قراءات نقدية

الحبكة في الدراما

بلغت المسرحية في اليونان درجات عالية من الرقي على يد شعراء الإغريق العظماء (اسخيلوس، وسوفوكلس، ويوربيدس، وقد وضع (ارسطو) في كتابه (فن الشعر) تعريفاً للتراجيديا، وجود عناصرها الأساسية، فضلاً عن دراسته الأنواع الشعرية، حيث قام بدراسة وتحليل المنجز الإبداعي لأولئك الشعراء وحلل مستخلصاً منه الأسس النقدية التي أصبحت فيما بعد قواعد منهجية يتبعها نقاد الأدب والدارسون .

وانطلاقاً من تعرف ارسطو للمأساة على أنها محاكاة لفعل جاد تام في ذاته، وله طول معلوم في لغة مشفوعة بكل أنواع التعريف الفني وتتم المحاكاة في شكل درامي لا في شكل سردي . بأحداثٍ تثير الشفقة والخوف، وبذلك يحدق التطهير ويشير هنا التعريف إلى العناصر التي تتكون منها المأساة، وهي كما يأتي :ـ

(1. الحبكة 2. الشخصية 3. اللغة 4. الفكرة 5. المرئيات المسرحية 6. الغناء)

ومشكلة هذه العناصر في مجموعها وحدة متكاملة مترابطة لا تكاد تنفك عن بعضها البعض فلا وجود لأحدها بمعزل عن الآخر، وقد أولى ارسطو العنصر الأول وهو الحبكة أهمية خاصة وهي تعرف ببناء الأحداث أو أنها التنظيم العام لأجزاء المسرحية أي ترتيبها إلى بعضها في أسلوب ما،لذلك فأن براعة الكاتب تتمثل في عملية بناء الإحداث (الحبكة وإيجاد العلاقات بين كل هذه العناصر فإذا اعتبرت الحبكة التنظيم الكلي والكامل الذي يحاول الكاتب تحقيقه، فأن العناصر الخمس الأخرى يمكن اعتبارها كأجزاء هذا الكل ومن جهة أخرى، إذا كانت الحبكة تعتبر هدفاً يجاهد الكاتب في الوصول إليه في بناءه المسرحي فأن الأجزاء الخمسة الأخرى يمكن اعتبارها الوسائل لتحقيق ذاك الهدف ولأجل الوصول إلى هذا الهدف على الكاتب أن يراجع كل صغيرة وكبيرة من خلال وضع تصور تام للأحداث بكل تفاصيلها كأنها حادثة أمام عينة وهذا من شأنه أن يمكن الكاتب من كشف ما يحتمل وقوعه من تناقضات وأن يدخل في أهاب شخصياته المتعددة والمختلفة، كي يستطيع التعبير عن انفعالاتها المتباينة تعبيراً صحيحاً . كما ينبغي عليه ـ قبل كل شيء ـ أن يضع تخطيط للقصة التي ينوي مسرحها . وبعد أن يتيقن من إبعاد هيكلها وملامح شخصياتها، يقوم بتوسيعها وكتابه مشاهدها الملائمة

وللحبكة مداها المحدد الذي لا يمكن التجاوز عليه فليس للكاتب أن يبدأ كيف ما يشاء وينتهي كيف ما يشاء، إذ أن (ارسطو) يرى أن الفعل في الدراما هو فعل تام في ذاته أي الكامل المكتفي بنفسه والكامل هو ما لديه بداية، ووسط، ونهاية، والبداية هي التي لا تعقب بذاتها أي شيء بالضرورة ولكن يعقبها بالضرورة شيء آخر، أو ينتج عنها . و(النهاية) على التخصيص من ذلك نهي التي تعقب بذاتها ـ وبالضرورة ـ شيئاً آخر، أما بالحتمية أو الاحتمال ويمكن لا شيء آخر بالضرورة، كما يعقبه شيء آخر ولكن من البداية والوسط والنهاية أهميته وفائدته فالكاتب لابد أن يعرف من أين يبدأ فمن سمات المسرحية وهذا ما يميزها عن الملحمة هو أنها تبدأ من حيث لحظة الأزمة فليس ثمة شروحات أو مقدمات أو سرد عن خلفيات الحدث، وأن هذا الترتيب للبداية والوسط والنهاية أطلق عليه أسم خط البناء الدرامي أو (الخط الدرامي) وأن التطور في هذا الخط ينشأ عن تغيرات في التوازن بين الإرادة الإنسانية ومصيرها المحتوم، أما الخط الدرامي نفسه فيمكن تلخيصه في الخطوات التالية : أ. المقدمة ب. فعل يؤدي على التصاعد ج. الذروة د. فعل يؤدي إلى تخفيف التصاعد هـ. الحل ويرى ارسطو أن العلاقة بين البداية والنهاية علاقة جدلية تحدد الصفة النوعية للدراما من حيث كونها مأساة أم ملهاة، واستناداً إلى طبيعة البداية وطبيعة النهاية يمكن الحكم على الحبكة من حيث كونها حبكة محكمة أم غير ذلك .

