قراءات نقدية

عودة البلشون.. هتك للأنساق الفكرية

إحدى وعشرون قصة قصيرة جلّلها السواد وغمرتها العتمة وانسحقت شخصياتها بفعل الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي الظالم، كلّ هذا الخراب نتاج أفكار أيدولوجية وأنساق اجتماعية، تمكن القاص عبدالكريم الساعدي في مجموعته القصصية (عودة البلشون) إصدار دار أمل الجديدة/ سوريا – دمشق / 2018 من تمزيق كلّ هذه الأنساق وهتك أسرارها بسخرية تارة وبصرخة مكتومة تارة أخرى، وبفكرة عميقة صادحة في مقابل نقيضها الفكرة النسقية الجامدة، وتبادل ساخر للأدوار والمواقع سواء في خارطة الفكر أو الواقع اليومي، يتّضح كلّ ذلك بقصة واحدة فقط من قصص المجموعة، ولكنّنا ونزولاً عند متطلبات النقد تعرضنا لثلاث قصص منها، وسنكون مشاركين فعليين للقاص في تمزيق وهتك هذه الأنساق الضالة والمضلّلة.

قصة (أيقونة الدفء)

نسق رقم (1) بتصرف: معطف باهظ الثمن ملّ الانتظار في محل فاخر للأزياء "محلّه الحيوي !!" معروضاً للبيع، يتحرّق شوقاً لمنزل مترع بالجمال والثراء؛ ليحتلّ مكاناً في خزانة ملابس مزدحمة ببدلات وقمصان فاخرة لـ (سيد أرستقراطي) وبذلك يكون في "مكانه الطبيعي!!"

نسق رقم (2) بتصرف: سيد المنزل أرستقراطي ذي سحنة مهيبة، فاحش الثراء، مترفع بالدفء والجمال، بدلات وقمصان فاخرة وأربطة عنق زاهية الألوان.

نسق رقم (3) بتصرف: سيدة المنزل امرأة لها نكهة الحلم، يلفّها الغنج، رقيقة، طافحة بالجمال، تشتري المعطف لزوجها.

هتك الأنساق:

مقطع (1) بتصرف: يكشف المعطف أن سيد المنزل يشبه صرصار، يمدّ قرون استشعاره كلّ يوم باحثاً عن ل1ة حقيرة في منزل آخر لمومس رخيصة.

مقطع رقم (2) بتصرف: سيدة المنزل مخدوعة لا تعلم شيئاً عن خيانة زوجها لها، ساذجة تجد في المعطف ما يعوضها عن غياب زوجها المتكرر، ترتديه، تطلق آهة خافتة، يستشعر المعطف دفء جسدها البض، يستحيل صرصاراً يشبه زوجها، يستظلّ بمناطق الإثارة.

مقطع رقم (3) بتصرف: تسدل الستارة على يد خادمة المنزل، تحرق طرف المعطف بمكواة "عقاب إلهي" يرمى خارج المنزل، يتلقفه شحاذ، يجعل منه فراشاً في النهار، وغطاء في الليل " يا للعار" يعرض للبيع بسعر بخس، "مفارقة" يبتاعه سكّير، يبعثرهما انفجار، أشلاء ممزّقة ترمى في مكبّ نفايات، القوارض تنهش ما تبقّى منه.

عصف ذهني:

1- من قال ولماذا أنّ معاطف الفراء، الجمال، الثراء، البدلات الفاخرة، الترف، النساء الجميلات، حكراً على الطبقة الارستقراطية ومجتمعها المخملي !؟ وهل خلق الله الجمال والثراء والدفء وكلّ النعم لهؤلاء "القلة" وحرم "الكثرة" من نعمه!؟ هل الله ظالم!؟

2- من قال أنّ رجال الطبقة الارستقراطية يتمتّعون بالأخلاق الفاضلة، النبيلة، والسلوك الراقي!؟

