قراءات نقدية

التناص.. قراءة في رواية: نزوح مريم لمحمود حسن الجاسم

استورد الأدب العربي المصطلح الغربي (التناص) وادخله في صياغة نسيجه الكتابي، والأبداعي اغلبه.

 والتناص: هو ولادة نص جديد من نص قديم.

 أي أنه يستلهم فكرة قديمة، ويطبق عليها التوظيفات اللغوية والتقانات الأدبية الحديثة، لينتج معياراً ثقافياً يواكب العصر الأدبي وتطوراته.

 ولم يكتف التناص على فن ادبي واحد، أنما تسلل ليصيب النتاج الأبداعي باكمله.

ورواية (نزوح مريم) حققت مفهوم التناص منذ الأشارة الأولى للعنوان، الذي حقق توافقاً مع قصة (مريم ابنة عمران) والدة عيسى (عليه السلام)، وقد خص (القرآن الكريم) هذه القصة بسورة كاملة شرحت قصة مريم العذراء.

ولم تكتفِ بالسورة فقط، انما عرضاً لقضيتها في ايات عدّة.

 فكما أن (مريم) في النص القرآني الثابت قد نزحت من اهلها واتخذت مكاناً بعيداً،  نجد تطبيق الفكرة ذاتها داخل المتن السردي، فـ (مريم ووالدتها سارة) اتخذتا ايضاً مكاناً خارج بلدهم الاصلي (سوريا)، غاية في الحفاظ على ذاتهم من خطر نتاجات الربيع العربي ومخلفاته السلبية، التي ابتعدت عن الايجابية في جوانبها اغلبها.

من هذه المادة المجانية انطلق الاكاديمي والكاتب (محمود حسن الجاسم)بربط احداث مخيلته مع القصة الأم-مريم العذراء-واحداث الربيع العربي، ومانالت منه (منطقة الرقة) وباقي دول العالم العربي، إذ تحول من ربيع عربي الى جحيم عربي.

 الطفلة مريم داخل الرواية تنتمي الى الأب المسلم (هاشم) والأم المسيحية (سارة)، والجدة (خديجة) والدة (هاشم)، وهي شخصيات اساسية اعتمدت الرواية عن طريقهم على نسج الأحداث والفضاء الروائي، واسست عن طريقهم مقصدية الكاتب في ايصال فكرة الربيع الذي انتقل الى جحيم .

 وهي مسميات تحمل ابعاد قصدية في توظيفها، غايتها تكمن في ابعاد استعمالية الأسلام السياسي الذي بات يتخذ من المسميات غايات ذاتية لزرع الفتنة الطائفيةومخلفاتها المميتة.

نتلمس الفلكلور الشعبي في صياغة الكثير من صياغة المتن السردي.

وقد سيطر الشجن على بنية المتن السردي اغلبه، خاصة بعد أن انتقلت الجدة(خديجة )الى جوار خالقها، حزنناً على ولدها (هاشم)الذي اختفى في ظروف غامضة، واخيه(بشير)البعثي الذي اقتيد من عقر داره ولم يعد له اثر يذكر.

" –أين بشير، يابنت الكلب؟

-أنا زوجة هاشم، وبشير من البارحة مارجع .أقسم بالرب مارجع!"

 نلحظ سيطرة اللهجة العامية على بنية صياغة النسيج السردي، وهي طريقة وظفها الكاتب على الرواية اغلبها، مع استعماله للألفاظ المباشرة التي تبتعد عن سجل الفصاحة، وتقترب من تسميات الحيوانات (الكلب)، وأجد القصدية في مثل هذه الألفاظ، بغية ايصال الفكرة ذاتها بلغتها ومشهدها المعاش، وليسجل المتن السردي الوقائع للتاريخ بتجلياته " ملثم يصرخ الله اكبر، والعجوز تتلوى وتستغيث وتتوسل. تريد هاشم .يدفعونها بأرجلهم. وبضربة بالبارودة على رأسها من رجل ملثم همدت العجوز تئن.بدا لي أنها غابت عن الوعي، أو ربما ماتت"، وهذا هو حال الأمهات الثكلى على غياب ابنائهن ضمن محيط مايعرف بثورة الربيع العربي وغيره، وهو حال امهاتنا العراقيات ايضاً.

 تركت سارة وحيدة مع ابنتهامريم، محاصرة بين الفقدان والعدم، الشجن والرعب، الماضي والحاضر، الغائب والمنتظر)، الأمل بأنتظر يوم مخيف، زاد شجنها بعد وفاة الجدة المنكوبة (خديجة).

الرواية واكبت تطور العصر الذي نعيشه واستغلت التطور التكنلوجي الذي كان السبب الرئيس في تشجيع سارة على السفر عن طريق صديقتها (رنا) التي استغلت هذه الخدمة الأجتماعية وبقت على تواصل معها عن طريق رسائل الفيسبوك، وتدوين رحلة المهاجرين عبر البحار، والمانيا، والطرائق التي وظفوها لغاية انقاذ الذات.

 دونت الرواية الهجرة السرية لكثير من الناس، وعذاب البحر والقوارب، وعذاب العزلة والوحدة والتعرض الذي نالته سارة مع طفلتها، وكمية الشجن الذي اصابهم" رٌمينا في بيت مهجور .مكان يشبه القبو .غرفة ضيقة معتمة رطبة ليس فيها سوى حمام كريه. حشرونا في غرفة لدى امرأة مزعجة، وكأننا قطاع طرق نختبىء من جريمة ارتكبناها!.. معنا امرأة عراقية من الموصل، ...تبدو المرأة مفجوعة، فهي طيلة الليل تدعو لمخطوفات، ومغتصبات، وتبكي!"، "الغربة لئيمة وناعمة".

 لتقرر كتابة واقعها مع ابنتها بـ (نزوح مريم)، " يامريم لك بيتان واحد في الرقة وآخر في محردة"، ليبقى سيرة ذاتية تدركها مريم عند النضوج" أصحو فأتابع الكتابة، الى أن أرحل من جديد لأعيش في عالمي بين الغيبوبة واليقظة"، وعاد هاشم بعد ان خلصت الأم من الكتابة ولتقطن مثواها الأخير"- سارة .ارفعي رأسك.لاتذهبي هذا أنا هاشم " .

 أضيف، أن الكثير من النتاجات الأدبية والسردية خاصة، قد أستغلت سلسلة الظروف الأجتماعية وعمدت الى تدوينها، بكتابات مفهومة وواضحة بعيدة عن الأنغلاق، وتأتي لترتبط بالماضي تارةً عن طريق التناص، وتارةً اخرى عن طريق الترميز، وهي قصدية تنبع من ذات الكاتب وقلمه؛ لأننا شعوب تعيش في داخل تاريخها الشفاهي، الذي لم يرث لها غير النكبات والأكاذيب في قصصه أغلبها، وليصدق التاريخ المدون الأن .

 

بقلم: وسن مرشد

 

في المثقف اليوم