قراءات نقدية

تحليل قصيدة: في الليل لبدر شاكر السياب لطلاب الباكالوريا اداب وعلوم انسانية

قراءة العنوان باعتباره عتبة عليا: يكشف عنوان القصيدة عن فاعلية شبه الجملة "في الليل" وهو خبر للقصيدة التي تشكل مبتدأً، أي وضع السياب الخاص، ولذا فالقصيدة تتحدث عن المرض، وعن العزلة، وعن الغرفة، وعن الستائر المسدلة، وعن الأصدقاء الغائبين، وعن الطريق الموحشة، وعن الأم، وعن كفنها ولحدها، وعن عزرائيل وما تبع ذلك، وكلها حالات تحدث في الماضي، في حين أن القصيدة مستقبلية وموشاة بسوف، وكأنها المبتدأ المتأخر لما سوف يجرى.

لو أعدنا قراءة القصيدة، نجد عنوانها موجود في كل بيت من أبياتها تقريباً، وبصيغ ودلالات مختلفة. فالغرفة الموصدة، ليل، والصمت العميق، ليل، والستائر المسدلة ليل، والتنصت ليل..الخ من أبيات القصيدة، مما يعني أن مفردة الليل المولدة تغطي سياقات النص كلها.لكن البنية التي ولدها الليل تأخذ صيغاً شعرية مختلفة، فهي ليست ظلمة بل موت ووحشة ووهم، ومقبرة، وزاد الموتى، وكفن مهترئ، وغياب للشمس، ودروب للوهم، هذه الصيغ وغيرها مشحونة بدلالات الليل وفلسفته، فأعطت للقصيدة مساحات من التأمل.

يكشف العنوان عن بنية أخرى، فهو معرفة وليس نكرة، وهذا يدل على أن مرض السياب علني ومعلوم، وأن صيغ الليل التي أحاطت بالقصيدة، هي من نتاج هذه العلنية. فلو كانت القصيدة تتحدث عن مجهول، لتحولت الصيغ السردية من الذات إلى الآخر، لكن ما يجعل القصيدة حية ومقترنة بالسياب، هو أن كل مفردة منها تحيلك إلى جزئية من حياته.

ينفتح العنوان على النص فنجده يتألف من 34 بيتاً شعريا ً، تتناوب على سردها ثلاث شخصيات هي: الشاعر، والأم، والراوي. وهو ما يشكل بنية درامية ثلاثية مكتملة العناصر. ويدل "في الليل" على بنية زمكانية هي الظلمة مصحوبة بغرفة موصدة وقبر. والظلمة بمعناها الأوسع هي العماء. نحن إذن امام ثلاثة شخوص يُستحضرون من أزمنة مختلفة، وفي أمكنة مختلفة، ليروون لنا حدثا درامياً. وثمة جمهور يوجه له الخطاب شعرا وليس حكاية وهو ما يقربنا من الأسطورة.وثمة خطة يعمل على تنفيذها القراء لترسيم مكان الأحداث، حيث تتباين درجات الضوء والظلمة تبعاً لأجواء وشحنات القصيدة. فتصبح رؤيتها حافزا على قرائن لصور مختلفة تتراى أمام أبصارنا. وفي مسرح الغرفة الموصدة الأبواب والشبابيك، ستائر، وأثواب سود، وفزاعات، وأكفان، وماء يجري في الأعماق، ونبات الخرّوب.

استكشاف المتن الشعري

هذه الترسيمة المكانية، تؤلف ثيمة التناقض بين مستويات القصيدة لصناعة مشهد واقعي لمسرح يكون "الوهم" فيه على طريقة بيراندللو هو الشكل الفني. والمسرحية التي تتشكل امامنا تتألف من أربع لوحات:

لوحة أولى: تلك التي يتحدث الشاعر فيها عن غرفته الموصدة وما يتبعها من أوصاف.

لوحة ثانية: توصف لنا الطريق واللحد وغياب الأصدقاء.

لوحة ثالثة: حديث أمه وهي في لحدها.

ولوحة رابعة: هي العودة إلى الغرفة بعد أن لبس ثيابه في الوهم وخرج إليها.

هذه الثيمة المكانية لتوزيع القصيدة تسهل لنا عملية تركيب مشاهدها، إننا في مسرح واقعي / خيالي ولكن أدواته عرائس، وليست شخصيات حقيقية. فالكل موتى حتى الأصدقاء الغائبين. أما الجمهور الذي يشاهد العرض فهو جمهورالموتى، الذين سيشاركون في رسم المتن المكاني الكوني لعالم الأموات. ثمة خيوط ممتدة من الغرفة الموصدة إلى الخارج، حيث المقبرة هي البؤرة المكانية للقصيدة، منها تنطلق وإليها تعود الأفعال. أحد هذه الخيوط يعلم لنا الطريق الموصل بين الغرفة والمقبرة."ربّ طريق" والآخر يعلم لنا الفزاعات التي تتوسد الظلمة وقد وضعت عليها ملابس الشاعر المهترئة." وأثوابي كمفزِّعِ بستانٍ، سودُ " والثالث يعلم لنا الستائرالمسدلة التي تمنع الضوء الخارجي من الدخول، " وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ" .. والرابع يدخل إلى اللحد، حيث الأم ناهضة من نومها، "ألا ترمي أثوابَكَ ؟ والبَسْ من كَفَني" والخيط الخامس يشكل لنا عزرائيل وهو يرف الكفن الممزق، "عزريل الحائكُ، إذْ يبلى ، يرفوهُ