3- من قال أنّ سيدات المجتمع الارستقراطي راقيات، فضليات، عفيفات، وأنّ بيوت الدعارة "أماكن طبيعية" للمومسات الرخيصات من الطبقة الدنيا!؟

قصة (تحوّل) ص 21

نسق رقم (1) بتصرف: توهّم الأهواري (ضمد) المسكون بعشق الهور، أنّ كلّ هذا السحر، أسراب الأوز، جدائل مويجات الهور، النقوش السومرية، زهو القصب والبردي، بهاء النخل ورائحة الطين، لا يمكن أن تتشكّل من طيور شمالية مهاجرة تأتي من "مدن الثلج والضباب".

نسق رقم (2) بتصرف: الطيور الشمالية القادمة من مدن الثلج والضباب تغذي وهم ضمد بجرعات سنوية. دعوه يحلم، دعوه يتوهم حلمه المستحيل، وهمه مطلوب.

هتك الأنساق

مقطع رقم (1) بتصرف: وهم ضمد تشكّل لا بفعل الطيور المهاجرة القادمة من مدن الثلج والضباب وإنّما بفعل انغماس ضمد في جنوب الوجع وأنين ناياته، أسمال عزلته، وخوفه الذي ورثه عن أبيه، وصمت أمّه وسواد ثيابها.

مقطع رقم (2) بتصرف: حلم ضمد أن يكون طيراً يلحق مع أسراب طيور الشمال، حلم مستحيل، التهميش ولإقصاء والعزلة والفقر المفروض على جنوب الوجع العراقي، يقمع الحلم، مس الجنون مَسَّ عقل ضمد، لا يدري أصار طائراً أم أصبح الطائر ضمداً.

قصة الرفيق ديونيسيس ص59:

نسق رقم (1) بتصرف: "أنت تعلم أنّنا جزء من مشهد لم نختره" جملة قالها بائع الغاز لرفيقه الحمار اختزلت أوجاع "أمة".

نسق رقم (2) بتصرف: "نفر" متخم بالعفونة، ينزّ قيحاً وصديداً، يحسبه المسك والزعفران.

نسق رقم(3) بتصرف: من يجرؤ أن يقول لسلطان الغابة أنّ فمك نتن.

نسق رقم(4) بتصرف: أمة مقهورة استحالت إلى نصفين، عربة خشبية مدولبة  " الغاز فوق ظهورها محمول" وحمار ألهب ظهره سوط جلّاد مخمور حدّ الثمالة.

نسق رقم (5) بتصرف: مجنون السوق كان يعرف قيمة الحمار، يرتبط به بعلاقة حميمة، لكن أغلب المارّة يضحكون عليه بصوت عالٍ.

هتك الأنساق:

مقطع رقم (1) بتصرف: جملة بائع الغاز المغيّب عقله بفعل إدمان الخمر حد الثمالة لخّصت مقولة كبيرة وفلسفة عميقة، ومعاناة عميقة.

مقطع رقم (2) بتصرف: يأبى "نفر" متخم بالثروة والسلطة أن تستقيم أوضاعه "أمة" مقهورة فتنعم بثرواتها، ما دام قادراً على تحويل الأمة عجلة تدور وحمار يسحبها حتى وإن مات الحمار فالعربة لا تتوقف، دائماً هناك حمير وجلاد من بني جلدتهما.

عصف ذهني

أيّها الروائي، أيها القاص، أيّها الشاعر، أيها المسرحي... أيها الإنسان، مزّقوا ما شئتم من أنساق المذلّة والمهانة، اهتكوا أسرار من تمكّن بغفلة من الزمن من وضع "حنديري" على عيون المقهورين؛ كي يبصروا ما يريده هو فقط ولا يبصروا الحقيقة.

عبدالكريم الساعدي مبارك لك منجزك هذا وننتظر المزيد.

 

بقلم: سعد السوداني

 

في المثقف اليوم