ويقسم ارسطو الحبكة إلى نوعين بسيطة ومعقده ويأتي هذا التقسيم على أساس مبدأين إذا ما حوت عليها المسرحية سميت بالمعقدة أو المركبة وهذان المبدآن هما التحول، والتعرف أو(الاكتشاف) . والتحول كما يرى ارسطو هو تغيير مجرى الفعل إلى غير اتجاهه .. وفق قاعدة الاحتمال والحتمية . وهو تغير الإحداث أو الموقف من النقيض إلى النقيض وفقاً لقانون الاحتمال والضرورة، وقد يؤدي التحول في المسرحية إلى أن ينقل إنسان من السعادة إلى الشقاء أو العكس .

أما التعرف فيعرفه ارسطو بأنه الانتقال من الجهل إلى المعرفة مما يؤدي إلى المحبة أو الكراهية واستناداً إلى رأي (ارسطو) في تقسيم الحبكة، فلا فرق بين الحبكة البسيطة أو الحبكة المركبة سوى احتواء الثانية على العرف أو التحول . في حين يرى أحد الباحثين غير ذلك إذ أنه يغير الحبكة المركبة أو ما يسمى بالحدث المركب، فهي تلك الحبكة التي يعتمد في تركيبها قصة رئيسية تغنيها قصة فرعية أو أكثر . أي أن الحبكة البسيطة هي تلك الحبكة التي تحوي خطاً رئيسياً واحداً لتطوير الحدث، أما في الحبكة المركبة فهناك خيوط أخرى أو أكثر تسير جنباً إلى جنب مع الخط الرئيس يغذيه ويقوى منه أما الاتفاق أو المعارضة ويتفق الباحث مع هذا الرأي لان تشابك الأحداث وتعدد لحظاته التأريخ يخلق حالة قوية من التوتر والشد والانتباه مما يجعل لحظة التحول أو يتعرف أقوى وأكثر إدهاشا وهذا ما يجعل الحبكة المركبة تحتاج إلى مقدرة فنية كبيرة من جانب الكاتب المسرحي حتى يحافظ على وحدة الحدث بيد أن الحبكة البسيطة لا تقل صعوبة عن الحبكة المركبة، فليس من السهل الإمساك بانتباه المتلقي وشد تركيزه على خط واحد، إذ أن هذا يتطلب مهاره فنية ومقدرة عالية من قبل الكاتب .

وثمة علاقة مترابطة بين الحبكة باعتبارها روح المسرحية والشخصية القائمة بفعل المسرحية، والشخصية أو (الأخلاق) تدل على الجانب الأخلاقي الذي يصدر عن الشخصية ويحدد نوع إرادتها ومقدراتها الفعلية .