. تعالَ ونمْ عندي " والخيط السادس خيط الوهم الذي يخرج الشاعر فيه من غرفته قاصداً المقبرة حيث يلقى الأم فيها، " سَآخِذُ دربي في الوهمِ" والخيط السابع يجسد لنا نبات الخروب وجريان الماء الآتي من أعماق ظلمة الكون، "خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟ والماءُ ستنهلُهُ نَهلا من صدرِ الأرضِ " والخيط الثامن هو يوم صياح الديك منذراً بيوم الحشر، حيث تنهض الموتى من أعماق العالم السفلي ناشدة الأمل الذي قصدته عشتار في رحلتها بحثاً عن تموز كي توقظ منه كل إخضرار الأرض وربيعها، " لهُتافِ الديكِ إذا دوّى في الآفاقِِ" والخيط التاسع هو الخروب الذي لا ينبت إلا في المقابر كما نعرف نحن أبناء الجنوب وهناك عدد آخر من الخيوط التي يحركها الشاعر وهو على سرير المرض في إحدى مستشفيات لندن، حيث يختلط الوهم بالحقيقة، الصحو بالغياب، الموت بالحياة، المدينة بالمطر، اللحد بالكفن، الغرفة الموصدة بالقبر، ...الخ هذه الخيوط اللاعبة في مسرح الأشباح المكانية تؤلف قصيدة " في الليل" التي أغلقت أبوابها الخارجية لتفتحها على العالم السفلي.

عبارات الإستهلال

يستهل السياب قصيدته بـ ببيت غامض

الغرفة موصدة الباب

الكلمات الثلاث التي تضمنها الإستهلال هيمنت على كل صور القصيدة:

كلمة الغرفة، نجدها ممثلة بـ: الأعماق، الموت، الصمت، المقبرة، صدرالأرض، اللحد، النهر، وكلها مقفلة ولا أمل بالعثور على مفتاح لها.

وكلمة الوصد، تتمثل في: الصمت، التنصت، الترصد، الهمس، اللبس، النهل، الرمي، الوهم، وغيرها. وهي أفعال متكورة، تولد نفسها بنفسها، وتدور في فلك ضيق من الحركة. لذا فهي باطنية.

أما الباب فيتمثل بـ : الشباك المغلق، الطريق المسدود، البستان المهجر، والصديق الذي لن يأتي، الآفاق المستحيلة، وغيرها.وكلها صور مغلقة أيضاً.

يتكرر الإستهلال مرة ثانية في البيت الثاني عشر، وهذه المرة سيتحث فيه عن القبر. ويعني ذلك أن فعل الإستهلال شمل غرفة السياب وهي في الأعلى، ويشمل الآن قبر الأم وهي في الأسفل، فيصبح الإستهلال مهيمناً على قسمي القصيدة.

ثيمة القفل المغلق، وإستحالة الحصول مفتاح له، هي الصورة المركزية التي تحرك كل الأفعال ولو أعدنا النظر ثانية في مفردات الإستهلال ومشتقاتها سنجدها مقفلة.فالقسم الأول من القصيدة الخاص بالسياب نجد القفل على هيأة : الشباك وقد أسدلت ستائرة، والطرق وقد قطعت، والصديق وقد آفل، ، ولم يكف عند هذا الحد، فقد سحب القفل تأثيره، على الثياب السود، والليل الموحش، والصمت العميق، وكلها مفردات العالم العلوي. ثم يكرر ثيمة القفل ثانية فيشمل القسم الثاني من القصيدة وينزل به هذه المرة إلى قبرالأم ولحدها وهنا تحاول الأم إنقاذ ابنها أملا في أن تأتيه بالمفتاح: عزرائيل الذي سيرف الكفن، واللحد الذي سيمتلئ بالزاد وبالماء وبالخروب، والفراش الذي سيكون لحافه، وبالأمل للخلاص من الموت بيوم الحشر.لكن لا أمل بالحصول على أي مفتاح للنجاة.فنجد الوهم يلحم القسمين في البيتين الأخرين من القصيدة:

سَآخِذُ دربي في الوهمِ

وأسيرُ فتلقاني أُمّي.

 

بلال الدواح من المغرب

 

 

في المثقف اليوم