على روحها، ومن ذلك (سماوات الفرح، رقصت نجوم الليل، أبجدية الكون )، وجميعها تدل على السمو والرفعة وحجم التأثير، لما هو كوني؛ مما يمنح النص مبالغةً في التوصيف .

أما في نصِّها (لحظات تشرّد) التي تقول فيه:

لأنَّ حُبَّكَ لا يتطرَّقُ إليه العقلُ،

همستُ لكَ بجنونٍ مُطلقٍ .

ربَّما لن أكونَ امرأةً دونك

فأنا أعاقرُ لحظاتِ التشرُّد

من غروبِ الشمسِ حتى مطلعِ الفجر !

تعال؛ لنوقفَ حصَّتنا من الحزن .

الشتاءُ قادمٌ وأنفاسي ما زالت بِكراً،

روحي ثريَّةٌ بذكرياتِك

فأنا لم أنسَ !

لم أخنْ !

في حضرةِ غيابِك .

نجدها من أوَّل سطرٍ تضع الأسباب؛ لتجعل لها عذراً لمدى حبِّها الذي تعيشه بجنون، مستعملةً ما يدل على الزمان (لحظات، غروب، مطلع، الشتاء، بكراً)؛ لتمنح النص فاعليته على استيعاب الصور المتجلِّية فيه، وهي تنازع شدَّة تشردها من عظمة ما ينتابها من مشاعر الحزن التي تكاد تفتك بها حد التشرد منه، وما ينتابها من غبطة الشوق إليه، رافضة الشتاء الذي يبدد المشاعر، ويضعفها، مومِئةً إلى الصقيع فيه حيث يصير كل شيء إزاءه غير فاعل بسبب تجمده .

ويبدو أنَّ الشاعرة لمياء الطائي تعرِّج في المقدس الكوني؛ لتنال رضى وجدانها؛ حين تعبِّر عن حبيبٍ مثالي ترفد منه اشتياقاتها؛ فتعيش حالة أملٍ؛ لاستكمال مشوارها الأدبي، وهي تحاول أن تجعل من ذلك الحبيب سبباً يورق تطلعاتها حبَّاً للإنسانية جمعاء .

 

بقلم د. رحيم عبد علي الغرباوي

 

في المثقف اليوم