وتأتي العلاقة بين الشخصية والحبكة من خلال كون الشخصية المسرحية تتعد خصائصها من خلال الحبكة، وأن الحبكة تتطور مادياً من خلال الشخصية وهذا يستند إلى رأي ارسطو في تعريف المأساة على أنها محاكاة لفعل .. فلا يحاكا الفعل وإنما القائمون بالفعل وهم الشخصيات فلا فعل بدون شخصيات ولا دراما بدون فعل ينمو من خلال تصارع الإرادات لشخوص المسرحية . ويرى الناقد الإنكليزي وليم ارتش : أما الحدث يجب أن يوجد لخدمة الشخصية، لا العكس، لان الشخصية هي المادي الأساسية، ويمكن القول أن الشخصية تصنع الحدث الذي تجسده وتنميه، وتأتي أهمية الشخصية في المسرحية باعتبارها صانعة الحدث فلا حدث بدون شخصية مرسومة رسماً فنياً جيداً ولا ترسم الشخصية الدرامية على أساس علاقتها بالواقع بل على أساس علاقتها بالآخرين في المسرحية، أي على أساس العلاقة الدرامية من خلال ما يعرف بالتفاعل أو التشابه، وهما يشكلان المفارقة التي توجد في أفعاله الشخصيات وعلاقاتها ودوافعها .. وينبغي عند رسم الشخصية الدرامية أن تكون مصورة من الداخل والخارج معاً وأن تكون واضحة متعددة الإبعاد لا أحادية البعد، حيث أن لكل شخصية ثلاثة إبعاد بعد مادي جسماني وآخر اجتماعي متأتي من علاقة الشخصية بالشخصيات الأخرى في الحدث الدرامي وكذلك إبعاد في المجتمع الواقعي، كذلك البعد الوجداني النفسي المتعلق بدوافع الشخصية وطباعها ومشاعرها . ولابد أن تتطور الشخصية تطوراً فنياً متصاعداً .

وهذا يتركز في الشخصية الرئيسية إذا أن الشخصية المركزية التي تسعى وراء هدفها هي التي تدفع بالفعل الدرامي إلى أمام ويحدد لنا ارسطو جملة صفات أو خصائص للشخصية الدرامية وهي :ـ

1- الصلاحية الدرامية .

2- الملائمة أو صدق الدوافع حيث أن ا تفعله مطابق لشخصيتها متماشي مع طبيعة نمطيتها أي أنها تحمل الخصائص العامة لوضعها الوظيفي والطبيعي .

3- مشابهة الواقع إذا تشابه الشخصية المصورة مع الشخصية التقليدية .

4- ثبات الشخصية أي عدم تعرضها للتغيرات المصاحبة لتطور الشخصية .

وعملية رسم الشخصيات ليست بالعملية السهلة فلا بد للكتاب المسرحي أن يكون عارفاً بشخصياته وطباعها .

وأهدافها وطموحاتها، وحتى أمراضها . لكي يتمكن من رسم إبعادها الجسيمة والاجتماعية والنفسية بدقة عالية، وتظهر براعة الكاتب المسرحي حينما نجد أن كل شخصية من شخصياته المسرحية تتصرف بنفسها وتتحدث بلسانها لا بلسان الكاتب نفسه . ولابد للكاتب أن يكون عارفاً بما يريد أن يحمل شخصياته، وبدقة أكثر عارفاً بما تستطيع الشخصية أن تحمل، فإن ما زاد عليها يربكها ويخفي ملامحها، وما نقص عنها يجعلها مبهمة منغلقة . أن الإلمام بدراسة الجانب المادي المتمثل بالكيان الجسماني، يحدد ما من شأنه معرفة كل من (جس الشخصية عمرها، قولها، وزنها، حتى لون الشعر والعيون وأكثر من ذلك العيوب والتأثرات الوراثية، وكل ما له علاقة بسير الحدث وبناء الحبكة، على أن هذه التحديدات تخلق التباين بين الشخصيات, وبما أن الشخصية محصلة البناء المادي المار الذكر مضاف إليه تأثيرات البيئة والمجتمع (مجتمع الحدث المسرحي، فلا بد للكاتب أن يكون على دراية بما للجانب الاجتماعي من أثر في تكوين الشخصية من حيث الطبقة التي تنحدر منها، والعمل والتعلم، والدين والهوايات،والمشاركات السياسية، والمكانة الاجتماعية ولكي يجعل الكاتب شخصياته مقنعة فلا بد من أن يشابهها بالواقع، وهذا ما يسمى (الإيهام بالواقع) الذي تحدث عنه ارسطو) .

 

الدكتور باسم علوان الهاشمي

 

في المثقف اليوم